يتطرق الدكتور الطيب بوتبقالت في هذه السلسلة من 30 مقالا إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين، و يبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية…
تميزت القرون الوسطى بظاهرة القرصنة التي جعلت من المجال البحري مسرحا للنهب والسلب، وفضاء يسيطر عليه منطق قانون الغاب. وأدى استفحال الظاهرة إلى درجة أصبحت معها معظم البلدان تتعاطى لها بطريقة شبه رسمية، وتأخذها بعين الاعتبار في تدبير شؤون علاقاتها الخارجية. و استمر الوضع على ما هو عليه بين مد وجزر إلى بداية القرن التاسع عشر. وكان المغرب في هذا الميدان في موقع دفاعي تألق فيه المورسكيون، واعتبروه جهادا بحريا مشروعا. لكن على الصعيد الرسمي يلاحظ أن كل الاتفاقيات التجارية التي أبرمها المغرب مع أطراف مسيحية كانت تشير ضمنيا أو بصريح العبارة إلى حظر القرصنة البحرية. والملاحظات العامة هي :
-تصعيد السلوك العدواني تجاه المسلمين إبان الحروب الصليبية وبعدها،
-ارتفاع وتيرة الملاحة التجارية مع وجود فراغات قانونية تؤطرها،
– لجوء بعض الدول إلى القرصنة كسلاح مشروع في زمن الحرب،
– غياب أو ضعف أسطول بحري قوي تابع لجهاز الدولة المغربية.
وكانت المتاجرة بالأسرى من بين أخطر نتائج هذه الظاهرة التي أصبحت نشاطا قائما بذاته لا يعترف بأي حدود. فلا الأخلاق ولا الدين ولا القانون يقف حاجزا أمام القراصنة. والأكثر من ذلك هو أن التعامل بالبضاعة البشرية كان متداولا وكأنه شيء طبيعي. ففي سنة 1320م مثلا، اشترت شركة تجارية كان مقرها بجزيرة ميوركة مجموعة من الأسرى المغاربيين في سوق جينوة، لتعرضهم بعد ذلك للبيع في سوق كاتلونيا. وكثيرا ما أقدم تجار غرناطة على بيع أسرى كتلانيين في الأسواق المغاربية، وكانت الأثمان أكثر ارتفاعا في الأسواق المغاربية بالمقارنة مع أثمان نفس “السلعة” بالأسواق الأندلسية، نظرا لأن حظوظ الهروب من شمال إفريقيا كانت شبه منعدمة، وبالتالي كان على كل أسير يريد أن ينجو من هذا الجحيم أن يشتري نفسه بثمن مرتفع جدا. وطبعا كانت هذه تجارة مربحة ولها سماسرتها يعرفون تحت اسم «الفكاكيس» او «يخياس» وهي كلمات عربية تم تحريفها بالاسبانية، وتعني «الفكاكين» و«نخاس». ورغم خطورة وبشاعة هذه التجارة فإنها في الواقع لم تكن تؤثر كثيرا على العلاقات الدبلوماسية بين البلدان .
وإذا كان أهل أو أقارب الأسير أثرياء فإن الثمن غالبا ما يكون باهظا جدا، أما إذا كان الأسير ينتمي إلى عائلة فقيرة فإن لا حيلة له بدون تدخل أهل «الإحسان» أو الخروج عن دينه ودخول دين من اشتراه. وفيما يخص الأسرى المسلمين عند المسيحيين فإن التضامن الإسلامي كان في أغلب الأحيان كافيا لشرائهم وإرجاعهم أحرارا إلى بلادهم. أما فيما يتعلق بالمسيحيين فقد ظهرت تنظيمات دينية متخصصة في افتداء الأسرى، كتنظيم الثالوث وتنظيم الرأفة. واستطاع الرهبان الرأفاويون سنة 1300م الإفراج عن حوالي 300 أسير مسيحي كانوا سجناء بتطوان، و فاس ومراكش وتلمسان والجزائر. وفي سنة 1313م أدت مساعي نفس التنظيم إلى إطلاق سراح 236 أسيرا كانوا في سجون مغربية.
وإذا كان للقرصنة البحرية باع طويل في تغذية أسواق الأسرى على ضفتي المتوسطي، فإنه لا يجب أن ننسى أسرى الحروب الصليبية وأسرى مجابهات الإسلام والمسيحية بإسبانيا الذين كانوا بدورهم يشكلون مصدرا هاما في تزويد تلك الأسواق اللعينة. لقد بقي هذا النشاط التجاري وصمة عار تاريخية على جبين كل شعوب المتوسطي بدون استثناء. وإذا كان تعامل السلطات السياسية مع هذه المسألة تطبعه الواقعية المجردة والخالية من كل واعز أخلاقي، فإن السلطات الدينية الإسلامية والمسيحية عموما لم تكن لترضى باستفحال نشاط من هذا القبيل. لقد عارضه جمهور فقاء المسلمين ونادت الكنيسة الكاثوليكية في أكثر من مجمع ديني إلى حظره. وأضحى الواقع عنيدا و العادة متأصلة. علما بأن أجواء انعدام الثقة والصراعات الدموية وعدم انسجام الخلفية الحضارية وما تكنه الكنيسة نفسها من أحقاد للدين الإسلامي، كانت كلها عوامل ساعدت على استدام حالة حرب لم يكن فيها وضع الأسرى (البضاعة) عنصرا يدفع إلى الاستغراب وأزمة الضمائر.
و هكذا، لا يجب أن نستغرب، والحالة هذه، وجود مليشيات مسيحية تعمل إلى جانب الجيش المغربي الإسلامي دفاعا عن مصالح مغربية !