الشعر الأمازيغي القديم: قراءة في الأنساق والمضامين -إزران ن تايري أنموذجا- (1)

تامازغا موطن السلم والحب

يحتفي تاريخ الرغبات والأحاسيس الكوني بالحب كأيقونة متأصلة في الإنسان منذ الأزل حتى اليوم، هذه “الفطرة” التي تنمو بداخلنا لهدف تحقيق التقارب والتجاذب بين البشر، وهي خاصية تختلف طبيعة التعبير عنها من إنسان ومن مجتمع لآخر، ويظل إيمازيغن من بين الشعوب الحاملة لقيم السلم والحب، وهنا تحتفظ الذاكرة الأمازيغية بروايات عشق خلدها التاريخ تضاهي في جماليتها القصص التي تحتفي بها الميثولوجيا الإنسانية، ونذكر منها:

ـ العشق الأسطوري لپوسيدون وإرتباطه بالفتاة ميدوسا، كما يتحدث التاريخ عن تيهيا وقصة حب جمعت بينها وبين الفارس الأمازيغي أكسيل، الى قصة حب رائعة شهدتها ربوع تامزغا، بطلاها الأكليذ الأمازيغي يوبا الثاني وسيلينا الثامنة الملقبة، وقصة حب أخرى جمعت إسلي وتاسليت، ويحتفي الأمازيغ حتى اليوم بذكراهما في موسم إملشيل، وفي نفس الإتجاه  تحيلنا رواية “سانت فالنتين”  في ما يعرف عالميا بعيد الحب إلى أن لها علاقة بأسطورة ذات جذور أمازيغية، وكما نعثر بين كتابات أبوليوس العديد من قصص الحب الشيقة، ونجد “ثاينيت” في الميثولوجيا الأمازيغية كرمز للخصوبة والحب، إضافة إلى الأساطير الشعبية التي غالبا ما توظف الحب في خدمة القيم الإنسانية.

هي روايات محورها الأساسي الحب والمرأة، قصص على الرغم من أنها وصلت إلينا مبتورة إلاّ أنها تحمل بين طياتها  جوهر عالم الجمال المثالي الحب والسلم الذي تميز به الأمازيغ عبر العصور؛ والذي تشكلت من خلاله أنماطا فنية أخذت أشكالا مختلفة تفرعت بين الرسومات والتماثيل وأصناف فنية أخرى.

ولعل من أهم النفحات الإبداعية الحاوية لذاكرة الحب في المجتمع الريفي نجد الشعر، أخذت مواضيعه طابعا مميزا إتسم به في كل عصر على حدة،  وبدوره إنعكس نمط الغزل والحب على إهتمام شعراء القرن الماضي فعبر كل منهم بطريقته ومن زاويته الخاصة.

الغزل والحب في الإيزري الأمازيغي بالريف

في هذا الجانب، نستطيع أن نكشف اللثام على جزء غني من تراثنا الأدبي الراقي إيزران، فالشاعر الأمازيغي لم يترك نمطا شعريا إلا وأطرق بابه، المهتمون بالشعر الأمازيغي القديم إعتبروا غرض الغزل والحب من أوفر النظم الشعرية نصيبا وأكبرها مكانة، ويعكس كل إيزري بالريف قصة لتجربة ذاتية نابعة عن عاطفة الفتوة، خاضت عشقا حقيقيا وعميقا، المتمعن في الإيزران الحاملة لجذوة الحب التي ألهمت وألهبت المتلقي الأمازيغي؛ أن صياغتها جاءت إستجابة لظروف بيئية معينة إستثمر فيها الشاعر القيمة الفنية للقبيلة وتقاليدها الإجتماعية، علاوة على إختزال الإيزري لتاريخ التوترات العاطفية والقلق. كما يتسم الإيزري بمميزات أخرى من بينها كثرة السؤال الواضح من خلال إنتشار الحوار في المساحات الشعرية (يناي، نيغاس، سقسيغ) مع تكرُر الشكوى، إلى جانب إستخدام الشاعر لحقل دلالي ورمزي غني بالمصطلحات والتعابير الإيحائية والوجدانية النابعة من الوسط الثقافي المحلي؛ فالمتأمل في طريقة صياغتها يجد أنها تدلنا على أمور تكتشف عن  ذات شاعرة ما تنفكّ ترسم  عوالم جمالية توظف الشوق واللوعة ومفارقة الأحباب وغيرها من الأحاسيس.

المناسبات كمجال خصب للتعبير الأدبي والجسدي بالريف

تعرف سيكولوجيا الإحتفال بأنها تمرد شعبي على الطابو وهي ظاهرة مقبولة ومسموح بها في إطار زمني وطقسي محدد، من خاصيتها أنها تتم وفق إلتزامات يمكن تحديدها في قواعد منتظمة تنضبط لأعراف وتقاليد مميزة لمجموعات بشرية معينة.

تنسحب هذه الظاهرة بكل ثقلها الرمزي على اللاوعي الفردي الأمازيغي الذي يرى في الشكل الإحتفالي فرصة ثمينة يسمح للمرأة الريفية البوح بكل حرية وطلاقة عن مكنوناتها العاطفية وأحاسيسها الدفينة وتفريغ كامل طاقتها المقموعة، وذلك عن طريق الرقص والغناء، ونستطيع أن نشير هنا إلى أن المرأة  تكيفت مع هذه الطقس الإحتفالي المتجذر في الثقافة الأمازيغية؛ بحيث لا تحاسب الفتاة على كل ما يصدر منها من كلام أمام الملأ بشرط أن ينشد في قالب الإيزري؛ إلاّ أنه ولإعتبارات إجتماعية نجد أنها دائما تتوخى الحذر الشديد داخل هذه المساحة التعبيرية من خلال إنتقاء الكلمات المعبرة والمشفرة تجنبا لأي رد فعل سلبي محتمل من طرف المجتمع الذكوري. وتختلف طريقة إنشاد الإيزري حسب الدافع النفسي وحسب ظروف الزمان والمكان والتي غالبا ما تكون وليدة اللحظة الناتجة عن تفاعل الشاعر (ة) مع حدث معين.

وتستعد المرأة الريفية هنا إلى تحرير نفسها من الهوامش الأنثوية المكبوتة داخل النسق الأبيسي وفتح فجوة على خطاب التمرد من خلال هذه الباقة الرائعة من الإيزران المشحونة بكلمات مميزة تبين بكل وضوح أنها أنشدت في أجواء إحتفالية لإرتباطها بالآلات موسيقية، وبعضها جاء بمثابة سهام من العواطف المؤججة ذات إيحاءات غير مباشرة تصوّب نحو قلوب المدعويين من فتيان وفتيات المدشر.

النماذج:

– ⵏⵛ ⴷ ⵎⴰⵎⵉ ⵉⵏⵓ ⵏ ⵜⴼⵀⴰⵎ ⵉ ⵎⵓⴹⴰ
ⵏ ⵜⴼⵀⴰⵎ ⵉ ⵢⵣⵔⴰⵏ ⵎⴰ ⵄⴰⵙⵙⴰⴽ ⴷ ⴰⵔⵔⵉⴹⴰ

– Nec d mami inu n tefham i muḍa
n tefham i yezran ma ɛessak d arriḍa

– ⴰ ⵜⵉⴱⵔⵉⵖⵉⵏ ⵏⵏⵖ ⵡⵇⵃⵏⵜ ⴰⴷⵊⵓⵏ ⵏⵏⵉ
ⴰⴷ ⵏⴼⴼⵖ ⴰⴷ ⵏⵉⵄⵢⴰⵔ ⴰ ⵏⵏⵉⵏⵉ ⵔⵎⵄⴰⵏⵉ

– A tibriɣin nneɣ weqḥent adjun nni
ad neffeɣ ad niɛyar a nnini remɛani

– ⴰ ⵉⵃⵔⴰⵎⵏ ⵏⵏⵖ ⴼⵀⵎⵜ ⵎⵉⵏ ⵇⴰⵔⵖ
ⵙⵙⴰⵡⴰⵔⵖ ⵙ ⵔⴰⵎⵄⴰⵏⵉ, ⵡⴰⵔ ⵢⴷⵊⵉ ⵜⵄⴰⴼⴼⴰⵔⵖ

– A iḥramen nneɣ fehmet min qqareɣ
ssawareɣ s remɛani, war yedji tɛeffareɣ

– ⴰ ⵢⴰ ⵜⴰⵄⵛⴰⵔⵜ ⵉⵏⵓ ⴰⵡⵉⴷ ⴰⵎⵣⵣⵓⵖ ⵏⵏⵎ
ⴰⵎ ⵉⵏⵉⵖ ⵔⵎⵄⴰⵏⵉ ⴷ ⵖⴰⵔ ⵜⴰⵡⵉⴷ ⵅⴼ ⵍⵍⵉⴼ ⵏⵏⵎ

– A ya taɛcart inu awid amezzuɣ nnem
am inniɣ remɛani d ɣar tawid xef llif nnem

تأثير السلطة الأبيسية  في مضمون إيزري الحب بالريف

من المعلوم أن المجتمع الريفي يتسم بخضوعه للتركيبة المؤسساتية التابعة للثقافة الذكورية المتسلطة، سلطة يكون فيها الذكر (الاب\الاخ) رمز الهيمنة والقوة في البيت والقبيلة، ويكون صاحب إصدار وتطبيق القوانين الصارمة المؤثرة في الحياة الإجتماعية والنفسية للمجتمع النسائي.

ونجد أن هذه الظاهرة الوافدة بدورها على البيئة الثقافية لشمال إفريقيا نتيجة لترسبات ثقافية أصبحت اليوم متجذرة في المجتمع الريفي الذي أمسى يقيّم أخلاق وتربية وعفة الفتاة إنطلاقا من علاقاتها بالجنس الآخر؛ “إضافة إلى مصادرة حقها في التعبير السوي. وفي ظل هذا الواقع؛ أدت صرامة التقاليد وحدة الرقابة المفرطة على المرأة إلى  محاصرة أو مصادرة إستمرار العلاقات العاطفية في ظروف آمنة، فالمرأة في ظل هذه القيود ملزمة بالحذر في ربط أية علاقة مع الرجل، ومازالت فرص إلتقاء الشاب بالفتاة وإقامة علاقة بينهما محدودة أو خفية (زهور كرم، ص: 58).

ونتيجة لهذه المنظومة الإجتماعية وضعت المرأة الأمازيغية أرضية رمزية لسلوك الدائرة الأبوية المتسلطة من خلال إبداعاتها الشعرية التي تستحضر فيها تلك القوة الخشنة الغير المرغوب فيها. وهذا ما سنحاول ان نكتشفه من خلال هذه النماذج من الإيزران:

– ⵢⵏⵏⴰ ⵢⵉ ⴱⴰⴱⴰ : ⴰⴷ ⵅⴰⴼⵎ ⵅⴷⵎⵖ ⵏⵏⵉⵜ
ⵔⵅⴷⵎⴰⵜ ⵏⵏⵛ ⴰ ⵜⵇⴹⴰ ⴰⴷ ⵜⵇⵇⵉⵎ ⵜⵏⵏⵉ ⵏ ⵍⵍⵉⴼ

– Yenna yi baba: ad xafm xedmeɣ nnit,
rxedmet nnec a teqḍa ad teqqim tenni n llif

– ⵙⵙⵇⵙⵉⵖⵜ ⵅⴼ ⵓⵎⵓⵏⵉ, ⵜⵏⵏⴰⵢ ⵡⴰⵔ ⵣⵎⵎⴰⵔⵖ
ⴰ ⴷⴰⵙ ⵜ ⵉⵏⵏⵉⵏ ⵉ ⴱⴰⴱⴰ, ⴰⵢⵢⴰⵡ ⴰ ⴷⴰⵢⵉ ⵉⵏⵖ!

– Sseqsiɣt xef umuni, tennay: war zemmareɣ
a das t innin i baba , ayyaw a dayi ineɣ!

– ⴼⵖⴻⵖⴷ ⴰⴷ ⵉⵄⵢⴰⵔⵖ ⵓⵔ ⵉⵏⵓ ⴷ ⵜⵉⵎⴷⵊⵉ
ⵉⵙⵎⵔⵛⴰⵢⵉ ⴱⴰⴱⴰ, ⵍⵍⵉⴼ ⵡⴰⵔ ⴷⴰ ⵢⴷⵊⵉ

– Fɣeɣd ad iɛyareɣ ur inu d timedji
ismercayi baba, llif war da yedji

– ⵎⵙⴰⴳⴰⵔⵖ ⴰⴽⵉⴷⵙ, ⵙⵙⴰⴷⴰⵔⵖ ⵜⵉⵟⵟⴰⵡⵉⵏ
ⵡⴰⵔ ⵢⴷⵊⵉ ⴷ ⴰⵄⴼⴼⴰⵔ ⴳⴳⵯⴷⵖ ⵍⵡⴰⵍⵉⴷⵉⵏ

– Msagareɣ akides, ssadareɣ tiṭṭawin
war yedji d aɛeffar ggwdeɣ lwalidin

– ⴰ ⵍⵡⴰⵍⵉⴷⵉⵏ ⵉⵏⵓ ⵃⴰⵍⴰⵍ ⴰⴷ ⴰⵢⵉ ⵏⵖⵏ
ⴳⴳⵉⵖ ⴰⵙ ⵏ ⴰⵔⵉⴹⴰ ⴷⵉ ⴷⵛⴰⵔ ⵎⴰⵏⵉ ⵣⴷⵖⵏ

– A lwalidin inu ḥalal ad ayi nɣen
ggiɣ as n arriḍa di dcar mani zedɣen

وفي السياق ذاته، يمكن بكل سهولة أن نستنتج من خلال مجموعة من الإيزران إستنجاد الفتاة الريفية ب “الأم” عوض الأب؛ هذه الشخصية السادية والقاسية القامعة للحريات الفردية داخل المجتمع، والأم هنا عبارة عن الملاذ الآمن والصدر الرحب للشكوى؛ للتخفيف عن جزء من الضغوطات العاطفية. في هذا الجانب أمامنا مجموعة من النماذج الشعرية التي تفضي فيها الشاعرة للأم بلواعج الحب والأشواق الحارقة، نستمع إلى مجموعة من الشاعرات ينشدن قائلات:

– ⴰ ⵢⴰ ⵔⴰⵍⵍⴰ ⵢⵎⵎⴰ, ⵍⵃⵓⴱ ⴰⴷ ⴰⵢⵉ ⵉⵏⵖ
ⵉⵡⵛⴰⵢⵉ ⵉ ⵢⵅⵙⴰⵏ ⵢⵓⴳⴳⵉ ⴰⴷ ⵣⵣⴰⵢⵉ ⵢⴼⴼⵖ

– A ya ralla yemma, lḥub ad ayi ineɣ
iwcayi i yexsan yuggi ad zzayi yeffeɣ

– ⴰ ⵢⴰ ⵔⴰⵍⵍⴰ ⵢⵎⵎⴰ, ⵎⵉⵏ ⴷⴰⵢⵉ ⵢⵓⵖⵉⵏ ⵇⴷⵉⵖ
ⴰⴷ ⵏ ⴷⴰⵔⵖ ⴰⵔⵔⵉⴹⴰ ⵣⴳ ⵡⵓⵔ ⴰⴷ ⴳⵏⴼⵉⵖ

– A ya ralla yemma, min dayi yuɣin qḍiɣ
ad n dareɣ arriḍa zeg wur ad genfiɣ

– ⴰ ⵢⴰ ⵔⴰⵍⵍⴰ ⵢⵎⵎⴰ, ⵢⵎⵎⴰ ⵜⵓⵃⵏⵉⵏⵜ ⵉⵏⵓ
ⵎⴰ ⴷ ⵄⴰⵎ ⵎⴰ ⴷ ⵄⴰⵎⴰⵢⵏ ⵖⴰⵔ ⵢⵙⴱⴰⵔ ⵓⵔ ⵉⵏⵓ

-A ya ralla yemma, yemma tuḥnint inu
ma d ɛam ma d ɛamayen ɣar yeṣbar wur inu

اقرأ أيضا

علماء لامعون من ماسة أخذوا من مدارس سوس (الجزء الرابع)

أحمد العدوي كانت بداية تجربته في المدارس العلمية، عندما أركبه أبوه عبد الله على ظهر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *