الدكتور الطيب بوتبقالت يكتب: رسالة الكاردينال لافيجرى بصدد احتلال المغرب (الحلقة 25)

الدكتور الطيب بوتبقالت أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – طنجة

يتطرق الدكتور الطيب بوتبقالت في هذه السلسلة من 30 مقالا إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين، و يبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية…

راهب بدون شك، ولكن قبل كل شيء كولونيالي حتى النخاع، ذلك هو الكاردينال لافيجرى الذي كان الاستعمار والتبشير بالنسبة له وجهين لعملة واحدة. وإذا كانت الثورة الفرنسية قد نادت بشنق آخر النبلاء بمصارين آخر القساوسة، فإن مقاومة رجال الكنيسة في نظر لافيجرى ليست مادة قابلة للتصدير، وإنه على عكس مناهضة رجال الدين كان حريا بفرنسا الكولونيالية أن تستعين بالمبشرين قصد تحقيق مشروع هيمنتها الاستعمارية، ولذلك فإن فهمه للتبشير لا يخرج عن هذا المنظور.

وصل لافيجرى إلى الجزائر يوم 15 مايو 1867 قصد ممارسة مهام رئيس الأساقفة بها، ولم يكن راضيا عما قام به المبشرون الفرنسيون قبل مجيئه، فأسس تنظيمه المسمى ب«الآباء البيض»، وفرض على أتباعه تعلم اللغة العربية وارتداء ملابس الأهالي والاحتكاك بهم في شتى مظاهر الحياة اليومية. وكان اندفاعه وحماسه في بعض الأحيان أكثر مما كانت الحكومة الفرنسية نفسها تستحمله، وأخذ يعمل بدون كلل ولا ملل، رافعا شعاره «إن زمن الآخرة سيمكنني بما فيه الكفاية من الراحة، وأما زمن الدنيا فكله للعمل». وطبعا كانت الأوساط المسيحية في أوربا تؤيد وتساند توجهاته، إضافة إلى الدعم المالي والتسهيلات الكثيرة التي كانت فرنسا الكولونيالية توفرها له. وما هي إلا سنوات قليلة فإذا بأتباعه يكتسحون تونس، والسودان، والكونغو، ومنطقة البحيرات الكبرى في قلب القارة الإفريقية. وتعددت إنجازات «الآباء البيض» من مدارس، ودور للأيتام، ومزارع نموذجية، و مستوصفات  وأوراش مختلفة.

وكثيرة هي الأبحاث والدراسات والمقالات التي تناولت حركة «الآباء البيض» وتطورها وطريقة عملها التبشيري داخل المجتمعات الإفريقية، وعلى رأسها المجتمع الجزائري حيث شبت تلك الحركة وترعرعت تحت رعاية مؤسسها الكاردينال لافيجرى. وفيما يخص المغرب فإن هذا التنظيم لم يكن له أي نشاط داخل البلاد، والسبب في ذلك راجع على ما يبدو إلى تفادي الحساسيات التي سيخلقها تدخله لدى الطائفة الفرنسيسكانية المعتمدة رسميا من طرف البابا والمعترف بها من طرف المخزن. وكانت هذه الطائفة في واقع الأمر تعزز النفوذ الاسباني بالمغرب، وهذا معناه أن أي تدخل لتنظيم «الآباء البيض» في المجال الفرنسيسكاني سينجم عنه لا محالة توتر على مستوى العلاقات الفرنسية الاسبانية، وبالتالي المزيد من التشويش على مفاوضات فرنسا الكولونيالية المتعلقة بتسوية «المسألة المغربية». وعلى أي حال فإن الكاردينال لافيجرى كان على علم بحيثيات هذا الوضع، بل كانت له وجهة نظر وخطة عمل تطابق السياسة الكولونيالية الرسمية جملة وتفصيلا. وتوجد في أرشيف حركة «الآباء البيض » رسالة بتوقيعه توضح إلى أبعد حد موقفه من مشروع فرنسا الاستعماري تجاه المغرب، وتعبر بكل حماس عن تطلعاته التبشيرية في خدمة الكولونيالية. والرسالة في الأصل كانت جوابا عن خطاب تلقاه لافيجرى من أحد أصدقائه يهنئه فيه على إثر منحه لقب «جثليق إفريقيا» من طرف البابا، ومعناه أن الكنيسة الكاثوليكية أصبحت تعتبره «كبير أساقفة إفريقيا»، وكان ذلك سنة 1884. ونظرا لأهمية الوثيقة ارتأيت ترجمتها كاملة، وهذا هو نصها:

«صديقي العزيز، إنك على صواب عندما قلت، إنني استحق اللقب الذي منحني إياه قداسة البابا، إني أحب إفريقيا وأريدها كلها لفرنسا، أو على الأقل كل إفريقيا المحاذية للبحر الفرنسي (يعني البحر الأبيض المتوسط). إن طموحي لفائدة بلدي لا يقف عند المقاطعات الفرنسية بجزائرنا، ولا عند حمايتنا التونسية النهائية والكاملة، إنني أعتبر كل هذا ناقصا ومهددا طالما بقي المغرب خارج السيطرة الفرنسية. ربما لم أكن ذلك الباذر الذي يتحدث عنه الكتاب المقدس، ولكني على يقين بأنني كنت ذلك الجندي المتفاني والمجاهد في سبيل بلده. لقد أنجزت في الجزائر وتونس أكثر مما قد ينجزه جيش بكامله، إن أرشيفات وزارة الخارجية مازالت تحتفظ بالوثيقة الوحيدة التي سأظل أفتخر بها، وهي تلك الرسالة التي كتبتها بتاريخ 16 يناير 1875، والتي كانت تتضمن الخطة التي تم اعتمادها بحذافيرها من أجل الاستيلاء على تونس .

والآن يجب علينا أن نتهيأ بكل شجاعة لإتمام المشروع الكبير، إن الاستيلاء على المغرب سيتطلب منا مجهودا متأنيا، ومتعقلا، ومتواصلا. وعليه فإن الدبلوماسية الفرنسية مطالبة بالعمل خلال خمسة، أو عشرة، أو حتى عشرين عاما من أجل الحصول على حياد أوربا. وبعد تحقيق ذلك الهدف يجب علينا الانقضاض بكل جسارة على هذا المغرب الذي تؤلمنا رؤيته خارج نطاق سيطرتنا، علينا أن نتوغل داخل البلاد حتى يتسنى لنا ربط فاس بباقي مستعمراتنا. إن المغرب بالنسبة لنا يعتبر المكمل الضروري لتونس، ولهذا فإنه من العار أن تبقى فرنسا في التاريخ كتلك الفتاة الجميلة التي كانت تتزين بحلقة أذن واحدة فقط. ولا بد لنا من إظهار اللباقة الدبلوماسية والتريث، واغتنام الفرص حتى نضمن لأنفسنا الاستيلاء على المغرب. وإذا ما أطال الله في عمري فإنني سأعمل ما في وسعي لجعل البابا يوافق على إيفاد أسقف فرنسي أو أسقفين إلى المغرب. لقد تأسست أسقفية سبتة سنة 1421، وتأسست أسقفية طنجة عام 1428،  ثم ألغيت الأسقفيتان بعد ذلك سنة 1851 لصالح أسقفية قادس. و لا شك أنني سأجد في روما السند والدعم لبناء ما تم تحطيمه في هذا المجال، وأعتقد أنه بفضل «الآباء البيض» وبفضل طريقتي في التعامل مع الإسلام، ستكون مدة عشرة سنوات كافية ليصبح المغرب جاهزا لاستقبال أول جنرال فرنسي. لقد قلت البارحة (19دجنبر1884) لوزير الخارجية إن ما هو أقل خطرا في المغرب هو المغرب نفسه، وأما انجلترا فإنها ستجد تعويضا في مصر، كما أن إيطاليا ستقتنع ولو باحتلال جزئي للتراب الليبي، لكن ما العمل مع بيسمارك الذي لا تفارق عيناه المغرب؟ في نظري يجب أن نتفادى مجابهة عسكرية مع الألمان بسبب المغرب، إنها مسؤولية الدبلوماسية الفرنسية التي عليها أن تجد مخرجا لهذا الوضع، كأن تعطي فرنسا لألمانيا تعويضا مثلا في الشرق الأقصى أو غير ذلك، لكن شريطة ضمانات والتزامات واضحة تكون الدول الأوربية الأخرى على اطلاع بمضمونها. ولا أتحدث عن الخطر الاسباني (لعدم أهميته بالنسبة له). هذه هي الأفكار التي تشغلني والتي يجب أن تشغل دبلوماسيينا وعلى رأسهم وزير خارجيتنا. ويحدوني الأمل في أن أفكاري ستؤخذ مأخذ الجد، كما أن الدور الذي لعبته شخصيا في تونس يدفعني للاعتقاد بأنني سأجد لدى الجهات المسؤولة آذانا صاغية.

هذه إذن هي رسالة الكاردينال لافيجرى في شأن مشروع احتلال المغرب، وقد كتبها يوم 20 دجنبر1884. كانت وفاة لافيجرى يوم 25 نونبر1892، ولا يسع المرء إلا أن يعترف له بمدى دقة توقعاته وانسجامه الكامل مع روح السياسة الكولونيالية لبلده فرنسا.

 

اقرأ أيضا

الإحصاء العام: استمرار التلاعب بالمعطيات حول الأمازيغية

أكد التجمع العالمي الأمازيغي، أن أرقام المندوبية تفتقر إلى الأسس العلمية، ولا تعكس الخريطة اللغوية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *