نال الطالب الباحث يوسف أقرقاش درجة الدكتوراه بميزة مشرف جدا، يوم أمس الثلاثاء 15 نونبر، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء، على إثر مناقشته لبحث نيل الدكتورة في الآداب، تكوين “الفلسفة والشأن العام”.
وساهم في مناقشة البحث المعنون ب “الأنظمة الدولتية وسؤال الديمقراطية” من منظور كل من كونستان ودو طوكفيل وستيوارت مل”، كل من الدكتور عبد اللطيف فتح الدين رئيسا ومقررا، والدكتور عبد العالي بل فقيه، المشرف على البحث، الدكتور محمد مزوز والدكتور عبدالله المتوكل ممتحنان ومقرران.
وتناول اقرقاش في بحثته موضوع الديمقراطية الحديثة حيث أكد في ملخص بحثه أنه هناك في الواقع الكثير من المؤلفات التي تنتقد الديمقراطية الحديثة؛ من قبيل “الديمقراطية المنقوصة”، لـبيير روزانفالون، أو “الديمقراطية ضد نفسها”، لـمارسيل غوشي، أو “ما هي الديمقراطية؟”، ألان تورين. غير أن أغلب هذه المؤلفات تنتقد الديمقراطية بالتركيز فقط على المبادئ التي تقوم عليها؛ فهي في نظرها إما تمثيلية غير حقيقية للمواطنين، أو لا تحترم مبدأ فصل السلط، أو أنها تستبد باسم سيادة القانون وحكم الأغلبية.
وأضاف أنه رغم تواتر المؤلفات المنتقدة للديمقراطية الحالية، ورغم وجود العشرات من المؤلفات التي تحاول إصلاح أعطاب الديمقراطية برسم مسار جديد لها، مع الاحتفاظ على أهم مبادئها؛ وهنا نشير على الخصوص إلى مؤلفات راولز وهابرماس؛ فمع ذلك لا يزال التذمر من الحكم التمثيلي أو النيابي يعم نفوس الناس، وهو ما عبرت عنه الكثير من الحركات الاحتجاجية في مختلف البلدان، سواء في فرنسا مع حركة السترات الصفراء، أو في لبنان حين عمت الاحتجاجات الرافضة للمؤسسات الحزبية شوارع بيروت، أو في الجزائر حيث خرج الناس للاحتجاج رافضين الولاية الخامسة للرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة.
مشيرا إلى أن هذا النوع من الاحتجاج قد وصل في الولايات المتحدة الأمريكية إلى حد اقتحام مبنى الكونغريس، حينما رفض أنصار دونالد ترامب فوز جون بايدن بانتخابات الرئاسة. ولا تزال الاحتجاجات الرافضة لصناديق الاقتراع تتكرر إلى يومنا هذا، وقد شاهدنا ذلك مؤخرا في البرازيل حيث خرج الناس للاحتجاج مطالبين بتدخل الجيش لرفض انتخاب لولا دا سيلفا رئيسا للبلاد.
وتسأل الطالب الباحث أنه إذا كانت المؤلفات المنتقدة للديمقراطية، أو المؤلفات الراغبة في وضعها على المسار الصحيح، لا تغير شيئا من واقع الحال، ألا يمكن أن نفترض أن معضلة الديمقراطية لا ترتبط بالمبادئ التي تأسست عليها، وهي الحكم التمثيلي وفصل السلط وسيادة القانون، وإنما بالنظام الذي يَشْرُطُها؟
والمقصود بكلمة نظام في هذا السياق مبدأ وحدة السيادة الذي تقوم عليها الدول الحديثة، أو دول ما بعد معاهدة وستفاليا سنة 1648 على وجه التحديد؛ فسواء وُجدت المبادئ السابقة أو لم توجد، فلا يمكن للحكم الحديث أن يقوم دون أن ترتكز السلطة في يد جهة سيادية واحدة؛ وحين نتحدث عن تركيز السلطة فنحن نقصد بذلك وضع اليد على السلط التالية: الحق في “الحياة والموت”، والحق في “الحرب والسلام”، والحق في فرض الضرائب، والحق في التشريع.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الحقوق ليست في الواقع حقوقا أربعة، بل إن كل حق من هذه الحقوق يشمل كل الحقوق الباقية؛ فمن يملك الحق في حياتنا يملك الحق في أموالنا وباقي الحقوق الأخرى؛ لذلك تحتفظ السلطة العليا في كل البلدان بحق الفيتو (حق الاعتراض على القرارات السياسية) وحق إعلان حالة الاستثناء أو الطوارئ، لضمان الحقوق السابقة واحتكارها.
إن هذا التنافر بين السيادة والديمقراطية، هو الذي دفعنا إلى البحث عن أزمة الديمقراطية الحديثة خارج مبادئها، وافتراض أن النظام المؤسس للدولة الحديثة هو ما يحول دون أي سيادة للمواطنين أو للجماعات التي ينضوون تحت لوائها؛ لذلك اخترنا عبارة “الأنظمة الدولتية وسؤال الديمقراطية” عنوانا لهذا البحث؛ كما اخترنا العودة إلى كل من كونستان ودو طوكفيل وستيوارت مل، لأنهم من الفلاسفة الأوائل الذين نبهوا إلى العيوب التي يقوم عليها نظام الحكم الديمقراطي الحديث؛ وحاولنا خلال هذا البحث أن نسمو بهذه الانتقادات إلى الوقوف على ما يحول دون ديمقراطية فعلية حقيقةً.
ومن أجل أن يبلغ الطالب الباحث اقرقاش مراميه من هذا البحث، قام بتقسيمه إلى ثلاثة أقسام؛ وخصص القسم الأول منه لبيان طبيعة المبادئ المؤسسة للديمقراطية الحديثة، بالتركيز على مبادئ “التمثيل” و”فصل السلط” و”سيادة القانون”. أما بخصوص المبدأ الأول، أي التمثيل، فقد أبرز التعارض الحاصل بين هذا المبدأ والحقوق السياسية التي كانت مكفولة للمواطنين داخل الأنظمة المدينية، أي الأنظمة التي تسود فيها الجماعة وليس الشعب كما اعتيد أن يقال؛
وبالنسبة للمبدأ الثاني، أي فصل السلط، فقد حاول الباحث أن يبين من جهة، بأن السلطة الحقيقية داخل الأنظمة الدولتية هي السلطة التنفيذية، وأن السلطتين الأخريين، أي التشريعية والقضائية، تابعتين للسلطة الأولى، ومن جهة أخرى، التناقض الحاصل بين مبدأ فصل السلط ومركزية الإدارة؛ وبالنسبة للمبدأ الثالث، أي سيادة القانون، فقد أشر إلى أن القانون، سواء كان وضعيا أو معياريا، فهو يقوم على فرضيات لا سبيل إلى التحقق منها، وكلها تتأسس على مبدأ “حكم الأغلبية”، وهو المبدأ نفسه الذي كان يلجأ إليه الملوك، قبل ظهور الدولة الدستورية، لاستعجال اتخاذ القرار حين يتعلق الأمر بإعلان الحرب أو الزيادة في الضرائب.
كما خصص القسم الثاني من البحث للوقوف على نتائج أو تبعات التسليم بالمبادئ المؤسسة للديمقراطية الحديثة، وتتمثل هذه التبعات في زيف صفة المواطنة داخل الديمقراطيات النيابية، حيث لم نعد نتحدث عن المواطنة باعتبارها citoyen، أي الحق في التمتع بكافة الحقوق السياسية، وإنما عن مواطنة باعتبارها حق إقامة citadin لا غير؛ كما انتفت المسؤولية السياسية من تدبير الشأن العام، إذ لم نعد نتحدث إلا عن الإقالات أو الاستقالات أو العقوبات التأديبية؛ وحتى حين يصل الأمر إلى القضاء، فالاختصاص يكون للقضاء الإداري، وهذا القضاء لم يستحدث إلا لحماية موظفي الدولة من المتابعة أمام القضاء العام، كما بين ذلك خلال البحث؛ وإذا غابت المواطنة، وغابت المسؤولية السياسية، فلا معنى للحديث عن المشروعية السياسية.
وفي القسم الثالث من البحث حاول أن بين ما المقصود بالأنظمة الدولتية والفرق بينها وبين الأنظمة المدينية، من خلال كشف زيف فرضية العقد الاجتماعي المؤسسة لنموذج الحكم الحديث، فنشأة الدولة لم تكن يوما نتيجة تعاقد بين الأفراد، وإنما هي في الواقع صنيعة الحرب، فالأمم الأوربية عرفت الدولة وهي تمارس الحرب، وهو ما تؤكده مضامين معاهدة وستفاليا.
وأكد أن نظرية العقد الاجتماعي قد سمحت بمراجعة العلاقة الحاصلة بين الحرب والسياسة بوجه عام، فليست “الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى” كما يقول كلاوزفيتز، بل العكس هو الصحيح، إن السياسة هي التي تعتبر استمرارا للحرب بوسائل أخرى. لكن إذا كنا نجهل أو نتجاهل هذه المعطيات، ونصر على إسقاط التعاريف أو المفاهيم السياسية التقليدية على الممارسة السياسية الحديثة، فالمآل هو أفول السياسي le politique وهيمنة الجماهير والخطابات الشعبوية على المشهد السياسي.
شكرا للنشر والاهتمام