يقول حزب العدالة والتنمية عن نفسه أنه حزب اسلامي، بنى خطابه ومشروعه السياسي على مرجعية أخلاقية قوامها الاستقامة والاصلاح ثم محاربة الفساد… وعلى مرجعية دينية تمثل المشترك الديني لغالبية المغاربة. هاتين المرجعيتين جعلت منه البديل المنتظر لدى فئة لابأس بها من المغاربة في سياق 2011 المضطرب.
وقد بوأته ديمقراطية الواجهة – تختزل الفعل الديمقراطي في الاقتراع وفقط- الصدارة بنسبة مشاركة بلغت 45% سنة 2011. أما في سنة 2016 فقد حصل أيضا على المرتبة الأولى بما مجموعه مليون و 618 ألف صوت، أي 6.7% من الكتلة الناخبة، وهو رقم ينسف ذاك السند الشعبي الذي يروجه مريدو الحزب بمقولتهم الضبابية: لقد اختارنا الشعب.
قاد هذا الحزب الحكومة ودبر الشأن العام طيلة 10 سنوات من الزمن الحكومي وكانت الحصيلة صفرية بالمقارنة مع أفق الانتظار الذي سطرته حركة 20 فبراير والأمل المعقود على الدستور الجديد.
كرونولوجية تطور بعض الأحزاب السياسية في المغرب:
باستثناء الأحزاب التي ولدت من رحم الحركة الوطنية، عادة ما تمر الأحزاب السياسية في المغرب بالمراحل التالية:
- مرحلة الولادة القيصرية أو المشبوهة.
- مرحلة المراهقة السياسية أو المعارضة في حدودها الدنيا.
- مرحلة التملق والاستمالة (تملق الحزب للمخزن وعرض المخزن لإغراءاته على الحزب). هذا الطور تتحكم فيه معادلة المثير والاستجابة.
- مرحلة التدجين والتزاوج.
- مرحلة التدبير والاغتيال.
خضعت تجربة حزب العدالة والتنمية لنفس المسار مع فروقات مهمة تكمن في قيام الحزب بالاستجابة قبل أن يظهر له المثير، وهذا من أغرب ما جادت به الحياة الحزبية المغربية. فضلا عن كون تدجين هذا الحزب كان طوعا وبمباركة كهنته دون أدنى ممانعة ولو كانت من باب حفظ ماء الوجه كما يقول المغاربة.
يبدو من واقع الممارسة السياسية والتتبع اليومي أن هذا الحزب قطع تلك المراحل بنجاح، وهو الآن يعيش مرحلة صعبة تسير به نحو الانحدار والفتور وربما الاغتيال الرمزي، وذلك لعدة أسباب يمكن ذكر بعضها على النحو الآتي:
أولا: كوارث التدبير الحكومي:
لعب المناخ الإقليمي المتوتر الذي أسقط أنظمة سياسية عتيدة سنة 2011 دورا مهما –وما أفرزه من دستور جديد – في بزوغ شعاع أمل كبير لدى فئات عريضة من الشعب المغربي في تغيير حقيقي وفي حياة سياسية معقلنة وواضحة، تحترم ذكاء المواطن وتفعل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية.
المغاربة الذين توجهوا إلى صناديق الاقتراع وصوتوا على رمز المصباح ( وأنا واحد من منهم)، فعلوا ذلك لأنهم وثقوا بشعارات وخطاب إخوان “الإصلاح”. بيد أنه كانت صدمة هؤلاء المواطنين المكذوب عليهم كبيرة وكان ندمهم شديدا بعد ذلك.
عوض أن يباشر الحزب تنفيذ برنامجه الانتخابي ويفي بوعوده وينسجم مع خطابه، عمل بكل ما أوتي من قوة على طحن البسطاء وتفقير الفقراء وانهاك الطبقة المتوسطة والحفاظ على امتيازات الأغنياء… من رآنا مجانبين للصواب في هذا الحكم، فليتفضل ليجيب على الأسئلة الآتية والتي سبق للبرلماني المهاجري أن طرح بعضها:
من المسؤول عن مضاعفة الدين العمومي للمملكة المغربية بشكل رهيب؟ من المسؤول عن رفع الدعم عن المحروقات؟ من كذب على المغاربة سنة 2014 بقوله سأعطي 1000 درهم لكل أسرة فقيرة؟ من رفع سن تقاعد الموظفين إلى 63 سنة ونقص من معاشه وزاد في المساهمة ؟ من جعل من الأستاذ سلعة تباع وتشترى كما هو شأن المعدات؟ من بعثر عقارب ساعة المغاربة؟ من رفض تحديد سعر المحروقات؟ من زاد في التأمينات؟ بماذا قام حزب العدالة لتهدئة الأوضاع في الريف وجرادة سوى صك اتهام الانفصال؟ من المسؤول عن الارتباك والقرارات الارتجالية خلال جائحة كورونا؟ من يتحمل المسؤولية السياسة في وفاة 15 امرأة في حادثة الصويرة وأطفال ملعب تارودانت وحوادث النقل الفلاحي ثم حادثة القطار بسلا، وفاجعة معمل طنجة مؤخرا؟ من المسؤول عن تجميد أجور موظفين لعشر سنوات؟ من المسؤول عن إضرابات التجار؟ من المسؤول عن عرقلة وتعطيل مجموعة من الإصلاحات المهيكلة؟ من المسؤول عن تماطل ورش الجهوية المتقدمة؟ من منع الأرامل من الاستفادة من منحة برنامج تيسير؟ من سكت على جشع المدارس الخاصة ولوبيات الصحة والدواء؟ من تخلى عن صلاحيته الدستورية؟ من عطل التنمية بجهة درعا تافيلالت المكلومة؟ من وضع قنبلة التعاقد في قطاع حساس كقطاع التعليم؟ من قرر الاقتطاع من أجور الموظفين على حقهم في ممارسة الإضراب؟ من أخر تنزيل الدستور الجديد على أرض الواقع ومارس التحايل على القوانين التنظيمية (الأمازيغية نموذجا)؟ من يطالب اليوم بتأبيد لائحة الشباب؟ من يستثمر في الصمت عندما يتطلب الأمر التواصل مع المواطنين؟ من جمع بين التعويض والمعاش في نفس الوقت؟ ومن…؟ ومن…؟.
للأمانة وما تقتضيه الموضوعية فإن جل أحزاب الأغلبية سواء في الحكومة السابقة ولا في الحكومة الحالية تتحمل المسؤولية السياسية لهذا التدبير الحكومي. ومع ذلك ينفرد حزب العدالة بحصة الأسد من هذه المسؤولية بوصفه العقل المدبر الموجود على رأس الحكومتين معا.
ثانيا: الردة الحقوقية:
لم يسبق للعمل الحقوقي الوزاري أن نزل إلى هذا الحد الشكلي والصوري – حتى فيما قبل حكومة التناوب التوافقي- إلا في عهد حكومة حزب العدالة والتنمية.
عرف زمن الإخوان على المستوى الحقوقي تراجعات خطيرة، بموجبها تم اعتقال عدد لا يستهان به من الصحافيين على آرائهم السياسية، ناهيك عن إعفاء بعض القضاة من مهامهم بقرارات سياسية وبدون وجه حق. علاوة على ذلك ما شهدته محاكمات نشطاء الريف والصحافي حميد المهداوي من تجاوزات وخروقات جعلت العدالة في مهب المكالمات المجهولة. ماذا فعل وزير حقوق الإنسان مصطفى الرميد أمام هذا الوضع المأساوي سوى التلويح باستقالة يتيمة تخفي العجز السياسي بالعجز الصحي.
لما نكّل بالمواطن وعنف وضاق به الخناق حين يمارس حقه الدستوري في الاحتجاج، انتقل إلى العالم الافتراضي كآخر منفذ يعبر فيه عن آرائه السياسية المعارضة على مواقع التواصل الاجتماعي. اقترح حكماء الحكومة مشروع قانون (اختفى في ظروف غامضة) يهدف إلى تكميم أفواه نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي.
هكذا ساعد الإخوان -عن سبق إصرار- الدولة على التغول وابتلاع المكاسب التاريخية للشعب المغربي.
ثالثا: بعض الجرائم الأخلاقية:
سقط الإخوان في جرائم أخلاقية كاملة الأركان، تتعارض مع مرجعتيهم وخطابهم وتبرز مفارقة عجيبة بين النظر والعمل بين السمو الأخلاقي والطهرانية المزيفة.
في صفوف الإخوان ظهرت الخيانات الزوجية والسكر العلني وكان بعضهم بطل العلاقات الجنسية الرضائية الخارجة عن إطار الزواج… وبعضهم استغل وجوده بمناصب المسؤولية ليحقق مآرب ومصالح شخصية.
رفع الإخوان شعار الدفاع عن الطبقات الفقيرة، وحين وصلوا إلى تسيير الشأن العام تنكروا بكل جفاء للفقراء ودافعوا بكل استماتة على كل أشكال الريع التي يمكن الاستفادة منها والتي كانوا ضدها في مرحلة المعارضة.
في هذا السياق انفجر “الذيبخشي” على المغاربة الدراويش داخل قبة البرلمان أمام أنظار العالم قائلا لهم بكل وقاحة لن نعمل عندكم مجانا. وقبله أخذ رئيس الحكومة السابقة معاشا سمينا بدون أدنى استحياء وهو ليس في حاجة إليه في بلد يعيش فيه مليون انسان بأقل من 10دراهم في اليوم، ناهيك عن 80 في المائة من ساكنته بلا تغطية اجتماعية وصحية، و 70 في المائة من العائلات عاجزة عن استكمال الشهر بلا اقتراض، فضلا عن هوامش الهشاشة المترامية في البلاد. أينك يا عمر بن الخطاب؟ شتان بين الثرى والثريا.
وزيرا حقوق الإنسان والتشغيل (ينتميان إلى الحزب المعلوم) لم يصرحا بمستخدميهما في الضمان الاجتماعي. هذا حدث لا يحتاج لا إلى تعليق ولا إلى كتابة مؤدبة، هذه طامة لا ينفع معها سوى الصراخ وفحش الكلام.
قد يعترض أحد عن هذا الإحراج الأخلاقي الذي بيناه بالقول أن مجال السياسة مجال الواقعية والمرونة والتكييف والمراجعات المستمرة. لكن في نظرنا هذا التبرير يمكن أن يقبل من أي حزب آخر إلا حزب العدالة والتنمية، لأنه إذا رجعنا إلى أرشيفه المكتوب وإلى الخرجات الإعلامية لبعض قاداته وإلى تسويقه لبرامجه الانتخابية نجد أن كل المبادئ الأخلاقية التي سقطوا في نقيضها ممارسة، يتحدثون عليها بصيغة المطلق؛ والإطلاقية لا تترك أي مجال للنسبية.
اطلعت على حوار أجراه عبد الإله بن كيران مع جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 29 دجنبر 1992 ، على صفحة الفايسبوك للأستاذ مصطفى بوكرن. وهو يدعو الدولة لتطبيق الشريعة الإسلامية بما في ذلك تطبيق الحدود، مر أمام عيني مشهد درامي عنونته بمكر التاريخ. تخيل أيها القارئ الكريم، لو تحققت مطالب عبد الإله وأخذ المشرع المغربي بتطبيق الحدود فكم من أخ لعبد الإله سيجلد وكم من أخ سيرجم…؟ ألا يعرف هؤلاء أنه منذ زمن بعيد قال المغاربة “اللي كيحفر اوسع مزيان راه ممكن تكون ديالتوا”.
وفقا لمعطيات الواقع الملموس واستحضارا لقوانين التاريخ في ميدان السياسة – إن جاز القول أن للتاريخ قوانين- بالإضافة إلى تجارب الأحزاب السياسية التي سبقت حزب العدالة والتنمية إلى الاشتغال في ذات النسق السياسي، فإن الحزب يسير نحو الانكماش والضمور ليس بفعل العياء الطبيعي الذي يصيب جل الأحزاب بالعالم، وإنما بسبب الإعاقة التي أصابت ممارسته السياسية وتناقض قوله مع فعله تناقضا صارخا. أو الانشطار وتفريخ فلاليس حزبية جديدة تبني رصيدها على انتقاد الحزب الأم، وتساهم في تأتيت مشهد التعددية الحزبية الشكلية المغربية مستقبلا. وقد لا يحدث شيء من هذا كله، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن البنية الحزبية في المغرب لا تمتلك قرارها. فأي شيء إن لم يقل له كن فلن يكون.
أمام التصدعات الداخلية للحزب، ما ظهر منها وما بطن، وتنامي صراع الأجنحة، يحاول كائن سياسي يأبى قبول عطالته السياسية والتفرغ للاستمتاع بتقاعده الغليظ أن يقترح نفسه دائما منقذا من الهاوية، وأن عودته هي الحل. وعلى هذا الأساس يسوق حزبه على أنه حزب وطني. ولكنه في تقديرنا وطني فوق المعتاد؛ فكيف لحزب أن يكون وطنيا فقط على المواطنين في إطار مزايدات بخسة عندما يريدون أن يدفعوا بعجلة التغيير إلى الأمام، وينزع إلى المساومة والابتزاز في علاقته بالدولة بعبارات: “نحن من أنقذنا السفينة”… “الربيع لم ينتهي بعد”. وهو منخرط قلبا وقالبا في المشروع التخريبي للإخوان المسلمين للدولة المدنية. أليست هذه أوضح مظاهر الوصولية والانتفاعية والحربائية السياسية.؟
لم ينته حزب العدالة والتنمية بالمرة، ربما سيحصل على المرتبة الثانية أو الثالثة أو الرابعة، وسيشارك في الحكومة القادمة، لكنه سيعود القهقرى خطوة بعد خطوة حتى لا تكون له قيمة ولا وزن في المستقبل. أما إذا حصل العكس بقدرة قادر فذلك كارثة على المغاربة أجمعين.
لكل هذه الأسباب وغيرها لا يتسع المقال للإحاطة بها، ومن غير تطويل في الكلام، وحتى لا نحسب على صف اللامبالين بمصير ومستقبل بلدهم، نرفع شعار ” الشيطان ولا الإخوان” فليتحمل كل واحد منا مسؤوليته التاريخية أمام وطنه.
*أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي
زاوية نظر ذات وجاهة لكن للاسف بدون حجج مقنعة ( مجرد تصورات ذاتية و ليست موضوعية ) …. كنت أفضل على الاقل المقارنة بما هو موجود في هذا السياق التاريخي و الاجتماعي …. ليسوا الافضل بطبيعة الحال
Ayuz nnk yusad wawal nnagh tsrst aṭad ɣef uzmmul
مزيدا من التألق السي رشيد
كلام في الصميم