قال المؤرخ امحمد جبرون، إن “التفكير في الأمازيغية والأمازيغ يبدو بحاجة ماسة إلى المراجعة وإعادة النظر في ضوء ما استجد من معطيات وكشوفات علمية وأثرية، وفي ضوء أيضا ما شهده الفكر الإنساني من تطورات نوعية في السنوات الأخيرة، فالأطروحات العرقية والأصوليات الثقافية ومعها كل الأطروحات الهوياتية الضيقة في المغرب أضحت غير جذابة، وفقدت الكثير من مظاهر الإغراء الذي كانت تتمتع به في العقود الماضية”.
وأضاف جبرون في مداخلته، بندوة “إضاءات حول تاريخ الأمازيغ”، يوم الجمعة الماضية، ضمن الدورة 17 لمهرجان ثويزا، “لا زال بعض المنتسبين للتيار الأمازيغي سلفيّي المنزع في علاقتهم بالأمازيغية في تجاهل تام لهذه التحولات النوعية، ولا زال بعضهم يردد أفكارا وفرضيات ثَبت بالملموس خطؤُها، مستغلا في ذلك وسائل الإذاعة الحديثة، ورخاوتها، ومستغلا أيضا “غريب الحديث” لشد الناس ولفت انتباههم إلى أفكاره”.
وأوضح الأستاذ الجامعي، أن “الحركة الثقافية الأمازيغية في المغرب المستقل نشأت في سياق سياسي وثقافي خاص واستثنائي، تميز أساسا بهيمنة الفكر القومي على الثقافة والسياسات الثقافية في كافة البلدان العربية، وفي ظل هيمنة الدولة الحديثة التي أممت الشأن الثقافي وجعلت منه سياسة رسمية حيث ظهرت لأول مرّة في تاريخنا مفاهيم من قبيل: اللغة الرسمية، الثقافة الوطنية، السياسة الثقافية… إلخ”.
وتابع: “تسبب هذا السياق من حيث قصد إلى ذلك أو لم يقصد في استفزاز الوجدان المحلّي/الثقافي، وأدى إلى ظهور ردود فعل ثقافية مشروعة تثير الانتباه إلى الخصوصية الثقافية المحلّية، وتُذكِّر بالأبعاد الأمازيغية في الهوية المغربية، وأن العروبة الثقافية والحضارية للمغرب التي عاش في ظلها قرونا عديدة ليست –أبدا- نسبا عرقيا، كما يحلو للبعض تصوير المسألة. وقد استفادت هذه الصحوة الأمازيغية من الكثير من الدراسات الثقافية والتاريخية الكلونيالية حول الأمازيغ والثقافة الأمازيغية في المغرب”.
ولفت المفكر جبرون إلى أن “التفكير في الأمازيغية وحول الأمازيغ بالرغم من هذه النشأة الملتبسة سياسيا والتي جعلته من جهة خصما وندّا للفكر القومي، وجعلته أيضا متوافقا مع بعض الأطروحات الكلونيالية، فإنه مع تقدم السنين، وبفضل جهود جيل من الباحثين والمفكرين استطاع هذا التفكير أن يتحرر من هذه الالتباسات وأن يؤصل لأطروحاته من خلال عدد من الأبحاث الأكاديمية التاريخية واللّيسانية والأنتروبولوجية، وقد استند هذا الجيل في خطابه على عدد من المصادر الإغريقية واللاتينية، وبعض نتائج الأبحاث الأثرية القديمة. لكن وبالرغم من هذا النضج الذي بلغه التفكير في الأمازيغية في العقود الأخيرة، فإنه لم يستطع ولحد اللحظة أن يجعل من الأمازيغية شأنا عاما –أقصد اجتماعيا- يعني كل المغاربة دون استثناء، وأنه كرس وضعها كونها مسألة تعني في أحسن الأحوال جمهور الناطقين باللغة الأمازيغية، المنتمين لجغرافيات محددة”.
وسجل أن “التفكير في الأمازيغية اليوم وبعد مرور أزيد من نصف قرن عن انطلاقه مختلف سياقه تماما عن سياق البدايات. ويمكن اختزال أهم المتغيرات التي شهدها المغرب ما بين الأمس واليوم في ثلاث متغيرات كبرى، تراجع خطاب القومية العربية، وصعود النزعات الوطنية والمحلّية، وخاصة بعد الانتكاسات العسكرية والسياسية التي مني بها القوميون العرب، الشيء الذي حفز الدول العربية بما فيها المغرب على إعادة تعريف هويتها، وتبني أطروحات أكثر انفتاحا واستيعابا للخصوصية المحلّية؛ وتبني الدولة بصورة غير مباشرة، وربما في بعض الأحيان دون وعي، لمقاربات نيوليبرالية في مجال الثقافة، والتي تتراجع فيها عن دورها باعتبارها فاعلا ثقافيا رئيسيا، يتحمل مسؤولية تصميم سياسات التأميم الثقافي، إلى مجرد مستأمن وراع للتحرر الثقافي، حيث تسعى جهدها إلى تنظيم التنافس في سوق الثقافة وتخليقه؛ وظهور أبحاث وحقائق علمية جديدة تهم بشكل كبير عناصر حيوية وفرضيات مركزية في الأطروحة الأمازيغية كقضايا اللغة والعرق، وخاصة تلك التي تحيل بشكل أساس على مجالي الأركيولوجيا والتاريخ”.
وشدد على أن “التفكير في الأمازيغية في ضوء هذه المتغيرات الكبرى يحتاج إلى إطار جديد مختلف تماما عن الإطار الحالي الذي أضحى تقليديا، ومنتجا للتشنجات الاجتماعية والانقسامات الثقافية”.
مفهوم الأمازيغ
وأورد أن “الكثير من النشطاء والفاعلين في حقل الثقافة والحركة الأمازيغيتين يعتقدون أن الأمازيغ السكان الأصليون للمغرب هم عرق وإثنية لها خصوصيتها واستقلاليتها التي تتأسس على ما هو بيولوجي وتمتد إلى اللغة والثقافة ونمط العيش، وهذا الاعتقاد هو –للأسف الشديد- اعتقاد خاطئ، ولا تؤيده الحقائق العلمية والأبحاث الأركيولوجية، فالأمازيغ على الحقيقة –وبغض النظر عن التسمية- هم نسيج عرقي متنوع، يتشكل من فسيفساء بشري متعدد الروافد، فبلاد المغرب بحكم موقعها الجغرافي استقطبت عناصر بشرية مختلفة من الشمال والشرق والجنوب مكونة بذلك قاعدة السكان الأصلية، التي ما فتئت تتطور عبر قرون”.
وأشار المتحدث ذاته، إلى أنه “ظهرت مؤخرا دراسة غاية في الأهمية على مجلة “ناتوغ” (Nature) الشهيرة، نشرت في 7 يونيو الماضي تؤكد من خلال تحليل جيني لبقايا عظمية في شمال المغرب توافد مهاجرين من بلاد الشام ومن أوروبا إلى المغرب، وذلك حوالي 8.000 سنة قبل الحاضر. ولم تقف الهجرات نحو المغرب في هذا التاريخ بل استمرت وفي ظروف مختلفة، وخاصة تلك المتعلقة بالتحولات المناخية في الألف الثانية قبل الميلاد بعد ظهور الصحراء في الجنوب حيث صعد بعض ساكنة الجنوب نحو الشمال”.
وأبرز أن “المغرب في الفترة التي اصطدم فيها بالرومان حوالي 40 م استقبل آلاف الجنود الرومان من أصول غالية (فرنسا) وإيبيرية، استقروا في وليلي وسلا وتمودة وطنجي وسبتوم، كما عددا كبيرا من الموريين المغاربة انتقلوا إلى إيبيريا وبلاد الغال للدفاع عن الدولة الرومانية في أوروبا الغربية. ومن ثم؛ فسكان المغرب هم أكبر من مجرد عرق أو إثنية معينة، بل هم خليط متنوع الأصول الجينية، يختلف بين عناصر محلّية قديمة وأخرى وافدة من الشرق والشمال والجنوب”.
حول تسمية الأمازيغ في القديم
وذكر صاحب كتب حول تاريخ المغرب، أن “اسم الأمازيغ يرد بوضوح وبكثرة في النصوص العربية الوسيطية، لكنه لا يرد في النصوص التاريخية القديمة. وقد حاول بعض الباحثين إيجاد أصل لهذه التسمية في النصوص الإغريقية القديمة، لكن محاولتهم تبقى في جميع الأحوال مجرد فرضية واحتمال، ولا ترقى إلى النتيجة العلمية المقطوع بصحتها أو الموثوق بها إلى حد بعيد. تقول هذه الفرضية أن المصريون القدامى كانوا يسمون الأمازيغ “ماشوش”، لأن اللغة المصرية القديمة كانت تقلب حَرَفا الزاي والغين شينا”.
واسترسل قائلا: “ذكرتهم مصادر أغريقية أخرى بأسماء أخرى مثل ماكسيس عند هيرودوت ومازاكس ومازيكس لدى آخرين. غير أن هذا الزعم يبدو غير مسلم به، ولا تؤيده الكثير من الوقائع، فهيرودوت وأمثاله كتبوا عن سكان شمال إفريقيا من بعيد، ولم يسبق لهم أن زاروها، فهذه الفرضية وفي أفضل الحالات تنطيق على الجماعات البشرية التي كانت تسكن غرب مصر، كما أن المصادر الإغريقية تربط هؤلاء الأمازيغ باليونان، ويصعب تصديقها فيما يتعلق بسكان الغرب”.
وأفاد أن “الجدير بالتأمل والاعتبار في هذا السياق هو اختفاء اسم الأمازيغ من التواريخ التي تركها وراءهم المؤرخون اللاتين ومن جاء بعدهم أمثال حانون القرطاجي وسكيلاكس المزعوم (الإغريقي)، وسالوست وسترابون (ق. 1 قبل الميلاد)، وبلين الشيخ (79م)، واستعملوا بالمقابل أسماء أخرى مثل الموريين، الجيتوليين، والأثيوبيين، والأطوليليس، والبكاوات، وزكرنسيس، ويشير بعض هؤلاء أن الأسماء المستعملة هي أسماء كانت دارجة على لسان الأهالي، ومن ثمّ، فالراجح أن لفظ الأمازيغ هو لفظ حديث مرتبط بالعصور الوسطى وليس بالعصور القديمة، ومرتبط أيضا بالتداول الشفاهي أكثر من ارتباطه بالتداول الكتابي والعالم. وباعتبار هذه الحداثة فهو يحيل على ساكنة متعددة الأعراق، تتحدث لغة واحدة باختلاف لهجاتها وهي اللغة الأمازيغية”.
عن اللغة الأمازيغية والازدواجية اللغوية في التاريخ القديم
وأكد أن “اللغة الأمازيغية التي يتواصل بها عدد كبير من سكان المغرب اليوم كتبت بأشكال مختلفة، ويعتبر حرف التيفيناغ أحد أنواع الخطوط التي كتبت بها، واستعمله الطوارق في الجنوب، وفي المقابل استعمل مغاربة الشمال رسما وحرفا آخر لا زال لحد الآن لغزا غير مقروء، فهو يختلف في بعض حروفه عن التيفيناغ رسما وصوتا، ومن ناحية أخرى، إن هذا الوضع اللغوي يدفعنا للتساؤل عن السر وراء عزوف المغاربة والموريين بصفة خاصة عن كتابة لغتهم وترسيمها وهم الذين أسسوا دولة استغرقت على أقل تقدير حوالي خمسة قرون”.
ونبه إلى أنه “من المثير الانتباه أن المغاربة القدامى على الأقل منذ العهد الموري اختاروا الازدواجية اللغوية، واتخذوا إلى جانب لغتهم المحلّية لغة أجنبية مثل البونية في مرحلة من المراحل واللاتينية في مرحلة أخرى، حيث كانت اللغات الأجنبية لغة الإدارة والتجارة والدبلوماسية. وما من شك أن الموقع الجغرافي للمغرب باعتباره منطقة تواصل وعبور بشري أكسبته هذه الخاصية أو القابلية للازدواجية”.
وشدد على أن “إعادة التفكير في الأمازيغية اليوم وبعد كل الذي مرّ بنا في العقود الثلاثة الماضية، والذي أسفر عن عدد من الإصلاحات كانت الغاية من ورائها استعادة توازننا الثقافي والهوياتي، والتنبيه إلى بعض الانحرافات المكلفة ذات الطابع الإثني والسياسي. لقد آن الأوان أن يتخلص التفكير في الأمازيغية من الروح الاحتجاجي، ومن خطاب المظلومية، والأقلية، والعرقية أو بعبارة أخرى التخلص من الطابع الأصولي الذي يجعلها بديلا عن الكلِّ، مستقلة بذاتها عن الآخر. وأن يعمل في المقابل على استعادة إرثنا التاريخي وتقاليد العيش المشترك التي عاش بها أجدادنا قرونا عديدة، وأن يعمل أيضا على تجاوز المضايق الثقافية التي وضعتنا فيها الحداثة السياسية ودولتها القومية بحكمة وتبصر”.
المصدر: telquel