يُعتبر السوق الشعبي في مراكش، وخصوصًا سوق الداوديات، نموذجًا مثاليًا لفهم العلاقات الاجتماعية والثقافية في السياق المغربي، حيث يتجاوز السوق كونه فضاءً اقتصاديًا لتبادل السلع، ليصبح ساحة غنية بالرموز الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تعكس تفاعلات الأفراد اليومية، لفهم هذا السوق بعمق، يجب تحليل عناصره من منظور أنثروبولوجي وسوسيولوجي متكامل، حيث تتشابك الأدوار والممارسات اليومية لتشكيل نسيج اجتماعي معقد وغني بالدلالات.
في هذا السياق، يُعتبر السوق فضاءً اجتماعيًا تتداخل فيه العلاقات وتُبنى من خلال التفاعلات اليومية بين مختلف الفئات، فالتحايا اليومية مثل «صباح الخير نعم أسي» و«نهارك مبروك أ لالة» لا تعكس فقط اللباقة والحميمية، بل تُعد أدوات لتعزيز الروابط الاجتماعية وبناء علاقات قائمة على الانتماء والثقة، تعمل هذه التحايا كجسور تواصل تُشعر الأفراد بالارتباط بمجتمعهم وتعكس نمطًا من التفاعل يتسم بالدفء والقرب، إن الحوار بين الباعة والمشترين لا يقتصر على إتمام المعاملات التجارية، بل يحمل دلالات اجتماعية معقدة، عبارات مثل «أشنو خاصك أ مولاي؟» و«ها الخضيرة جديدة وطرية» تمثل تعابير شائعة تعزز الثقة بين الأطراف وتعكس الديناميكية الاجتماعية للسوق كفضاء تواصلي، يمتد هذا التفاعل ليشمل المارة، وخاصة الأمهات والجدات اللواتي يساهمن في المحادثات بتقديم النصائح حول الطهي أو التذكير بالاحتياجات الأساسية، مثلما يظهر في تدخلاتهن كقولهن: «أشوف أ عبد الرحيم، أشنو بغات السيدة؟»، ليجيبها بدوره «هاني مع أختي أ لالة خديجة، غير صبري نسالي مع السيد ونقضي»، تعكس هذه التدخلات عمق المعرفة الجماعية وتبرز دور النساء كحافظات للتراث الشعبي والمعرفة المتوارثة.
من جهة أخرى، يشكل السوق الشعبي في مراكش فضاءً تتجلى فيه ملامح التراث الثقافي المغربي بوضوح، إن المنتجات المعروضة مثل الأعشاب والتوابل ليست مجرد سلع غذائية، بل تمثل رموزًا لتراث ثقافي عريق، في الثقافة المغربية، تحمل التوابل والأعشاب دلالات خاصة تتجاوز الأبعاد الغذائية، حيث تُستخدم في التداوي والوقاية، يُعتبر الحديث عن التوابل أو الأعشاب في السوق بمثابة إعادة تفعيل للذاكرة الجماعية التي تربط بين الأجيال، حيث تحافظ الأمهات والجدات على هذا التراث من خلال نقل وصفاتهن وتجاربهن الحياتية، في هذا الإطار، تُبرز عبارات الباعة مثل «والله إلا تشهيت ليك هاد الصويلات، ها واحد الغديوة زيدها غير مطيييشات وزويتنات»، أهمية الثقافة الغذائية في المجتمع المغربي، إذ إن الطعام ليس مجرد وسيلة للبقاء، بل يشكل جزءًا من الهوية الجماعية، يتبادل الناس الوصفات والنصائح حول أفضل طرق إعداد الطعام، مما يعزز من قيمة الترابط الاجتماعي.
علاوة على ذلك، يُعتبر السوق الشعبي نموذجًا للتجارة التقليدية التي تعتمد على العلاقات المباشرة بين البائع والمشتري، في هذا السياق، تُعتبر الثقة المتبادلة أساس التعاملات، حيث لا تقتصر على جودة السلع فحسب، بل تشمل النصائح والتوجيهات التي يقدمها الباعة والمارة، تمتد العلاقة الاقتصادية هنا لتتجاوز كونها مجرد صفقة تجارية، لتتحول إلى علاقة اجتماعية ذات طابع إنساني، إن الاقتصاد في السوق لا يتعلق فقط بتبادل السلع، بل يتضمن أيضًا تبادل المعرفة والخبرات، فالبائع، بوصفه جزءًا من المجتمع، لا يقتصر دوره على بيع منتجاته، بل يقدم نصائح تتعلق باستخدامها، مما يُعكس تقاليد الاقتصاد المجتمعي ويحول الفضاء الاقتصادي إلى وسيلة لتعزيز الروابط الاجتماعية والثقافية.
يتجلى ذلك أيضًا في رمزية المكان الذي يحمله السوق في مراكش، وخاصةً في مواقع مثل الداوديات، إن هذه الأسواق ليست مجرد أماكن للتسوق، بل تمثل فضاءات اجتماعية تحتفظ بذاكرة عميقة للمدينة وسكانها، يُمثل السوق مزيجًا من القديم والحديث، حيث تتعايش تقاليد الأجداد مع متطلبات العصر الحديث، إن المكان هنا ليس مجرد فضاء جغرافي، بل هو حامل للهوية والتراث الثقافي، مما يعكس استمرارية التراث عبر الأشكال المادية والرمزية التي تحملها المنتجات والتفاعلات الاجتماعية.
تتجلى في السوق الشعبي أبعاد طقوسية خاصة خلال فترات الأعياد والمناسبات، حيث يتحول هذا الفضاء إلى ساحة نابضة بالحياة تعكس عمق الروابط الثقافية والدينية. ففي عاشوراء، على سبيل المثال، يصدح بائعو وبائعات الآلات الموسيقية التقليدية كالطبول والتعارج بالأغاني الشعبية، فيما تردد النساء: «هذا عاشور ما علينا الحكام أ لالة، عيد الميلاد كايحكموا الرجال أ لالة»، مما يخلق أجواء من الفرح والاحتفال. يجتمع المشترون، وخاصة النساء، حول هذا المشهد ويشاركون في ترديد المقطوعة، مما يعزز التآلف الاجتماعي ويعمق الإحساس بالانتماء، ويُعتبر التحضير للأعياد جزءًا أساسيًا من التقاليد المغربية، حيث تتطلب هذه المناسبات شراء مكونات خاصة من السوق لتحضير أطباق خاصة بكل مناسبة، مما يعكس الروابط الوثيقة بين المناسبات الدينية والاجتماعية والعادات المحلية. إن هذه الطقوس لا تقتصر على إحياء الهوية الثقافية فحسب، بل تعزز أيضًا شعور الانتماء الجماعي من خلال الممارسات الغذائية والاجتماعية المتأصلة في الثقافة المغربية، مما يساهم في تكوين شخصية متكاملة تنبض بالحياة والتقاليد.
في الختام، يمثل السوق الشعبي المراكشي فضاءً اجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا غنيًا بالدلالات، فهو أكثر من مجرد مكان للتجارة، إذ يُعد نقطة التقاء بين الأفراد والمجتمع، حيث تتشابك العلاقات الاجتماعية والثقافية في نسيج متين، عبر السوق، يتم إعادة إنتاج الهوية المغربية يوميًا، وتُحفظ الذاكرة الجماعية من خلال التفاعلات والممارسات التقليدية.
مليكة بوطالب
اقرأ أيضا
الملك محمد السادس يوجه رسالة ملكية إلى المشاركين في المناظرة الدولية حول العدالة الانتقالية
وجه الملك محمد السادس رسالة سامية إلى المشاركين في المناظرة الدولية حول موضوع “مسارات العدالة …