الزمان والهوية

بقلم: عبد الله الحلوي

عندما تستبد بنا السذاجة اللافلسفية التي تجعلنا نتوهم أننا نفهم ”الزمان“ فهماً لا يحتاج إلى مزيد من التّفكر، ينبغي أن نذكر أنفسنا بأن كل الألفاظ التي نستعملها للتعبير عن العلاقات الزمانية هي مجرد تعابير استعارية. مثلا لفظة ”الماضي“ تعني حرفيا ”الذاهب“ (الذي ”مضى“ أي ”ذهب“). و”الحاضر“ هو ”الوجود هنا“. لذلك فإن “الماضي“ و”الحاضر“ مجرد استعارتين مكانيتين نستعملهما للحديث عن الزمان. فما هو ”الزمان“ إذن؟ … ماذا يبقى في ”الزمان“ عندما نحرِّره من تصويرنا المكاني له؟ .. فتجريد الزمان عن الخصائص المكانية التي يضفيها عليه العقل هي الوسيلة التي اتخدها كانط إيمانويل للبرهنة على أن الزمان مجرد إطار حساسية يستعمله العقل لتأويل الظواهر.

حاول ماڭارت في مقالة له مشهورة عنوانها The unreality of Time نشرت عام 1908 في مجلة Mind أن يبرهن أن الزمان مجرد وهم وذلك بواسطة التمييز بين صفتي للزمان هما الصفات من نوع A (كقولك: ” منذ يومين” و”منذ ثلاثة أسابيع”)، والصفات من نوع B (كقولك “متقدم بيومين عن …” و “متأخر بثلاثة أسابيع عن …”). ولما كانت الصفات من النوع A غير متضمنة لمعنى “التغير” الذي نفترضه في الزمان، فلا تغَيُّر، وبالتالي، لا زمانَ. وإذا كان الأمر كذلك، فنحن نحتاج للبحث عن مضمون الزمان لا في ما نتمثله زمانا، بل في تجلّيات وجودية أخرى غير الزمان ومتعلقاته الكلاسيكية ك”التغير” و”الحركة” وغيرهما.

المدخل الأساسي لفهم ”الزمان“ هو العدم. والمدخل السليم للنظر في ”العدم“ هو دوره في عالمنا الملموس. لكي ”يكون هناك“ زمان (تاريخ، ماضٍ، احتفال بِ…، استعادة، تخليد لِ…) ينبغي تكون هناك أشياء ”تختفي“. ولكي تكون هناك حرية، ينبغي أن تكون هناك أشياء ”نرفض“ أن نكونها (”الرفض“ = تحديد سلبي للإرادة). ولكي تكون هناك كهرباء ينبغي أن يكون كل إلكترون متبوعا بفراغ. ولكي تكون هناك مجاز (صور أدبية، استعارة، تفكه، ترجمة) ينبغي أن يكون هناك باطن يتوارى خلف الظاهر. العدم، إذن، يخترق الوجود خرقاً رَخِيفاً يجعله يبدو أشبه ما يكون بروحٍ يرِفُّ على سطح الغمر. ولا يمكن أن يكون هناك زمان إلا إذا اختُرق وجودنا بالأشكال المختلفة للغياب كالإختفاء والتواري والإضمحلال والتناقص وغير ذلك. أول وعي لنا بالزمان هو وعينا بالإختفاء (عندما يتعلق الأمر بالوجود) ووعينا ب”الضياع“ (عندما يتعلق الأمر بالقيمة). سلبية الزمان هذه هي سر جبروته الذي تحدث عنه تولستوي عندما قال بأن أعظم محاربين إطلاقا هما الصبر والزمان.

المدخل الثاني لفهم ”الزمان” هو ”الأرخنة“ … ما هي ”الأرخنة“؟ … عندما يصرح عوام الناس بكلام من قبيل: ”هادو هوما عوايدنا من يامات زمان“ أو ”جدودنا كانو … أو “حنا عمرنا ما كنا هاكد“ أو ”فين هوما يامات العز“ .. أو ”تبدلات الوقت بزاف“، فإنهم يعكسون نوعا من الوعي يسمى ب”الأرخنة“ historicization. ”الأرخنة“ هي إضفاء الطابع التاريخي على وجودنا. لكي تؤرخن، يجب أن تحدد نقطة في التاريخ تعتبرها مرجعية لها قبلٌ ولها بعدٌ .. عادة ما يكون قبلها مجرد نوع من الطوهوـ بوهو، أي عالم خَرِبٌ مشوَّش غير واضح المعالم، وتكون النقطة المرجعية نفسها ”فجرا“ نسكن فيه دائما بعواطفنا ونكونه إلى درجة أننا نتمزق بنوع من التلذذ كلما وعينا أننا لم نعد نسكن فيه (هذا هو المضمون الوجودي للحنين: التمزق اللذيذ). الأرخنة هي الأمل الذي يسكننا والذي يجعلنا نؤول ”الإختفاء“ (أي العدم) على أنه مجرد ماض باهت خرِبٍ مشوّش تجاوزناه بهذه اللحظة المرجعية التي نَحِنُّ إليها. إنها نوع من التجاوز الرمزي لحقيقة العدم الذي يخرق وجودنا ويذكرنا بنفسه بواسطة الموت والضعف والضياع.

هل هناك من لا يؤرخن؟ .. ماذا يفعل جامعو طوابع البريد إذ يجمعونها؟ ماذا يفعل المفكر الذي يبحث عن مشروعية دعوته في التاريخ؟ ماذا نفعل عندما عندما نسمي أبناءنا بأسماء أبطالنا “التاريخيين“؟ ماذا نفعل إذ نحاول أن نبحث عن المهجور من قديم الكلمات لنتباهى ب”تملكنا من ناصية اللغة“؟ ماذا نفعل إذ نحتج على الاستلاب الهوياتي؟ ماذا نفعل عندما نمارس الفوتوغرافيا على أنفسنا؟ ماذا نفعل إذ نحتفل بِ … ونخلِّدُ …ونتشوق .. ونَحِنُّ …؟ أليست كل هذه الأفعال (أو ردود الأفعال) مجرد وعيٍ جريح بكوننا كائنات يضطرها الإنسحاب المستمر للوجود (هذا الإنسحاب الذي نؤوله ”زمانا“) إلى الأرخنة؟ ”الأرخنة“ إذن هي عندما نغترب في احتفالنا ب”البدايات“ بدل أن نجعل شرطنا الوجودي ”فجرا“ لمُستقبلاتنا (بصيغة الجمع) … هذا هو مضمون فلسفة الابتكار المحرّرة من التأرخن الإضطراري.

ما الذي يجعل الهوية ممكنة في الزمان؟ .. أنا هو أنا، أمساً واليوم وغدا. رغم كل ما طرأ علي من تغيرات فيزيولوجية ونفسية وعقلية، أستطيع أن أحيل على نفسي في صورة تمثلني في سن الخامسة وأقول: “هذا أنا!”. ”هويتي ـ الجذر“ هي ما يجعلني مطابقا لنفسي رغم كل الإنزياحات والتناقضات والتقلبات التي أعيشها في حياتي. ”الهوية ـ الجذر“ هي الشكل الذي تتخذه كينونتي (ما أكون عليه من أحوال، ما أحققه من إنجازات، ما أتمثله من محيطي، ما أكتسبه؛ إلخ.) في طفولتي فتَرْقُمُهُ رَقْماً في وجودي (دواخلي، مشاعري، عواطفي، ما استبطنه من تمثلات وتصورات، إلخ). ”الإنسان المُسْتَلَبُ“ هو الإنسان الذي يعوض هويته ـ الجذر بأيديولوجيات يغترب بها وفيها عن كينونته المرقومة في وجوده.

بهذا المعنى، ف”الهوية“ هي دائما ”هوية“ تاريخية ولا علاقة جها بما يسمى ب”الجوهر“. لفظة ”الجوهر“ هي لفظة ملتبسة وتحتمل على الأقل ثلاثة معاني: المعنى الأول هو المعنى الميتافيزيقي الذي يصير به الموصوف ذا صفات مجردة عن الزمان المكان أو ثابتة في الزمان والمكان تقاوم التغير بشكل مطلق. والمعنى الثاني هو المعنى المنطقي الذي يكون به الشيء مساويا لنفسه (أ = أ) . والمعنى الثالث هو المعنى التاريخي وهو المعنى الذي يحتفظ به الشيء بالمقومات الأساسية التي تَشكّل بها قوامه الوجودي في لحظة مرجعية (سماها الجابري رحمه الله ب”المنظومة المرجعية”)، كالخصائص اللغوية المميزة لعائلة لغوية أو الملامح العمرانية المميزة لجماعة بشرية عن غيرها، أو مقوّمات العمل التأدبي، أو تفضيلات أساليب الملبس، أو الإمتداد المجالي وغير ذلك. فكل هذه الخصائص تتفاعل مع المقومات الانتروبولوجية لهويات تاريخية مغايرة ولكنها تبقى محافظة على ما تشكّل منها في لحظة تاريخية مرجعية. هذا هو ما أقصده ب”الهوية الجذر” .. وهو معنى يختلف اختلافا كبيرا عن الجوهرانية الميتفايزيقية وحتى المنطقية.

شاهد أيضاً

الجزائر والصحراء المغربية

خصصت مجموعة “لوماتان” أشغال الدورة السابعة لـ “منتدى المغرب اليوم”، التي نظمتها يوم الخامس من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *