الدكتور الطيب بوتبقالت يكتب: تطور العمل التبشيري في القرن التاسع عشر (الحلقة 22)

الدكتور الطيب بوتبقالت أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – طنجة

يتطرق الدكتور الطيب بوتبقالت في هذه السلسلة من 30 مقالا إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين، و يبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية…

اعترف المجمع الرهباني التابع للكنيسة الكاثوليكية منذ 1630 بتنظيم إرسالي يسمى “إرسالية مراكش” وخوله صلاحيات الإشراف على العمل التبشيري بالمغرب. وكانت الطائفة الفرنسيسكانية هي المسؤولة عن هذا المشروع، وقد كلفت رهبان الأبرشية الاسبانية في سان دييكو بالسهر على تحقيقه لقربهم من المغرب من جهة، ولعلاقاتهم التاريخية به من جهة ثانية.

وبعد الهجمة الكولونيالية على المغرب في القرن التاسع عشر، وتحديدا بعد معركة ايسلي، بدأ العمل التبشيري يتطور في ظل السياسة الكولونيالية الرسمية. وهكذا وقع سلطان المغرب مولاي عبد الرحمان اتفاقية يعترف بموجبها رسميا بهذا النشاط الفرنسيسكاني. وكانت الإرسالية عندئذ تتكون من أبوين كاثوليكيين فقط، وبعد موافقة الحبر الأعظم قام الكاردنال المسؤول عن الجمعية الرهبانية بتعيين وكيل رسولي يشرف على «إرسالية مراكش، وتطوان، والصويرة» وكان ذلك يوم 15 دجنبر 1859. والاسم الجديد للإرسالية كان يدل على توسيع مجالها الجغرافي وهو ما كان ينسجم مع الرؤية الكولونيالية الهادفة للسيطرة على المغرب. ويعد الأب جويسي انطونيو صباطي أول وكيل رسولي يحصل على هذه الصفة رسميا مع الصلاحيات التي تمنحها الكنيسة الكاثوليكية في هذا الإطار. وهذا معناه أن الهيئات الكاثوليكية العليا بدأت تهتم من جهتها بمستقبل المسيحية بالمغرب. والجدير بالملاحظة أن رياح التنصير بدأت تهب مجددا على بلدان المغرب الأمازيغي-العربي غداة احتلال الجزائر، وكانت سياسة التوغل الاستعماري تعتمد قبل كل شيء على المدرسة بصفتها وسيلة فعالة في نشر وتثبيت نفوذ الهيمنة، لكن دون إغفال ما قد توفره لها الحملات التبشيرية من تسهيلات إضافية. إلا أن تقريرا تم إعداده سنة 1885 يرى أن دور المبشرين الفرنسيين يجب أن تعطى له أهمية أكبر في إطار المشروع الكولونيالي: “لم تكن محاولات الاندماج عبر المدرسة كافية إلى حد الآن، لقد فشلت ككل المحاولات التمدينية الاجتماعية المحضة بالجزائر، لأنها واجهت الإسلام واحترمته، ومن هنا نستخلص أن المسألة الجزائرية مسألة دينية، وإذا كانت كذلك فمن ذا الذي يجب عليه محاولة حلها من غير المسيحيين الفرنسيين؟”

وكان المغرب يومئذ حقلا للاستكشاف والاستطلاع بالنسبة للمشاريع التبشيرية التابعة للاستعمار الفرنسي. وهكذا غادر مدينة طنجة شاب في حوالي الخامسة والعشرين من عمره، ممتطيا بغلة، في اتجاه تطوان يوم 20 يناير1883،  وكان يدعى أن اسمه يوسف ملمان حاخام الجزائر. تنقل هذا الشاب في جهات مغربية زهاء سنة كاملة تقريبا، ولم يكن سوى الأب شارل دوفوكو المعروف! يقول جون فكتور حول ما قام به هذا المستكشف الجاسوس:«لقد شكل استكشاف دوفوكو للمغرب أهم رحلة أنجزها أوربي قبل عهد الحماية».

وكانت طريقة عمل هذا الجاسوس في غاية الدقة: كان يجمع معلوماته في كنانيش صغيرة لا تتعدى خمس سنتمترات مربعة، بحيث يخفيها في مقعر يده اليسرى، وبواسطة قلم رصاص لا يتعدى طوله سنتمترين يدون ملاحظات رحلته بثبات وأمان. ولقد كان لهذه الأعمال التجسسية التي قام بها دوفوكو عن اقتناع تام انعكاسات مهمة على وتيرة تقدم أعمال التغلغل الاستعماري بالمغرب، وبمداد الفخر والاعتزاز سجل الفرنسيون هذا الانجاز:”وضعت مصلحة جغرافية المغرب خط سير دوفوكو على خريطة بمقياس 200.000/1 وبإمكان المرء أن يتخيل شعور الامتنان والافتخار الفرنسي بذلك. إنه نفس خط السير الذي تبعته قواتنا نصف قرن فيما بعد تحت قيادة الجنرال هنري، لتحقق بذلك أمنية مستكشف سنة 1884، وهكذا تم تسييج المغرب الجغرافي بكامله في حدود الحماية الفرنسية.

و أما التبشير المباشر في صفوف المواطنين المغاربة فإنه في الواقع لم يسجل آثارا تذكر، السبب في ذلك كان يرجع إلى الإسلام الذي وقف كجدار منيع أمام تقدم الدعاية المسيحية بالمغرب. ففي سنة 1896 توفي بطنجة الأب لورتشوندى، النائب الرسولي للإرسالية الفرنسسكانية الاسبانية بالمغرب منذ 1877، و كانت حصيلة مجهوداته التبشيرية أقل بكثير مما كانت تطمح إليه الأوساط الاستعمارية. وبهذا الصدد جاء في رسالة بتاريخ 29 مارس 1896 من المفوضية الفرنسية بطنجة إلى وزير الخارجية بباريس ما يلي: “لم يكن الأب لورتشوندى يتوهم أن هناك حظوظا لنجاح الدعوة المسيحية في بلد ضرب فيه التعصب الإسلامي أطنابه. لقد كان يسعى لخدمة بلده، ويعترف عن طيب خاطر بعدم جدوى جهوده فيما يتعلق بالدعاية الدينية، معتبرا كل مجهود دعائي بمثابة خطأ، ومصرحا أن تأثيره على المغاربة كان مقدار امتناعه عن النشاط الدعائي كقسيس كاثوليكي وكرئيس للإرسالية الفرنسيسكانية. و بالفعل فإننا لا نجد ولو مغربيا واحدا اعتنق المسيحية”.

إن عدم جدوى التبشير في بلاد الإسلام هو الذي دفع بالمبشرين إلى ممارسة نشاطهم الدعائي تحت غطاء أنشطة اجتماعية ذات طابع «إنساني»، لكن هذا لا ينسحب على النشاط ذاته في أوساط الجاليات الأوربية. فطالما التزم المبشر باحترام مشاعر المسلمين واكتفى بنشر دعايته في صفوف المسيحيين الموجودين بدار الإسلام، فإنه لا يوجد أحد يمكن أن يمسه بسوء، بل على العكس من ذلك قد ينال بفضل سلوكه المتزن واحترامه للمشاعر الإسلامية تقدير الناس له. وهذا السلوك علاوة على كونه من صميم تعاليم الإسلام فإنه يشكل كذلك القاعدة الذهبية في التواصل السلمي بين الثقافات والتعايش الديني.

ولما رأت «الإرسالية الانجليزية لشمال إفريقيا» أن حظوظ نجاح أنشطتها التبشيرية ضعيفة جدا، وجهت مبشريها البروتستانت للقيام بخدمات طبية واجتماعية. وفي أواخر القرن التاسع عشر استقرت بمراكش “إرسالية المغرب الجنوبي الكالفانية” التي كان يوجد مركزها بكلاسكو. وكتمويه لنشاطها التبشيري فإنها عمدت إلى فتح مستوصف صغير ومعمل للخياطة والطرز بهذه المدينة. وكان أعضاء الإرسالية الأمريكية بالمغرب، التابعون لإرسالية “قداس الوحدة” و مقرها بكنساس سيتي، يتنكرون بزي عربي! وكاد سلوكهم التبشيري المفضوح أن يلحق الضرر بمهام المبشرين الأوربيين الذين كانوا أكثر حيطة وحذرا منهم. ويصف اوجان او بان تصرفهم فيقول: «في البداية كانت طريقتهم المزعجة تتمثل في نشر الوعظ في الأسواق وعلى الطرقات. ثم طلب منهم بإلحاح أن يهدأوا حتى لا يعرضوا المبشرين الأوربيين للخطر. بعد ذلك انتقلوا إلى البادية لمتابعة مجهودهم غير المثمر في القرى».

ومع بداية القرن العشرين، كان يوجد بالمغرب 28 قسيسا و 25 راهبا ينتمون إلى الطائفة الفرنسيسكانية ومعظمهم من الإسبان، كانوا موزعين على المراكز التالية: طنجة، العرائش، تطوان، الرباط، الدار البيضاء، الجديدة، أسفي، الصويرة. ورغم كثرة عددهم نسبيا، فإن نشاطهم التبشيري كان متواضعا جدا.

كانت تحركات الإرسالية البروتستانتية تتسم بطابع هجومي، وكانت ممثلة من خلال ثلاث فرق هي: إرسالية شمال إفريقيا الكالفانية التي كانت تتمركز بلندن، وكان نشاطها الفعلي يلاحظ في طنجة والدار البيضاء وتطوان . ثم هناك إرسالية الجنوب المغربي الكالفانية، وكان لها مبشرون بالجديدة، وأسفي، والصويرة. ومراكش. و أخيرا الطائفة الانكاليكانية لنشر المسيحية في الأوساط اليهودية، التي كانت تستهدف اليهود المغاربة لتنصيرهم. لكن المذهب البروتستانتي بقي محدودا رغم ديناميكيته.

والجديد في القرن التاسع عشر بالنسبة للعمل التبشيري عموما هو إدراجه في الوسائل التي وظفها النظام الكولونيالي بهدف اختراق المجتمع المغربي، لذلك أصبح مصيره رهينا بتطور “المسألة المغربية” المتعارف عليها في الأدبيات الاستعمارية في تلك الفترة الحرجة من تاريخ البلاد .

شاهد أيضاً

أسرة المقاومة وجيش التحرير تخلد الذكرى 103 لمعركة أنوال

خلدت أسرة المقاومة وجيش التحرير وساكنة إقليم الدريوش الذكرى السنوية لمعركة أنوال الخالدة صباح اليوم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *