المخزن بين النهضة الريفية وفوبيا الحراك الاحتجاجي السلمي

وكيم الزياني، 12 مارس 2017 

بعدما تابعنا الحراك الاحتجاجي السلمي بالريف، تقريبا لمدة خمسة أشهر، والتي انطلقت منذ جريمة قتل المواطن المسمى قيد حياته “محسن فكري” بتلك الطريقة المشينة والبشعة وذلك بطحن جسمه في شاحنة للنفايات، كان ذلك المشهد المخزي الحاط بكرامة الإنسان سببا كافيا لتنتفض ساكنة الحسيمة والريف عامة، لتشيع سماك الحسيمة شهيدا للكرامة ولقمة العيش وضد الحكرة والتسلط. بعد كل هذه الأشهر من الاحتجاج الحضاري السلمي الذي أبهر العالم، وتحدثت عنه فضائيات ومنابر ورقية دولية، يمكن أن نسلم بأننا أمام “نهضة ريفية” بالفعل.

نعم سنسميها “نهضة ريفية” بعدما تأكد لنا ميدانيا بالوعي الريفي الجماعي المشترك الكبير الذي يقف وراء هذا الحراك غير المسبوق في تاريخ الريف المعاصر.

نهضة ريفية سجلت نقلة نوعية في أساليب الدفاع الذاتي الجماعي للريفيين عن أنفسهم ضد الحكرة التي نخرت منطقتهم بسياسات مخزنية مختلفة منذ عقود من السنين، نعم هي سنين من الحرمان والتسلط.

نهضة ريفية تنتصر للكرامة أولا، والعدالة الاجتماعية والجمالية ثانيا، وإحقاق الحرية وحقوق الإنسان ثالثا.

نهضة ريفية بقيادة شباب وشابات ريفيين واعين بواجبهم التاريخي في الدفاع عن حقوقهم العادلة والمشروعة كمواطنين ومواطنات لا يقبلون الظلم والمهانة والحكرة والتسلط فوق أرضهم، ومؤطرين بخطاب ثقافة حقوق الإنسان، وعارفين بالثقل التاريخي الكبير والجريح الذي يجرونه منذ عقود من السنين، سواء ذلك الذي كان وراءه الاستعمار (إمطار الريف بالغازات الكيماوية السامة بمباركة السلطان المخزني في العشرينيات من القرن الماضي)، ذلك الجرح الذي ما زال الريفيون يؤدون ثمنه يوميا، حيث يموت المواطن الريفي في صمت بسبب مرض السرطان الخبيث والمتفشي بكثرة في هذه المنطقة الجغرافية على غرار مناطق أخرى من المغرب، يرجح الباحثون في الموضوع بوجود علاقة سببية بين هذا المرض الفتاك والغازات الكيماوية التي قصف بها الريف أيام الاستعمار الإسباني للريف بهدف القضاء الجذري عن المقاومة الريفية بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي.

كما هم –الريفيون- واعون بالثقل التاريخي المؤلم الذي كان النظام المخزني المغربي وراء ارتكابه في حق الريفيين أثناء صداماته التاريخية مع الريف، وبالأخص عام 1958/1959 عندما انتفض الريف بقيادة ميس ن سلام أمزيان، أو حين ذبح الريفيون من الوريد إلى الوريد حيث سنوات المقابر الجماعية في انتفاضة “الخبز والكرامة” سنة 1984، مرورا بمعاناتهم مع زلزال الحسيمة سنة 2004 وما تلى ذلك من احتجاجات واسعة في جل مناطق الريف، وصولا إلى سنة 2011 حيث الحراك العشريني الذي أدى فيه الريفيون ضريبة كبيرة ومؤلمة من أجل التغيير الحقيقي، ثم سنة 2016 حيث طحن الشهيد محسن فكرى بطريقة توحي بكثير من الحقد والحكرة والتسلط تجاه الريفيين من قبل رجالات السلطة.

هذه كلها سنوات عرفت أشد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي كان ضحاياها الريفيين.

هذا جزء من الثقل التاريخي المؤلم، ما زال الريفيون يحملون جراحه على ظهورهم، جراح لم يندمل بعد، رغم شعارات “العهد الجديد” والإنصاف والمصالحة” “والتنمية البشرية”.

فلا إنصاف  تحقف ولا مصالحة تمت، ولا عهد تغير، ولا تنمية فعلت بالريف… هكذا يعبر الآلاف من المحتجين السلميين في شعاراتهم بقيادة أيقونة الحراك الريفي “ناصر الزفزافي”.

رضع، أطفال، شباب، شابات، نساء، رجال، شيوخ، كهول… نهضة تشارك فيها جل الفئات العمرية، وتنزل فيها إلى الشارع كل الفئات الاجتماعية المتضررة من السياسيات العمومية التي تنهجها الدولة بالريف، من فلاحين بسطاء، تجار، طلبة، تلاميذ، مثقفين، فنانين، جمعويين، حقوقيين، أطباء، أساتذة، معطلين… رافعين شعارات مرتبطة جلها بقيم المواطنة الحقة، المساواة، العدالة الاجتماعية، الحرية، والقيم الكونية لحقوق الإنسان، وفي تناغم ريفي-ريفي مذوبا جل الخلافات الشخصية والاختلافات السياسية بعقل جمعي جماعي ريفي  مشترك.

وفي يقضة تامة لحماية  الحراك السلمي من أي جهة كانت تسعى إلى تحوير المسار السلمي والحضاري لهذه النهضة الريفية المعاصرة، سواء من قبل السلطة عن طريق محاولة جر النشطاء إلى الاصطدام المباشر مع الأجهزة القمعية في كثير من المناسبات تارة، وتارة أخرى مع بعض “البلطجية” الذين تسخرهم لأجل ذلك. أو بطرق غير مباشرة عن طريق تسخير بعض بيادقها من “الإعلاميين” الذين توظفهم لممارسة حروب بالوكالة في مهاجمة الحراك السلمي ونشطاءه، ونشر بعض المغالطات والأحكام السلطوية الجاهزة عن الحراك لتشتيته وتشويهه وخلط الأوراق بين ما هو ميداني واقعي يعبر عنه الاحتجاج السلمي ومطالبه العادلة وبين ما تروج له ذات “البروبندا الإعلامية” المحسوبة عن السلطة لغرض في نفس يعقوب، بالإضافة إلى تسخير بعض “رجال السلطة” الذين يختبؤون وراء جلباب العمل الحقوقي والجمعوي لمهاجمة الحراك ونشطاءه وتلميع الصورة البشعة للسلطة بالريف،  لا لشيء إلى لأنها تستفيد من الوضع القائم، لذلك لا تريد أن يتغير، تريد أن تحافظ عليه حتى يكون لها نصيب من “الريع الاقتصادي”.

ولا ننسى كذلك تسخير بعض “وعاظ السلاطين” شيوخ الوهابية الذين يهتبؤون وراء جلباب ديني يحذرون من “الفتة” ويتغنون ب “الإستقرار” ويهللون ب “شرع الله” وآخرها خروج المدعو “أبو شيماء” بعد مسيرة النساء الريفيات الاحتجاجية يوم 8 مارس 2017 بمدينة الحسيمة التي شارك فيها الآلاف من النسوة للتعبير عن حقوقهن بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، مسيرة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الريف المعاصر ولا في تاريخ المغرب، حيث خرجن بعيدا عن “اللوبيات النسائية الجمعوية” ودون تعليمات التيليكوموند من قبل ماسكي زمام العمل الحقوقي النسائي بالريف. خرج الشيخ السلفي السالف الذكر في تسجيل صوتي يهاجم نساء الريف الحرائر بطريقة خسيسة توحي بأن هناك جهات لا تريد وجود صوت المرأة الريفية الحرة في الشارع، المرأة التي خرجت إلى الشارع بعائلاتها وصغارها رافعة شعارات  تدعو إلى احتضان الحراك الاحتجاجي السلمي بالريف والتشبث به وبالوحدة الريفية من أجل إنصاف المنطقة وعلى رأسها قضية المرأة.

سبق وقلنا في مقالات سابقة عن الحراك الاحتجاجي السلمي والحضاري بالريف، أن اختيار شعار “السلمية” من طرف الريفيين للدفاع الذاتي عن أنفسهم ومطالبهم وحقوقهم في الشارع العام أضحى يشكل حفيظة لدى صانعي القرار السياسي والعمومي والأمني بالمغرب عامة والريف خاصة.

قد يختلف معنا البعض في هذه المعادلة ويقول لنا عكسها، بداعي أن المغرب “اختار منذ سنة 2011 التغيير في إطار الاستقرار والأمن”. وبالتالي أي حراك سلمي حضاري ترحب به “السلطة” لأنه يتماشى مع شعاراتها الهلامية التي تتجنب “الفوضى” و”الفتنة” بتعبيرها دائما.

إلا أن حقيقة عقلية السلطة بالمغرب تفهم الأمور عكسها. لأن الحراك الاحتجاج السلمي والحضاري هو الذي يعري صورة الدولة ومؤسساتها داخليا وخارجيا، وهو الذي يسقط قناع سياساتها وشعاراتها المزيفة أمام المنتظم الدولي، كما أن الحراك السلمي لا يخول لها شرعية التدخل قانونيا لوقفه وبالخصوص إذا كان محميا بآلاف المحتجين مؤمنين بنزع حقوقهم بشكل سلمي، وواعين بمخاطر “اللاسلمية” على استمرار حراكهم وتحقيق مطالبهم.

لذلك تجد السلطة بجل تشكلاتها تحاول أن تجر الحراك السلمي إلى مستنقع “اللاسلم” أي إحداث الشغب والعنف بتسخير “البلطجية” تارة، وتارة أخرى بمحاولة جر الحراك إلى الاصطدام المباشر مع “الأجهزة الأمنية”. وهذا ما تتبعناه في تعامل السلطة مع الحراك الإحتجاجي السلمي بالريف.

هي – السلطة- تريد تحوير مسار الحراك السلمي إلى العنف حتى تخول لنفسها حق التدخل بداعي حماية “الممتلكات” والحفاظ على “الأمن والاستقرار”. هكذا فقط تستطيع الدولة التحكم في مسار أي حراك اجتماعي سلمي.

فما تتبعناه في تعامل الدولة ب “المقاربة الأكثر أمنية” بدل المقاربة الواقعية التي تتمثل في تقديم حلول والاستجابة لمطالب الحراك بالريف، له ما يبرره في عقلية السلطة والتي غالبا ما تقرأ الأوضاع الداخلية في سياقها الإقليمي والدولي. لذلك فوبيا الحراك السلمي حاضرة بقوة، وأضحى هاجسا لدا السلطة في تعاملها معه. فالدولة المغربية بعد 2011 لم يعد لها هاجس يقلقها أكثر من صورتها أمام المنتظم الدولي.

فالحراك الاحتجاجي في الريف استطاع بسلميته وحضاريته أن يصل إلى العالمية، وأضحى حدثا رئيسيا في المنابر الدولية. وهذا الأمر شكل فوبيا لدى الدولة المغربية من الحراك، لذلك تجدها تريد من خلال تعاملها مع الحراك أن تخرجه عن مساره السلمي، بغية التدخل والتحكم فيه، كما سبق وقلت، بمبرر “الحفاظ على الاستقرار” الذي هللت وطبلت له بعد سنة 2011.

نعم تريد فرض الاستقرار على حساب الحكرة كما سبق وأن كتب الصديق الصحفي محمد زاهد.

شاهد أيضاً

الجزائر والصحراء المغربية

خصصت مجموعة “لوماتان” أشغال الدورة السابعة لـ “منتدى المغرب اليوم”، التي نظمتها يوم الخامس من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *