بقلم: خليد والعبدو*
السيميولوجيا (La sémiologie)، السيميائيات أو السميوطيقا (semiotics) كما عرفها العالم السويسري “فرديناند دي سوسير” الذي تنبأ بظهورها، هي:” علم موضوعه دراسة حياة الإشارات في المجتمع؛ مثل هذا العلم يكون جزءا من علم النفس الاجتماعي وهو بدوره جزء من علم النفس العام، وسأطلق عليه علم الإشارات (semiology) “[1]. بمعنى أن مهمة هذا العلم هو دراسة العلامات سواء اللغوية المرتبطة بالتواصل الإنساني أو غير اللغوية الموجودة داخل حياتنا الاجتماعية كلافتات المحلات التجارية، التشوير الطرقي، الرموز و الإشارات، الصور الفوتوغرافية، اللوحات، الأثاث، الملابس، الحلي وغيرها من الأمور التي تداخل تحت إطار ما سمي ب”العلامات غير اللغوية”. اهتم العديد من الباحثين بعد “فرديناند دي سوسير” بالسيميائيات مما أفرز مدارس سيميائية مختلفة تستند كل واحدة منها إلى مرجعيات و أسس تميزها عن المدارس الأخرى. يمكننا، إذن، أن نميز ، اليوم، تصورات متعددة للسيميولوجيا، وهي تصورات تنسب نفسها إلى “سوسير”، بدءا من أولئك الذين ظلوا أوفياء للتأويل التقليدي ( بويسنس وبرييطو ومونان)، مرورا بأولئك الذين يقربون السيميولوجيا من النقد الأدبي (بارط و كريماس)، وانتهاء بأولئك الذين يقربونها من الماركسية معرفين إياها ك ” علم للايديولوجيات”(كريستيفا)[2]. لعل من أهم المدارس السيميائية نذكر: سيمياء التواصل مع جورج مونان وبريطو وبوسنيس وآخرون، السيمياء الدلالية مع رولان بارط و غريماس و كلود ليفي ستراوس، سيمياء الثقافة مع أمبرتو إيكو و جماعة موسكو تارتو، السيمياء التداولية مع شارل موريس و شارل سندرس بورس[3]، و أخيرا السيمياء التحليلية مع جوليا كريستيفا و جاك لاكان.
تزخر الثقافة الأمازيغية بنماذج عديدة من المعمار، الأزياء، الحلي، الأثاث، و الطقوس. وكلها نماذج تحمل رموزا و أشكالا، زخرفا و رسائل ذات دلالات غامضة لا يتأتى فهمها إلا بدراستها دراسة سيمائية تطبق عليها لتكشف عن هذه الدلالات المخفية والغرض من تلك الرموز والأشكال الموظفة. إيمانا من الباحث (الدارس) بأن تلك الرموز أو الأشكال أو الرسائل ليست أمورا اعتباطية بل هي منتقاة بشكل يجعلها بمثابة “رسائل مشفرة “.
لما تعددت القبائل الأمازيغية بالجنوب الشرقي المغربي كان لزاما كذلك أن تتعدد أنواع الأزياء و الحلي والأثاث ـ حتى إن تشابهت بعضها في الشكل فهي تختلف في التسمية التي تحملها ـ فالأنواع الخاصة بقبائل “أيت عطا” ليست نفسها الخاصة ب”أيت مرغاد” أو “أيت تدغت” و أنواع هذه الأخيرة تختلف عما يرتديه “إسمخان” أو “إقبلين”، بل أكثر من ذلك قد تختلف النوعيات داخل القبائل المنطوية تحت نفس المجموعة القبلية. فالمرأة في كل من “أيت عطا”، “اسمخان”، “إقبلين” ترتدي قماشا أسودا تلفه على جسدها بالكامل يسمى ” تاحرويت” يزين بمربعات متتابعة على شكل خط طويل تحمل ألونا مختلفة و أحيانا يحضر فيها الحرف الأمازيغي المسمى ب ” أزا”. في حين ترتدي المرأة “التدغاوية” قماشا أبيضا شفافا نوعا ما يسمى ” أشطاط” و هو نفس ما ترتديه نساء (بومالن دادس وقلعة مكونة) مع تغيير طفيف مرتبط بلون القماش الذي يكون أسودا ويسميه السكان المحليون ب ” تاشطاطت”. أما المرأة المحسوبة على قبائل “أيت مرغاد” و “أيت حديدو” فهي ترتدي غطاءا صوفيا مستطيلا ذي خطوط بيضاء و زرقاء أو بنية.
سنكتفي خلال هذه المقالة بالزي المسمى ” تاحرويت” نظرا لكونه الأكثر انتشارا بالمنطقة السالفة الذكر، مقارنة بالأزياء الأخرى الخاصة بالمرأة الأمازيغية، و سنحاول دراسة دلالاته و استنباط المعاني الباطنية التي يضمرها هذا الزي البسيط، مستندين في الدراسة إلى التيارات السيميائية المذكورة.
تنظر سيمياء التواصل إلى العلامات من جهة المقصدية التواصلية ؛ أي المعيار الأساس هو الوظيفة التواصلية التي تؤديها العلامة (دراسة الأنساق التواصلية فقط)[4]. الحرف الأمازيغي المسمى ” أزا” ينتمي إلى الأنساق التي تنوب عن اللغة بحسب تقسيم “جورج مونان” للأنساق التواصلية غير اللغوية. و إذا اعتبرناه كرمز فهو ينتمي إلى العلامات الاصطناعية بحسب تقسيم “جان مارتيني” للعلامات إلى طبيعية واصطناعية، فالرمز ” أزا” هو من صنع الإنسان و يدل بموجب اتفاق صانعيه على أنه حرف يرمز إلى اللغة الأمازيغية خصوصا و إلى الأمازيغية عموما.
من خلال المنظور السيميائي التواصلي فإن الحرف أو الرمز الموجود ب”تاحرويت” هو رمز ذو طابع تواصلي يتمثل في إحالة المتلقي الذي ينظر إليه إلى هوية اللباس و هوية مرتديه، كأن هذا الرمز يقول بأن “تاحرويت” هي زي أمازيغي خاص بالمرأة الأمازيغية.
لا تقف السيمياء الدلالية عند عتبة التواصل بل ترتكز على آليات الدلالة في الأنساق. سنحاول تطبيق نموذج “رولان بارط” المكون من مستويات؛ أولها مستوى اللسان والكلام فالزي يسمى ” تاحرويت” و هو عبارة عن دال اتفقت عليه مجموعة لغوية وليس من محض اختيار المتكلم. أما المستوى الثاني فهو الدال والمدلول وفي هذا المستوى يتحول الاستعمال إلى علامة على الاستعمال نفسه؛ أي أن “تاحرويتْ” هي صيغة تصغير لمفرد هو ” أحرويْ” و يعني لباس و الجمع ” إحروينْ” الملابس، فالقماش الأسود تحول من كونه قماشا عاديا إلى حالة أصبح فيها لباسا استنادا إلى استعماله. وفي مستوى آخر يحتوي نموذج “بارط” على ثنائية التعيين و الإيحاء؛ بحيث أن الدال (تاحرويت) يمثل مع مدلوله ( ذاك القماش الأسود المزين)؛ دلالة تعيينية، الدال هنا يحيل على المدلول. و يمثل هذان الاثنان ( الدال و المدلول) دالا لمدلول آخر هو ( لباس خاص بالمرأة الأمازيغية) مما يعطينا دلالة إيحائية.
انطلاقا من تطبيق النموذج البارطي نستشف أن ” تاحرويت” كلباس يحيل على المرأة الأمازيغية وربما على الوظيفة التي يؤديها وهي ستر المرأة وهو ما يدل عليه لونه، إضافة إلى دلالة إيحائية مرتبطة بالستر وهي أن المرأة المرتدية لهذا اللباس تعد مصونة و محترمة.
تميز جماعة موسكو تارتو ضمن تيار سيمياء الثقافة بين الثقافة واللاثقافة وكل ما لا يدخل ضمن الأولى فهو (كليشيهات) وبالتالي ينتمي إلى الثانية. الزي المتناول في هذه الدراسة بشكله ورموزه ينتمي إلى ثقافة الجنوب الشرقي المغربي وإلى الثقافة الأمازيغية بصفة عامة والتي تضم تمظهرات أخرى غير اللباس.
كل هذه النماذج السيميائية المطبقة على الزي الأمازيغي” تاحرويت” باعتباره نصا بالمعنى العام للكلمة تدور في دائرة واحدة إن شئنا أسميناها دائرة التأويل، فكلها تعمل على تأويل الرسالة و الدلالة والرمزية التي يحملها هذا الزي بغية اكتشاف ما وراء جانبه الظاهر، وفي هذه المرحلة ستطفو قضية قيمة المرأة داخل المجتمع الأمازيغي ودورها في صون الأمازيغية وبالتالي نكون أمام امرأة صائنة للأمازيغية من خلال ارتدائها لزي ذو حمولة ثقافية و امرأة مصونة بواسطة القماش ذاته، إنها علاقة ” صون” نفعية متبادلة؛ صون الزي من الاندثار و صون المرأة من التهديدات الخارجية.
إن مفهوم التأويل هاهنا معناه أن الدلالات التي قلنا بأن “تاحرويت” تحملها ليست دلالات يقينية قطعية بل هي مجرد نتائج أوصلنا إليها تطبيق بعض تصورات التيارات السيميائية عليها. إشارتنا لهذه المسألة يخرجنا من دائرة الديكتاتورية والمعيارية، إيمانا منا بأن ” قضية التأويل” مجال مفتوح في وجه أي كان شريطة تسلحه بآليات تتسم بالمعقولية وليس مجرد “تخريجات” نابعة من الأهواء.
يصعب القول إذن بأن النتائج التي توصلنا إليها من خلال تطبيق السيميائيات على الزي الأمازيغي “تاحرويت” نتائج قطعية و يقينية، تكشف جميع الدلالات التي يتضمنها، وهذا نظرا لصعوبة الإحاطة بجميع جوانب هذا الزي، فالسيميائي وحده لن يتمكن من الإحاطة بها لأنه يحتاج إلى السوسيولوجي ليكتشف علاقة هذا الزي بالمجتمع و إلى اللساني ليكتشف البعد التداولي للتسمية و كذا إلى اللاهوتي ليكتشف الرمزية الدينية التي يتضمنها، دون أن ننسى المؤرخ الذي سيكون له دور كبير في هذه الدراسة وغيرهم من الباحثين المتخصصين في علوم أخرى. وبالتالي ف”تاحرويت” ليست مجرد قماش أسود و رموز بل هو أعمق من ذلك بكثير.
[1] ـ علم اللغة العام، فرديناند دي سوسير، ترجمة: يؤئيل يوسف عزيز، دار آفاق عربية،1985م،ص: 34.
[2] ـ الاتجاهات السيميولوجية المعاصرة، مارسيلو باسكال، ترجمة: جميد لحمداني، محمد العمري، عبد الرحمن ظكول، محمد الوالي، مبارك حنون، سلسلة البحث السيميائي، إفريقيا الشرق1987 الدار البيضاء ـ المغرب ص :19.
[3] ـ بيرس من خلال طرح منطقي فلسفي، وتشارلز موريس وفق الطرح السلوكي.
[4] ـ حقول سيميائية، التهامي العماري، مطبعة آنفوـ برانت فاس 2007، ص :19.
*خليد والعبدو: طالب باحث بماستر لسانيات النص بجامعة القاضي عياض مراكش