الحديث عن مصر، هو حديث عن دولة عظيمة ذات تاريخ مجيد ، دولة الفراعنة والاهرامات ودولة ذات ثقل تاريخي وسياسي ممتد في الزمان والمكان ، مصر هي قلب افريقيا وصحة القلب وانتظام نبضاته وسلامة شراينه يهم جسم افريقيا والعالم . ومن الصدف التاريخية العجيبة ان يقود محمد علي باشا نهضة مصر في مرحلة من المراحل الحاسمة في التاريخ وان يجابه الحملات الفرنسية والانجليزية وان يبني مجد مصر في عصر من العصور . لينهض من جديد محمد علي المقاول في سنة 2019 ليستنهض همم المصريين من اجل التغيير والثورة ضد اوضاع اقتصادية وسياسية اجمع كل المراقبين والمهتمين على انها اوضاع ماساوية.
ان الصراحة تقتضي ان نقول بان النظام العسكري الذي استولى على مقاليد السياسة في مصر منذ اجهاض ثورة 25 يناير وما تلاها من انتفاضات شعبية فرط كثيرا في الثقل الجيوسياسي والوزن الاقليمي لبلد يحسب له الف حساب في الحرب والسلام في الشرق الاوسط ، لكن نظام السيسي اصبح عنوان للانبطاح والتفريط في الموقع السياسي التاريخي لمصر ، نظام نشر الرعب البوليسي وملا السجون بالمعارضين واستغل فزاعة الاخوان من اجل الانقضاض على الحكم ومحاولة ارجاع عقارب الساعة الى الوراء بتعديل دستوري يحول مصر من بلد الحركية السياسية والحيوية الثقافية والفنية الى نظام الحزب الواحد والراي الواحد من بلد انجب العقاد والغيطاني و توفيق الحكيم و امين العالم.. الى بلد اصبحت فيه الثقافة جرما لا يغتفر واملفكر الحر معتقل لايحق له البوح ولو بكلمة . صحيح ان النظام المصري استطاع لحد الان اخماد كل المظاهرات والمطالبات الاصلاحية مستعملا اسلحته البوليسية الرهيبة و سجونه الكثيرة ، لكن حتما الشعب المصري اجلا او عاجلا سينتفض ضد هذا النظام الذي افقر شعبه فيما نظامه غارق في الفساد وبناء القصور وتشييد المدن الجديدة وامعن في اذلال شعبه بممارسات قمعية يستغل فيها القضاء لتصفية المعارضين السياسيين. نعم قد يستطيع نظام السيسي ان يفرض قبضته الامنية على الناس البسطاء الضعفاء ولكن حتما الازمة الاقتصادية الخانقة التي يرزح تحت نيرها الشعب المصري والانحباس السياسي الذي تعرفه البلاد كلها مؤشرات على ان القادم سيكون عبارة عن انتفاضات وثورات و انقلابات وقد يفتعل النظام السيساوي احداث ارهابية لتخويف الداخل المصري وتبرير قبضته القمعية من جهة ومن جهة اخرى حشد التعاطف الخارجي من قبل القوى الدولية التي يؤرقها الارهاب وترتعد حتى من ذكر اسمه . لذلك امام تصاعد عزلة النظام السياسي المصري داخليا وخارجيا يمكن ان يقدم النظام المصري على اي عمل يمكنه به الهاء الراي العام وتوجيه الراي العام الدولي نحوه . تفتح سيناريوهات عديدة امام نضال الشعب المصري وقواه التغييرية امام هذه العزلة الدولية لنظام سياسي عسكري فاشل :
1- ان يراهن الشعب على فئة من الجيش المصري التي سئمت وضاقت درعا بفساد السيسي والمقربين منه وبالتالي تحقيق تحالف وطني بين القوى المدنية وجزء من القوى العسكرية الاصلاحية لبناء نظام وطني انتقالي في افق اعطاء الكلمة للمدنيين ورجال السياسة والتدبير .
2- المراهنة على الانتفاضات والمظاهرات السلمية والصمود امام الالة القمعية و رص الصفوف والاستفادة من اخطاء الماضي ، حيث ان النظام المصري الحالي استغل الفرقة بين المصريين والاختلافات الايديولوجية بينهم وضخمها وعمل على توسيع الهوة بين القوى الاصلاحية والتغييرية ، فخسر العلماني والاسلامي واليبرالي الحكم وفاز العسكر في النهاية ، هذا الدرس السياسي يجب ان تستوعبه القوى السياسية والمدنية الطامحة لتغيير سلمي ديموقراطي نحو حكم ديموقراطي رشيد تستحقه مصر وشعبها العظيم .
لاشك ان راس النظام الحالي لا يملك كاريزما سياسية تؤهله لاقناع الداخل والخارج ، لا هو بمستوى جمال عبد الناصر ولا بجراة السادات و لا حتى بديبلوماسية مبارك ، لكن قوى دولية كبرى ستحاول ان تدافع عنه في المحيط والخليج ، فاسرائيل اكبر المتوجسين من اي تغيير راديكالي غير متوقع في مصر ، لذلك ستعمل اجهزتها بكل تاكيد في تعطيل اي نفس تغييري في مصر ليس في صالحها ، خصوصا وان اوضاع مصر تؤثر تاثيرا مباشرا على اوضاع اسرائيل والمنطقة ، فنظام ديموقراطي شعبي في مصر هو خسارة لا محالة لاسرائيل التي تطمح في عزل الفلسطينيين في افق ابتلاعهم واخضاعهم ، دول عربية اخرى ليس في صالحها اسقاط السيسي لانها تراهن على نظامه لقمع والتضييق بل واجتثات الاخوان المسلمين لذلك ستدعمه قوى اقليمية ودولية لان في بقائه في السلطة مصلحة استراتيجيه لها ، لكن رغم هذه المعطيات يبقى الداخل المصري وقواه الحيه ومستوى نضجه وتفاعله مع المعطيات الدولية هو المحدد الرئيسي في مستقبل نظام عسكري يفقد بريقه يوم بعد يوم . اذا ما قرر الشعب المصري النضال والصمود وعبر عن وحدة قواه و وضوح اهدافه فلا القوى الاقليمية ولا الدولية قادرة على ايقاف رغبة الشعوب والادلة التاريخية على ذلك كثيرة ، فالنظام التونسي السابق كان مدعوما من طرف فرنسا الى اخر يوم، لكن صرخة البوعزيزي واستعداد الشعب التونسي للتغيير اجهضت احلام فرنسا في بقاء نظام زين العابدين بن علي . نفس الشئ كان في امريكا الاتينية وفي افريقيا الجنوبية حيث احتضنت القوى الاستعمارية انظمة فاشية و سلحتها ضد شعوبها وحمتها استخبارتيا وامنيا لكن عندما هبت نسائم التغيير والمطالبة بالحرية سقطت انظمة البؤس والتبعية واعطيت الكلمة للشعوب ولو بعد تقديم فاتورات نضالية باهضة الاثمان من الدماء و التضحيات.
الشعب المصري امام امتحان الانتقال الديموقراطي السلمي قد ينجح هذه المرة او لا ينجح ولكن حتما ارادة الشعب المصري في التغيير الديموقراطي تكبر يوم بعد يوم وتتقوى ارادته في اللحاق بركاب الديموقراطيات الناشئة ، الثمن السياسي والحقوقي الذي سيدفعه احرار الشعب المصري قد يكون باهضا لكن التاريخ علمنا ان الشعوب قد تمرض ولكن لا تموت وان اسبانيا والبرتغال واليونان وايطاليا والمانيا… كانت رازحة الى عهد قريب تحت نير انظمة تسلطية عسكرية دموية لكنها اليوم حققت انتقالها الديموقراطي واصبحت شعوبها تنعم بالديموقراطية وحقوق الانسان والتداول السلمي على السلطة.
انغير بوبكر