يتطرق الدكتور الطيب بوتبقالت في هذه السلسلة من 30 مقالا إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين، و يبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية…
يفيد مصطلح «كاثوليك» معنى الكونية والشمولية، وتعتبر كلمة السيد المسيح «اذهبوا واحملوا البشارة إلى كل الأقوام» بمثابة أمر موجه إلى جميع الكاثوليك منذ عصر الحواريين إلى اليوم. وهكذا فإن الروح التبشيرية كانت تغمر قلوب كل المسيحيين في مختلف العصور والأحقاب، مما أدى إلى ظهور تنظيمات رهبانية تعمل مباشرة تحت سلطة البابا وبأمر منه قصد نشر الديانة المسيحية عبر العالم، وبالتالي القيام بذلك الواجب الديني المقدس. وهذا ما دفع بالبابا غريجوار الخامس عشر (1554- 1623) إلى إصدار مرسوم بتاريخ 22 يونيو 1622 يقر بقداسة الدعوة التبشيرية ويؤسس من أجل ذلك المجمع التبشيري الكاثوليكي(Propaganda Fide).
وأسندت لهذا المجمع مهام الإشراف على كل الأعمال التبشيرية المسيحية في مختلف أقطار المعمور، وهذا المجمع التبشيري هو الذي، باسم البابا، كان يعطي الأوامر بإحداث ما يسمى ب «دار الأساقفة» التي تعني أبرشية أو مقر مزاولة النائب الرسولي لأنشطته التبشيرية. وغالبا ما يتم تعيين وكيل أو نائب رسولي من درجة مطران على رأس الأبرشيات الموجودة في البلدان غير ألمسيحية، ويقوم هذا الوكيل مقام البابا في كل ما يتعلق بالتدبير والتنسيق التبشيري على صعيد أبرشيته. وتعتمد إستراتيجية التبشير المسيحي على احترام ثلاثة إرشادات إنجيلية، هي: العوز و العفة و الطاعة. إضافة إلى هذا المثلث تلتزم التنظيمات الرهبانية مبدأ الإحسان، وذلك من أجل تسهيل تغلغل عناصرها داخل المجتمعات المستهدفة بالحملات التبشيرية. و كل أهالي البلاد غير المسيحية تعتبر بربرية وضالة في نظر الرهبان. وفعلا لكي تسهل عملية تنصير تلك الأهالي فإن عناصر البعثات التبشيرية تعمل كل ما في وسعها لتقديم يد المساعدة المادية والمعنوية للمرضى والمحتاجين من الأهالي عملا بمبدأ «الإحسان المسيحي». وتعددت هذه التنظيمات الرهبانية وكثرت أساليب تدخلها في شتى مجالات الحياة خدمة لنفس الأغراض والغايات. وبقيت هذه مجرد لمحة وجيزة عن طبيعتها التنظيمية ومقاصدها التبشيرية .
وأما العمل التبشيري بالمغرب الإسلامي، فإنه كان مرتبطا بأجواء الحروب الصليبية ، التي دارت أطوارها ما بين 1096م و1270م، كما كان مرتبطا بكل تأكيد بما أصبح يشكله الحكم المرابطي والموحدي من خطر على أوروبا المسيحية في عقر دارها. وليس معنى هذا حدوث قطيعة تامة على المستوى الرسمي، فلقد كانت علاقات الملوك المغاربة بالباباوات شبه عادية ولم تعرف سوى فترات فتور عابر. و شكل تدبير الشؤون الدينية للجالية المسيحية بالمغرب أكثر من مناسبة لتبادل المراسلات الودية بين البابا وملك المغرب. لكن بقي التواصل الديني المباشر بين ممثلي البعثات التبشيرية وفئات الشعب المغربي المسلم، و هو التواصل الذي كثيرا ما نجمت عنه مشاكل أمنية لم تنفع معها قاعدة “وجادلهم بالتي هي أحسن”.
وفي هذا المجال بالذات برز التنظيم الفرنسيسكاني منذ مطلع القرن الثالث عشر الميلادي وكأنه تخصص في تنصير المغاربة.