الكاكيسطوقراطية Kakistocratie أو فن تدبير التفاهة ونظام تشجيع البلادة. ومكافأة العمل المتواضع على حساب الجودة. يا ما ترى صادفنا في محيطنا سواء العملي أو الإجتماعي نمادج لمسؤولين لا يستحقون المنصب الذي يتولونه لضعف تواصلهم أو قلة كفاءتهم، ويغطون الضعف بالإعتناء بالمظهر، وبالعجرفة وسوء أدب، أو بمجرد الإختباء وراء عظمة الإسم العائلي الذي ينحدرون منه.
فعلا لقد، رفعنا الرداءة درجات، وأسقطنا الجدية لأسفل السلم. فإنقلبت المفاهيم وضاع المعقول في الطريق.
حين تكافئ المتابر المجتهد المستحق، يعتبر المكافئة نتيجة طبيعية لثمرة جهوده، فلا تزيده سوى ثقة في نفسه وقدراته، بل مزيدا من الإنتاج والعطاء. وحين تكافئ المتواضع يعتبر المكافئة سخاءا منك وعليه أن يرد الجميل بالوفاء والإخلاص لك. ولا تزيده سوى كسلا وإمثثالا وطاعة لأوامر ذوي النعمة. وفي نهاية المطاف، الكل مستفيد من الوضع صاحب النعمة، ومتلقيها.
هنا يكمن الفرق بين تربية الكفاءة وصناعة الطاعة، وبهذا السلوك نصنع جيل الطيعين، أصحاب: “نعم السي الحاج”، والسي الحاج لم يحج المقام. البعض يعتبرها تصرف إحترام من أصحاب التربية الحسنة، والحال أنها سلوك التملق من جيل الخضوع، خشية إنقطاع النعمة.
بكل بساطة إنه زمن إنحطاط الذوق الرفيع. فقدنا حاسة تدوق العمل الجيد، ولم نعد نلمس الجودة في الأشياء؛ بفعل عملية ترويض الدوق، وتوالي التكرار، بدون كلل أو ملل، لدرجة فقدت ذاكرتنا مرجع الصواب، وتحطم فينا الشعور بالغلط. كما يقول المثل الشعبي: “الدوام كيهرس الرخام”.
ولنا في حياتنا اليومية إسوة لمن أراد أن يتعض. في الآونة الأخيرة تعايشنا مع التفاهة في كل المجالات. في السياسة مثلا، صدقنا حكومة الكفاءات، وحصدنا الخيبات. وهبنا أصواتنا لمنتخبين أداروا ظهورهم وخذلونا ليلة ظهور النتائج، ولم يستطيعوا مسايرة الإرادة السامية للبلاد، وتنزيل البرامج التنمية بالميدان لتواضع مستواهم وضعف تجربتهم الميدانية وقلة صدق نواياهم.
وفي الإعلام لم تعد للأقلام الحرة الجادة مساحة لجرأة الكتابة ومتعة القراءة. البرامج التلفزية كفت عن إنتاج المتعة وبرامج حوارية جادة وتحقيقات عميقة، فأطلقت العنان لبرامج ‘الشو’ السطحية، و’سيت كوم’ الميوعة. هكذا لم نعد نملك إعلاميين جرئين يعيدون للسلطة الرابعة هيبتها.
شجعنا الأداء المتواضع في الإدارات حتى فضل النزهاء المغادرة الطوعية تاركين المكاتب لأيادي الرشوة. وكرمنا الفنانين بلا إبداع مقتدر، كما صنعنا من مغنيين بلا أخلاق نجوم، فمات الفن الملتزم. قبلنا نجاح الكسالى في المدارس الحرة بالغش في الإمتحانات والنفخ في النقط، وظلوا تائهين بدون آفاق. وأصبحت ساحات الجامعات مسرح تجمعات شبابية للموضة، عوض حلقات الفكر والنقاش حول قضايا المجتمع.
مع النفخ في جلد المتواضع وجيبه، ويتسلق السلاليم بسرعة، فينتهي به الأمر في مرتبة أعلى من مستواه، وتتضخم الأنا، فيتمرد البعض منهم عن ذوي النعمة، لأن نفسه اللوامة والأمارة بالسوء صدقت اللعبة. وهكذا نعيد إنتاج الرداءة. كما يقول المثل: ” إذا أكرمت الكريم ملكته، وإذا أكرمت اللئيم تمرد”.
مع مرور الزمان وكثرة التفاهة، تعايشنا مع الرداءة حتى خضعنا لغسل الدماغ وفقدنا الوعي الجماعي وإستسلمنا لتشويه المنطق، وساد المجتمع جو من الهدانة والإستسلام للامعنى، وإستهلاك الحماقة، فأصبح العاقل أحمق والأحمق عاقل وعلى صواب.
السؤال هل العملية بناء مقصود لإخضاع شعب وترويض الناشئة، وتحويل مسار أمة نحو الإكتفاء بالقلة، والرضى والقناعة بالوضع الراهن، وقتل الطموح في النفوس، والخوف من التغيير لأنه قد يحمل المجهول والسقوط نحو الأسفل وضياع الحال؟ أم أن الأمر سيرورة طبيعية نتيجة إهمال إنقلبت إثره المعايير بشكل غير مقصود حصدنا وراءه نتيجة هزيلة وهزيمة أخلاقية غير متوقعة أخرجت المواقف عن السيطرة.
خلاصة القول، إنقاذ الذوق الرفيع والمنطق السليم ضرورة ملحة لإخراج البلاد من الركود الأخلاقي والجمود في العطاء قبل تمييع الساحة.