يتطرق الدكتور الطيب بوتبقالت في هذه السلسلة من 30 مقالا إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين، و يبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية…
دأبت الكنيسة الإفريقية منذ تأسيسها في مطلع القرن الثالث الميلادي على تنظيم مجامع دينية بصفة منتظمة، وكادت هذه المجامع أن تختفي تماما تحت الحكم الوندالي من جراء الاضطهاد والانشقاقات المذهبية، إلا أنه مع مجيء البيزنطيين ما لبثت أن استعادت نشاطها، فالتأم أول مجمع سنة 534م حيث انضم إليه 220 أسقفا. والمثير للانتباه في هذا المجمع هو أنه لم يلتحق به ولو أسقف واحد من موريطانيا الطنجية ولا حتى من موريطانيا القيصرية المجاورة لها. أما في نوميديا وفي قرطاج خصوصا فقد توالت مثل هذه المجامع الدينية إلى أن أصبحت تنعقد مرتين في السنة. ولم يكن ذلك تعبيرا عن حيوية مسيحية جديدة وإنما كان إشارة واضحة إلى وضع متأزم، فأمور الكنيسة الإفريقية لم تعد بخير حيث ظهرت شروخ عميقة تهدد كيانها من الداخل، فلا سلطة رجال الدين ولا أخلاقهم كانت بمنأى عن انتقادات واستهزاءات العامة. وعاد المذهب الدوناتي من جديد إلى نشاطه المعادي للكنيسة الرسمية، مما دفع مجمع قرطاج لسنة 594م إلى تخصيص دورته كاملة لدراسة هذه الأزمة بهدف إيجاد سبيل يخلص الكنيسة من أخطار الانشقاقات التي كانت دائما تعاني منها.
وتزامنت تلك الأحداث مع تصعيد هجمات القبائل الأمازيغية الصحراوية على مناطق النفوذ البيزنطي، وقد سبق لها أن سجلت انتصارات باهرة على القوات البيزنطية وكبدتها خسائر فادحة، وذلك منذ السنوات الأولى للاحتلال البيزنطي. ففي المعركة التي جرت سنة 545م مثلا، استطاعت هذه القبائل أن تهزم الجيش البيزنطي وتفتك بحياة قائده المشهور صولومون.
والواقع أن أمازيغ الصحراء كانوا دائما ينعمون بالاستقلال مع حالة عدم الاستقرار منذ دخول الرومان إلى المنطقة. فعلاقاتهم بالدخيل كانت بين مد وجزر، تطبعها سلسلة من التوترات مع الانعدام الكلي للثقة بين الطرفين. وهذا هو السبب الذي جعل الرومان يقيمون تحصينات عسكرية تدعى (ليماس) والتي كانت بمثابة مواقع حدودية إستراتيجية تعينهم على مراقبة وصد هجمات القبائل الأمازيغية الموجودة خارج المجال الروماني الإفريقي. وعن هذه القبائل الأمازيغية الصحراوية لا يعرف إلا الشيء القليل، فكلما تناولتها المصادر المسيحية واللاتينية عموما إلا وأشارت إليها بالسوء، وهذا شيء طبيعي لأن سياق العلاقات القائمة كان مطبوعا بالنزاع المستمر الذي تغذيه النظرة العنصرية الاستعلائية الرومانية. ولم يكن الوندال والبيزنطيون في جوهر إستراتيجية سلوكهم تجاه تلك القبائل الثائرة ليختلفوا عن النهج الروماني. هذا مع التذكير بأن منطقة الاحتلال الاستعماري فيما يخص المغرب تحديدا تقلصت بشكل كبير إبان الفترة الوندالية والبيزنطية.
وهنا وجب التنبيه إلى وجود نقطة ظل تاريخي كثيف يحول دون معرفة التنظيمات السياسية والدينية المتعلقة بالقبائل الأمازيغية التي لجأت إلى جنوب البلاد واتخذته قاعدة لانطلاق هجماتها على المستعمر. وليس معنى ذلك أن معرفتنا كافية فيما يخص القبائل الأمازيغية التي كانت بشكل أو بآخر تحت الحماية الأجنبية في المناطق المستعمرة. إن هذه الحقبة من تاريخنا في حاجة ماسة إلى البحث والتنقيب، وحري بالجيل الجديد من مؤرخينا أن ينكبوا على دراستها.
إن زعماء القبائل في مناطق الاحتلال الفعلي أو غير المباشر من أمثال جوبا، وكوسيلة، والكاهنة وغيرهم لم تكن لهم سلطات واسعة ودائمة، ولم يكن لهم ممثلون محليون في الجهات الجنوبية النائية من البلاد. وهي جهات تشير إليها المصادر على أساس أنها كانت دائما مناهضة للنفوذ الأجنبي ولا تتردد في التحالف مع كل قوة معادية لهذا النفوذ. وإذا كانت مقاطعات الشمال الإفريقي البيزنطي قد عرفت نوعا من الانفراج على المستوى الديني خلال حكم الإمبراطور موريس (582/602م)، فإنها على المستوى السياسي والاقتصادي كانت على العكس من ذلك تماما، وبدت مؤشرات انهيار الحكم البيزنطي بإفريقيا واضحة للعيان، بل إن الكنيسة نفسها سرعان ما اكتسحها تيار القائلين بالطبيعة الواحدة للمسيح، وكان وراء ظهور هذا التيار في إفريقيا الشمالية أساقفة أقباط هربوا من مصر التي وصلت إليها الطلائع الأولى لجنود الفتح الإسلامي. وبهذا الصدد اجتمع أساقفة إفريقيا سنة 646م، وبلغ عددهم 112 أسقفا. ومن المفيد التأكيد على عدم وجود إشارة ولو لأسقف واحد قادم من موريطانيا الطنجية. وهو ما يعتبر مؤشرا إضافيا يدعو إلى مزيد من الشك في محتوى بعض الأطروحات التي تسعى جاهدة إلى تضخيم التواجد المسيحي بالمغرب آنذاك. ذلك التواجد الذي أصبح شبه منعدم تماما مع نهاية الحكم البيزنطي في إفريقيا الشمالية.