اللغة وإشكالية الطبقية.. الأمازيغية ومستعملوها نموذجا

بقلم: خليد والعبدو*

الملاحظ هو أن المناطق التي لا تزال محافظة على اللغة الأمازيغية هي في الواقع في أغلبها مناطق نائية (…) وهذا ما جعل الشمال الأفريقي في القرن التاسع عشر يواجه احتلالا عجيبا: جبالا وتلال فقيرة آهلة بالسكان يسكنها فلاحون، وسهول خصبة واسعة يرتادها مربو أغنام .[1] إن الحديث عن ثنائية الريف والحضر، الجبال والسهول، المدن والقرى هو في حد ذاته حديث عن ثنائية الغنى والفقر المرتبطة بما يسمى ” الطبقية” داخل المجتمع. ذاك أن” تاريخ كل مجتمع حتى يومنا هذا، لم يكن سوى تاريخ الصراعات الطبقية”[2]، بمعنى صراع بين طبقة غنية تضاهي ما يسمى ب”البرجوازية” و طبقة كادحة تضاهي ” البروليتاريا”[3]. لكن ما يميز البرجوازية عن الطبقة الغنية المذكورة هو كون الأولى تمتلك وسائل الإنتاج وتحتكرها و تستغل ” البروليتاريا” كوسيلة لتكديس الثروة، في حين أن الثانية لا تمتلك وسائل الإنتاج فقط بل تمتلك كل شيء ولا تقف عند حدود استغلال الطبقة الكادحة كعمال بل تتجاوزها إلى ما يمكن تسميته بامتصاص دماء عروقها واستعبادها. ولما كانت الطبقية تستدعي الاختلافات والفوارق الواضحة فإن الاختلاف اللغوي أمر وارد كذلك، لأنه ليس من المعقول أن يتحدث البرجوازي نفس النوعية اللغوية التي يتحدثها الكادح.إذا فهذه المرحلة تستوجب طرح بعض التساؤلات التي تتمثل في:

  • ما طبيعة الطبقية السائدة في المجتمعات الشمال أفريقية؟
  • ما هي العلاقة الممكنة بين اللغة باعتبارها أداة للتواصل الاجتماعي و الطبقية باعتبارها ظاهرة اجتماعية؟ أو بعبارة أخرى هل تختلف حقا النوعيات اللغوية تبعا للطبقات الاجتماعية ؟

تحدث “جورج لوكاش” عن الوعي الطبقي وعده “لاوعي محدد بالنسبة للطبقة، ولوضعها الاقتصادي والتاريخي والاجتماعي الخاص”.[4]

في الشمال الأفريقي وفي المغرب بالضبط سنتحدث عن طبقة كادحة تحت مسمى ” مستعملي الأمازيغية” و تحديدنا لهذه العينة تحت هذه التسمية ما هو إلا تفادي للوقوع في خطأ التسليم بأن جل الناطقين بالأمازيغية كادحون لأننا لا ننفي أن البرجوازية تتشكل كذلك من الناطقين بالأمازيغية لكن قد تخلو بشكل مريب من مستعمليها، أو التسليم بأن جل غير الناطقين بها برجوازيون. إنها مسألة تحديد وحسب بناءا على مبدأ الأكثرية؛ أي أن أكثر مستعملي الأمازيغية ينتمون للطبقة الكادحة. يتمثل الوضع الاقتصادي لهذه الطبقة في الاعتماد على الفلاحة المعيشية، وربما على ما يكسبونه من الأعمال الشاقة في المدن التي يضطرون إلى الهجرة إليها بحثا عن العمل. أما تاريخيا فهي عانت من ويلات الاستعمار وقاومت بشراسة ضده في سبيل الحرية. وكانت تخضع في الغالب لنفس النظام القبلي الاجتماعي. دون أن ننسى الطبيعة التي تميز البيئة التي تعيش بها وهي الجبال، هذه الجبال كانت عاملا مهما في حفاظها على نوعيتها اللغوية[5] رغم ما لحقها من تغيرات بفعل احتكاكها بنوعيات لغوية أخرى. وينبغي أن نشير هاهنا كذلك إلى طبقة كادحة تتقاسم نفس المعاناة مع “مستعملي الأمازيغية” إلا أن ما يميزهم هو استعمالهم لنوعية لغوية أخرى هي ” الدارجة المغربية” و لا يقطنون بالمناطق الجبلية بل في مناطق أقل وعورة و في بعض الأحيان في ضواحي المدن.

يصعب تحديد الطبقة البرجوازية داخل المجتمع المغربي تحديدا دقيقا، لأننا أمام سياسيين، موظفين، رجال أعمال وغيرهم، لكن أقل ما يمكننا تحديده أنهم يعيشون في ظروف تتجاوز العيش الكريم، وربما كان البعض منهم كادحين في وقت من الأوقات والبعض من سلالة عائلات الأعيان وآخرون من سلالة عائلات يهودية. ويحظون بمكانة مرموقة داخل المجتمع ويخول لهم رساميلهم ( الثقافية، الاجتماعية، المادية) التمتع بالسلطة.

إن التحديد السابق للطبقات الإجتماعية بالمغرب على شكل ثنائية ( البرجوازية/ الكادحون)، نابع من نظرة شخصية، لأن العديد من الدراسات تقسم الطبقات الإجتماعية بالمغرب إلى ثلاثة، وهنا نذكر التقسيم الذي اعتمده “عبد السلام أديب” في كتابه ” الصراع الطبقي والتحولات الإقتصادية والسياسية في المغرب”؛ حيث تحدث عن ثلاثية تتمثل في:

  • الطبقة الأولى (العليا)، وتتفرع إلى؛ فئة البرجوازية العليا، وفئة البرجوازية البيروقراطية والتقنوقراطية[6].
  • الطبقة الثانية (الوسطى)، وهي البرجوازية الصغرى أو المتوسطة.
  • الطبقة الثالثة (الدنيا)، وهي التي تضم شرائح عريضة من المجتمع المغربي؛ البروليتاريا العاملة، البروليتاريا العاملة في القطاع غير الرسمي أو المشردة، البروليتاريا المعطلة.

سنعود للقول بأن” كل المجتمعات السابقة قامت على التناحر بين الطبقات المضطهدة والمضطهدة”[7]. هذا التناحر يتخذ أشكالا عديدة لا تقف عند ما هو مادي بل يتجاوزه إلى ما هو معنوي ـ رمزي. إننا نصادف صراعات إيديولوجية أكثر مما نصادف صراعات حول الماديات، لذلك طغى ما هو رمزي على الصراع الطبقي، فلم يعد اللباس إلى حد ما دليلا على الانتماء إلى طبقة اجتماعية أو إلى أخرى لكن” الأشكال اللغوية فإنها على العكس من ذلك لا تزال تسمح بتصنيف المتكلم”[8]. بحسب هذا المعطى سيكون إلزاما علينا أن نحدد الفرو قات اللغوية بين البرجوازية والكادحين.

توظف الطبقة الكادحة بالمغرب نوعيات لغوية تسمى: تمازيغت، تاريفيت، تاشلحيت، ويوظف آخرون غير ناطقين بالأمازيغية نوعية تسمى ” الدارجة المغربية” هذه النوعيات لا تحظيان بمكانة مرموقة داخل المجتمع رغم كونهما نوعيات محلية، فكما يتم تحقير الطبقة الكادحة يتم تحقير لغتها كذلك، حتى أصبحت هذه النوعيات علامة يعرف بها الكادح، فما إن يترقى في السلم الاجتماعي   إلى درجة البرجوازي حتى يغير لغته.

أما البرجوازيون فيوظفون اللغات الأجنبية ( الإنجليزية والفرنسية) وبالأخص هذه الأخيرة، ويوظفون اللغة العربية حينما تستدعي الضرورة ذلك، في الخطابات الرسمية على سبيل المثال. هذه اللغات الأجنبية لها وزن كبير داخل المجتمع. لكننا نتساءل لماذا انتقلت اللغة من أداة للتواصل إلى أداة للتفاخر حتى أصبح اسم المثقف والبرجوازي مقترنا باللغة الفرنسية؟

سنفترض أن ما سمي ” بالحماية” كان السبب في تفوق الفرنسية على النوعيات اللغوية المحلية، لكن ما لا يمكن تقبله هو لماذا مازال التشبث بهذه اللغة قائما بالرغم من أن المستعمر الفرنسي جمع أغراضه ورحل منذ 1956م؟ أم أن البرجوازي المغربي يشعر بعقدة نقص عندما يوظف لغته الأم؟ أليس التشبث بالأصل فضيلة؟ كل هذه الأسئلة لن نجد لها جوابا إلا في أذهان هؤلاء البرجوازيين أنفسهم، وبالأخص السياسيين منهم لأنهم المسؤولون عن التخطيط والسياسة اللغوية.

أعتقد أن التبعية وتكريس الطبقية داخل المجتمع المغربي له دور أساسي كذلك في هذا التفاوت الذي نلحظه بين النوعيات اللغوية المحلية والنوعيات اللغويات الأجنبية، إلا أن أكبر خطر يهدد اللغة في ارتباطها بالطبقية هو نفور متكلميها الأصليين منها، وتفضيلهم للغات أجنبية. وسنورد هنا المثال الذي وظفه  “لويس جان كالفي”؛ حيث أن” أن إنجليزيا على طريقة (كوكني) لا يستطيع النطق بالهاء خارجا معها النفسُ، فإن فرنسيا نبره نبر بروفنسالي واضح لا يستطيع أن يطور مستقبله المهني في (Le (Monde، وعلى كل واحد منهما ليضمن إمكان الترقي الاجتماعي، أن يجهد في التخلي عن نبرته، وأن يتقيد بالمعيار المركزي الذي يزعم أنه لغة ناشرة وإن لم يكن في حقيقة الأمر سوى لغة القطيع”[9]. ينبغي إذا على الشخص ليوضع في خانة البرجوازيين أن يتخلى عن لغته الأم ويلهث وراء لغات غيره، هذا ما يفسر تخلي الناطقين بالأمازيغية – المنتمين للطبقة البرجوازية –  عن “أمازيغيتهم” فلم يعد أحد منهم يوظفها حتى في تواصله اليومي.

يقول ” فيرديناد دو سوسير” في كتابه ” علم اللغة العام”: ” كل أمة تؤمن بتفوق لغتها وتعد الذي لا يتكلم هذه اللغة أعجمياً[10].مما يعني أنه ليس هناك لغة أفضل من أخرى ولكن هناك تصورات، وكل تصور يرجح كفة اللغة التي يفضلها. إن مكانة اللغة لا يحددها نظامها التركيبي ولا غزارة مفرداتها أو حسن أسلوبها بل ما يحددها هي مكانة مستعمليها داخل المجتمع، وبالتالي فإن تطور اللغة واحتلالها للصدارة رهين باحتلال متحدثيها للصدارة، لذلك فالأمازيغية ستبقى حبيسة مكانتها المتواضعة ما لم يرتقي مستعملوها إلى أعلى مراتب السلم الاجتماعي، وينبغي ألا ننسى هاهنا عامل التشبث بالأصل الذي له دور مهم في هذه المسألة لأن الترقي قد يؤدي أحيانا إلى التخلي.

*طالب باحث بماستر لسانيات النص

[1] ـ الأمازيغ عبر التاريخ:نظرة موجزة في الأصول والهوية، العربي عقون، رباط نيت المغرب،الطبعة1،2010م،ص60.

[2] ـ بيان الحزب الشيوعي، كارل ماركس وفريدريك إنجلز، المكتبة الشيوعية الماوية، ص3

[3] ـ مصطلح البروليتاريا هي تلك الطبقة من طبقات المجتمع التي تكسب قوتها من بيع عملها حصرا، وليس من الربح الناجم عن رأسمال ما. فسعادتها وشقاؤها، وحياتها وموتها، ووجودها كله، أمور مرهونة بطلب العمل، وبالتالي بتتـابع أزمـات الـسوق وانتعاشها، وتأرجحات مزاحمة لا يردعها رادع. فالبروليتاريا، أو طبقة البروليتاريين هي، بكلمة واحدة، الطبقة الكادحـة فـي القرن التاسع عشر (أنظر: مبادئ الشيوعية، ص:2.).

[4] ـ التاريخ والوعي الطبقي، جورج لوكاش، دار الأندلس، الطبعة الثانية1982م،ص:53

[5] ـ استعمال مصطلح نوعية لغوية لتفادي الخلط بين اللهجة واللغة. وأول من اقترحه هو هدسون ليستخدم للدلالة على المظاهر المختلفة للغة.

[6] ـ  مصطلح البيروقراطية يدل على الرجال الذين يجلسون خلف المكاتب الحكومية ويمسكون بزمام السلطة. أما التقنوقراطية فهي فئة التقنيين الذين يستندون إلى كفاءاتهم التقنية في المجالات السياسية أو الاجتماعية وغيرها.

[7] ـ ماركس وانجلز، مرجع سابق، ص:15.

[8] ـ حرب اللغات والسياسات اللغوية، لويس جان كالفي، ترجمة: حسن حمزة، مراجعة: سلام بزي، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى 2008م، ص: 143.

[9] ـ لويس جان كالفي، مرجع سابق، ص:143.

[10] ـ علم اللغة العام، فرديناند دي سوسير، ترجمة: يؤئيل يوسف عزيز، دار آفاق عربية،1985م،ص:214.

 

 

شاهد أيضاً

أكادير تحتضن الملتقى الأول لتجار المواد الغذائية

تحتضن مدينة أكادير من 24 الى 26 يوليوز الجاري الملتقى الأول لجمعية تمونت لتجار المواد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *