يتطرق الدكتور الطيب بوتبقالت في هذه السلسلة من 30 مقالا إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين، و يبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية…
يعتبر القديس فرانسوا الاسيزي(1181م- 1226م) المؤسس الفعلي والأب الروحي لجماعة الفرنسيسكان الكاثوليك. نشأ فرانسوا في أحضان أسرة غنية تنتمي إلى بلدة اسيز الايطالية، ولم يعرف طيلة شبابه سوى الإحباطات تلوى الإحباطات، دخل السجن على إثرها ونتج عن ذلك انهيار صحي لازمه بقية حياته التي لم تتجاوز خمسا وأربعين سنة.
في العشرينات من عمره انطوى فرانسوا على نفسه، ولم يعد يعترف لا بأصدقائه ولا حتى بأبيه. وبدأ أهل بلدته ينعتونه بالمجنون، وكان يرد عليهم كونه رأى في منامه السيد المسيح يأمره: “انطلق يا فرانسوا، رمم بيتي!” وشاع أمره حتى بلغ البابا اينوسون الثالث(1160م-1216م) الذي أقر في سنة 1209م أن مثل هذه الرؤيا لا يمكن إلا أن تفيد المد المسيحي وتعزز انتشاره. وانقلبت نظرة الناس إليه، بحيث أصبح يلعب دور داعية مسيحية تحظى بنوع من الاحترام. وظهرت الطائفة الأولى من أتباعه الذين أطلق عليهم تسمية “الإخوان الضعفاء”، و انصب اهتمام الطائفة على المحتاجين والمصابين بمرض الجدري، كما اهتمت هذه الطائفة بالطبيعة وبالطيور على وجه الخصوص…
أسس فرانسوا دعوته التبشيرية على احترام التعاليم الإنجيلية، و وافق البابا هنوريوس الثالث على اعتبار المذهب الفرنسيسكاني تنظيما مسيحيا مرجعيا. وبعد وفاة فرانسوا بسنتين اتخذت الكنيسة الكاثوليكية قرار الإعلان عن قداسته. كما اتخذ البابا جون بول الثاني(1920-2005) يوم 29 نونبر 1979 قرار اعتبار القديس فرانسوا راعيا يحتدى به في مجال البيئة.
لقد اهتمت جماعة الفرنسيسكان بالتبشير قبل حصولها على اعتراف الكنيسة بها كتنظيم ديني مرجعي. وكانت أنظارها متجهة إلى العالم الإسلامي الذي اعتبرته عالما كافرا يجب إخضاعه لتعاليم الديانة المسيحية. وصاح القديس فرنسوا: «واحسرتاه على طنجة، واحسرتاه على مراكش، بلاد الضلال!». ثم جمع أتباعه وقال لهم:«يا أبنائي الأعزاء، إن الله أمرني أن أرسلكم إلى بلاد الكفار قصد تبليغهم وحثهم على الاعتراف بعقيدته (المسيحية ). حاربوا شريعة محمد وكونوا على استعداد للاستجابة لإرادة المولى». وكان واضحا من ندائه أنه كان يبحث عن أتباع قادرين على الاستشهاد في سبيل التبشير. وفعلا غادر خمسة من أتباعه إيطاليا سنة 1219 متوجهين إلى المغرب مرورا باشبيلية. ولما وصلوا إلى العاصمة الموحدية مراكش بادروا فور وصولهم إلى ممارسة مهامهم التبشيرية. وسرعان ما استاء الناس من تصرفاتهم خاصة عندما بدأوا يستخفون بالإسلام ويتهمون النبي عليه السلام بالكذب والشعوذة. ورفع أمرهم للسلطان الموحدي المستنصر بالله(1197م-1224م) الذي دعاهم إلى العدول عما جاؤوا من أجله وإلى احترام مشاعر المسلين، لكن كل التحذيرات لم تنفع معهم وهكذا تم إعدامهم بمراكش يوم 16 يناير 1220. ولما علم القديس فرانسوا بالحدث، كان رده : «الآن يمكنني القول إنه أصبح لي خمسة إخوة حقيقيين». وقد صادف إعدام هؤلاء الرهبان الخمسة فترة جفاف قاسية دامت خمسة أعوام وألحقت كثيرا من الأضرار بالمغاربة، وهو الشيء الذي اعتبرته الأدبيات الفرنسيسكانية لعنة ربانية نزلت على المغرب بسبب إعدام الرهبان الخمسة. وفي سنة 1227م لقي سبعة رهبان آخرين نفس المصير بمدينة سبتة، ولم يعقب هذا الحدث جفاف بالمغرب …
ورغم كل ذلك يمكن القول إن هؤلاء الرهبان بلغوا مرامهم، لأنهم أصلا جاؤوا إلى المغرب بهدف البحث عن الاستشهاد، وهو التوجه الذي كان يزكيه التنظيم الفرنسيسكاني من حيث ميوله الصوفية، كما أنه يخدم تطلعاته التي كانت ترمي إلى تحقيق إنجاز معنوي وروحي يكون بمثابة رصيد تنبني عليه مشروعيته الدينية. وفعلا استطاع الفرنسيسكان بسبب هذا النوع من التضحيات أن يكسبوا المزيد من العطف والدعم في الأوساط المسيحية. وإذا كان النهج الفرنسيسكاني يعتمد أساسا على رمزية نعيم الآخرة مع التزهد في مظاهر الحياة الدنيوية، وإعطاء القدوة في ذلك من أجل التأثير على المسلمين وجلبهم إلى الدين المسيحي، فإن هناك تنظيمات مسيحية أخرى اعتمدت منهج المحاجة والجدال ألإقناعي لبلوغ نفس الهدف.