المخيال العروبي والأمازيغوفوبي

محمد بودهان

لماذا لا زال العديد من المغاربة، وخصوصا من ضمن المثقفين والسياسيين، يرفضون الأمازيغية ويناوئونها، وذلك حتى بعد أن اُعترِف بها رسميا في دستور يوليوز 2011؟ لماذا لا زال أصحاب القرار السياسي، من دولة وحكومة وبرلمان، يماطلون في تنفيذ القرارات التي اتخذوها هم أنفسهم، بحكم مهامهم السلطوية والحكومية والتشريعية، لصالح الأمازيغية؟ لماذا هناك مقاومة شبه لاشعورية لتعطيل أي ترسيم حقيقي للأمازيغية؟

نعم، نعرف أن سبب ذلك هو سياسة التعريب الجماعي التي يطبّقها المغرب منذ 1912، والتي جعلت من المغاربة، ضحايا هذه السياسة، متحوّلين جنسيا، بالمعنى القومي والهوياتي لكملة “جنس”، بعد أن تخلّوا عن جنسهم الأمازيغي وانتحلوا الانتماء إلى جنس عربي أسيوي.

إذا كان هذا شيئا ثابتا ومعروفا، فإن ما نريد إضافته وتوضحيه هو أن هذا السياسة، التعريبية والتحويلية، تعمل على إنتاج مخيال عروبي مغربي، يعمل بدوره على تعزيز هذه السياسة وتبريرها وإعادة إنتاجها، وإظهارها كشيء عادي وطبيعي، تصبح معه “عروبة” المغرب والمغاربة، المزوّرة والمنتحَلة، شيئا طبيعيا وبديهيا. وبجانب هذا المخيال العروبي، ينشأ مخيال أمازيغوفوبي ملازم له باعتباره الوجه السلبي المناقض لهذا المخيال العروبي.

مفهوم المخيال:

لم يعد مفهوم “المخيال” imaginaire يعني، في الدراسات السوسيولوجية الحديثة، فقط ما هو سلبي يحيل على انتفاء الواقع وغياب الحقيقة لأن اللفظ مصاغ ومشتقّ من “الخيال” imagination الذي هو نقيض الواقع. بل أصبح يُنظر إليه كشيء إيجابي و”ممتلئ”، يعبّر عن واقع “ممتلئ” وعميق. وهذا ما يجعل من دراسة المخيال سوسيولوجيا تغوص إلى الأعماق، متجاوزة ما هو سطحي وظاهر للوقوف على الدوافع العميقة التي تحرّك المجتمعات الإنسانية، وفهم كيف أن المخيال يُلهم الإنسان ويحفّزه على الفعل(Patrick LEGROS, Frédéric Monneyron, Jean- Bruno Renard et Patrick Tacussel, “sociologie de l imaginaire”, Armand Colin, 2006. Pages 1 et 2).

من بين التعاريف التي أُعطيت لمفهوم “المخيال” imaginaire، سنعتمد التعريف التالي الذي يبدو جامعا، وبشكل مختصر، لأهم العناصر المكوّنة لهذا المفهوم: «المخيال عبارة عن مخزَن من الصور والتمثلات والرموز والحكايات والأساطير التي تشكلت تاريخيا في الذاكرة الجماعية أو في الذهن كنتيجة لعملية التأويل التي تحاول بها جماعة ما رسمَ واقعها الداخلي أو واقعها مع الآخر» (محمد عبدالله الهنائي، “المخيال وفكرة أنهم عرب”، مجلة “الفلق”. لنلاحظ أن التأويل، الذي يتضمّنه هذا التعريف، وما يصاحبه من بناء تصوّر خاص للذات وللآخر، هما عنصران أساسيان في المخيال. وهو ما سنعود إليه لاحقا خلال هذه المناقشة.

ما علاقة المخيال، بمعناه الاصطلاحي هذا، بما سميناه “مخيالا عروبيا” يخلقه التعريب والحوّل الجنسي، القومي والهوياتي، والذي يخلق في نفس الوقت، كنتيجة لنفس المخيال العروبي، مخيالا أمازيغوفوبيا؟

المخيال العروبي المغربي:

إذا كان المخيال العروبي هو، انطلاقا من التعريف السابق، ذلك المخزون من الصور والتمثلات والرموز والحكايات والأساطير…، التي تدور حول مكانة وقيمة العرب والعروبة، والتي تشكّلت تاريخيا في الذاكرة الجماعية العربية، وتُؤول وتوظّف كرؤية بها ينظر العرب إلى واقعهم وأنفسهم، وإلى علاقاتهم بالآخر غير العربي، فإن هذا المخيال العروبي يكتسب أبعادا جديدة تزيده غنى وعمقا وقوة عندما يتعلق الأمر بتوظيفه بالمغرب وشمال إفريقيا بصفة عامة. فمثلا مكانة فلسطين في المخيال العروبي المغربي تتجاوز بكثير مكانتها في المخيال العروبي ببلدان المشرق العربي. وكذلك أسطورة إدريس الأول كمؤسس لأول دولة بالمغرب، والتي (أسطورة) هي مكوّن رئيسي للمخيال العروبي المغربي، لا مكان لها في المخيال العروبي المشرقي.

حضور خرافة أن العربية لغة مقدسة أقوى في المخيال العروبي المغربي من حضورها في المخيال العروبي بالبلدان العربية بالشرق الأوسط. خرافة “النسب الشريف”، التي هي جزء من المخيال العروبي المغربي، لا وجود لها في المخيال العروبي المشرقي. تاريخ الغزو العربي لشمال إفريقيا كتاريخ أمجاد وأبطال وتضحيات، والذي هو جزء من المخيال العروبي المغربي، يكاد يكون غائبا في المخيال العروبي المشرقي، أو على الأقل لا يُدرّس ذلك التاريخ بكل ذلك التمجيد الأسطوري الذي يُدرّس به في المغرب.

حضور خرافة الوحدة العربية، ضمن المخيال العروبي المغربي، يفوق حضورَها في المخيال العروبي ببلدان المشرق العربي حيث ظهرت هذه الخرافة… وهلمّ جرّا. في هذه الأمثلة اقتصرتُ على ما هو أصلا عروبي ذو مصدر عربي مشرقي مؤكّد، متجنّبا قصدا ذكر عناصر من المخيال العروبي المغربي قد يُفسّر اختلافها عن نظيرتها في المخيال العروبي المشرقي بكونها نشأت بالمغرب، مثل:

أسطورة “الظهير البربري” وتنصير الأمازيغ، والتي هي من أهم عناصر المخيال العروبي المغربي، لكن لا وجود لها في المخيال العروبي المشرقي، أو كذبة أن “الحركة الوطنية” هي التي قاومت الاستعمار، والتي هي جزء من المخيال العروبي المغربي، لكنها غائبة تماما من المخيال العروبي المشرقي… لماذا يصبح المخيال العروبي الأصلي، أي المشرقي، أخصب وأقوى وأعمق عندما يُستعمل بالمغرب كمخيال عروبي مغربي؟

لقد رأينا، من خلال تعريف مفهوم المخيال، أن “التأويل”، لرموز ووقائع وأساطير وشخصيات وأحداث تاريخية…، هو إحدى الآليات التي يشتغل بها المخيال. وهذا التأويل هو الذي يجعل المخيال العروبي المغربي يتميّز عن أصله الذي هو المخيال العروبي المشرقي، لأنه تأويل خاص ويعطي، بالتالي، دلالات خاصة وحصرية لعناصر المخيال العروبي المشرقي، وبشكل يجعله أخصب وأقوى وأعمق في صيغته المغربية مما هو عليه في صيغته المشرقية. وهكذا تُؤوّل، مثلا، قضية فلسطين، وأسطورة إدريس الأول، وقداسة اللغة العربية، وخرافة “النسب الشريف”، والغزو العربي لشمال إفريقيا، وخرافة الوحدة العربية…، بدلالات خاصة في المخيال العروبي المغربي، تكتسي معها هذه العناصر زيادة في القوة والغنى والعمق لا تتوفّر عليها في سياق توظيفها في المخيال العروبي العادي الأصلي، أي المشرقي. لكن ما الذي يوجّه هذا التأويل نحو هذه الدلالات الخاصة، التي تعطي لتلك العناصر مزيدا من القوة والغنى والعمق في إطار استعمالها ضمن المخيال العروبي المغربي؟

هاجس إقصاء الانتماء الأمازيغي:

إنه هاجس إقصاء الانتماء الأمازيغي، ليكون غائبا بالمغرب كما هي غائب بالمشرق، وذلك ما يسمح للمغرب أن يتساوى مع المشرق العربي على مستوى الانتماء الهوياتي ووحدة المخيال العروبي. ولهذا يتركّز تأويل تلك العناصر، مثل التي استشهدنا بها، على ما له علاقة بهذا الإقصاء: فإذا كانت قضية فلسطين العربية، كما أصبح ذلك جزءا من المخيال العروبي المغربي، هي قضية وطنية، أي مغربية، فمعنى ذلك أن المغرب هو أيضا عربي مثل فلسطين نفسها، وهو ما يستتبع أنه غير أمازيغي. وإذا كان إدريس الأول في المخيال العروبي المغربي هو مؤسس أول دولة بالمغرب، والتي أصبح عمرها اليوم ثلاثة عشر قرنا كما هو شائع في هذا المخيال، فإن هذه الدولة، بحكم أن مؤسسها عربي، لا يمكن أن تكون إلا عربية، وهو ما ينفي أن تكون أمازيغية.

وإذا كانت اللغة العربية أكثر قداسة في المخيال العروبي المغربي مما هي عليه في المخيال العروبي المشرقي، فذلك لتبرير إقصاء الأمازيغية بدعوى أنها لغة “دنسة” وليست في منزلة العربية المقدّسة. وإذا كانت خرافة “النسب الشريف” العنصرية تحتل مكانة بارزة في المخيال العروبي المغربي، فذلك بهدف إقصاء النسب الأمازيغي باعتباره نسبا وضيعا وغير شريف. وإذا كان هناك تمجيد زائد عن اللزوم، في المخيال العروبي المغربي، للغزو العربي لشمال إفريقيا، فذلك لأن بفضل هذا الغزو، كما هو شائع في هذا المخيال العروبي المغربي، تحوّل المغرب إلى بلد عربي، مما يعني إقصاء لهويته الأمازيغية. وإذا كانت خرافة الوحدة العربية لا تزال حاضرة بقوة في المخيال العروبي المغربي، فذلك لأنها نقيض للتجزئة التي يربطها هذا المخيال بالأمازيغية.

فوظيفة هذه الخرافة، في المخيال العروبي المغربي، هي إذن إقصاء الأمازيغية ومحاربتها بتأويلها كعامل تفكيك وتجزئة. ولتعزيز وتبرير هذا الإقصاء للأمازيغية تضاف عناصر ذات مصدر محلي مغربي إلى المخيال العروبي المغربي مثل: أسطورة “الظهير البربري” وتنصير الأمازيغ، وكذبة أن “الحركة الوطنية” هي التي قاومت الاستعمار وأنقذت الأمازيغ من التنصير…

المخيال الأمازيغوفوبي:

نلاحظ إذن أن الدلالات الخاصة التي يعطيها التأويل الخاص للعناصر المكوّنة للمخيال العروبي المشرقي لتحويله إلى مخيال عروبي مغربي، تصبّ في إقصاء الأمازيغية وتغييبها. وهو ما ينتج عنه قيام مخيال أمازيغوفوبي موازٍ للأول، يربطهما تلازم سببي وعلاقة تضادّ وتقابل، تتكوّن عناصره من كل ما هو سلبي وقدحي محسوب للأمازيغية وعليها، مثل ربطها بالعنصرية، والتفرقة والفتنة والوثنية، ومحاربة العربية والإسلام، والولاء للاستعمار، والرطانة والتخلّف… ونظرا للتلازم السببي بين المخيالين، العروبي والأمازيغوفوبي، فإنهما يشكلان في الحقيقة مخيالا واحدا، هو المخيال العروبي المغربي الذي يتمظهر في صيغته الثانية كمخيال أمازيغوفوبي، يشكّل الوجه السلبي لنفس المخيال العروبي. فبدون وجود مخيال عروبي مغربي لا يمكن أن يوجد مخيال أمازيغوفوبي. وبدون هذا الأخير لا يمكن أن يوجد المخيال الأول. فالمخيال العروبي المغربي هو الذي يُنتج ويغذّي المخيال الأمازيغوفوبي. كما أن هذا الأخير هو الذي يُنتج ويغذّي بدوره المخيال الأول.

أما الذات والآخر، كما تتصوّرهما عملية التأويل الذي هو مكوّن أساسي في المخيال كما رأينا عند تعريفه، فهما لا يعنيان، في المخيال العروبي المغربي، نفس ما يعنيانه في المخيال العروبي المشرقي. فإذا كانت الذات في هذا المخيال العروبي تعني العرب، وما يرتبط بهم من تاريخ وهوية وثقافة ولغة وتراث ومصير مشترك…، والآخر يعني المختلف غير العربي، الذي تربطه علاقة صراعية بالإنسان العربي، كما كان الأمر مع العثمانيين في بداية القرن العشرين ثم الغرب والاستعمار، فإن الذات في المخيال العروبي المغربي تعني المغاربة المستعربين، أي العرب المزوّرين، المتحوّلين جنسيا بتنكّرهم لجنسهم الأمازيغي وانتحالهم الانتماء إلى الجنس العربي. ولأن هؤلاء، بحكم أنهم عرب مزوّرون ومتحوّلون، يعرفون أنهم ليسوا عربا أصليين وحقيقيين، فهم يبذلون باستمرار مجهودا مضنيا لتقديم الدليل على أنهم عرب. وهذا الدليل هو عداؤهم لأمازيغيتهم الذي يمارسونه كشهادة يثبتون بها عروبتهم المزوّرة. وهكذا تتحدّد الذات، في المخيال العروبي المغربي، بما ينفيها كذات أمازيغية إفريقية.

فلا تهمّ المستعرَبين، المتحوّلين جنسيا وقوميا وهوياتيا، العروبةُ والعربُ، والتاريخُ العربي، والهويةُ العربية والثقافةُ العربية، واللغةُ العربية والتراثُ العربي والمصيرُ العربي المشترك…، إلا بالقدر الذي يثبت أنهم ليسوا أمازيغيين. والنتيجة أن الآخر، في هذا المخيال العروبي المغربي، ليس هو العثمانوين ولا الغرب والا الاستعمار ولا أي شعب غير عربي، وإنما هو الأمازيغية، مع ما تحيل عليه من شعب وتاريخ وهوية وثقافة ولغة وتراث…، والتي تربطهم بها علاقة صراعية لأنهم ينظرون إليها كعنصر “أجنبي” مختلف يسعون إلى محاربته وطرده. وهذا هو مضمون المخيال الأمازيغوفوبي، الوجه السلبي للمخيال العروبي المغربي، كما سبق أن شرحت.

المخيال يخاطب الوجدان لا العقل:

ولأن الأمر يتعلّق بالمخيال imaginaire، الذي هو مجموعة من التمثّلات والرؤى والقناعات والتبريرات والرموز والأساطير التي تتقاسمها جماعة معيّنة أو مجتمع معيّن، كما شرحت، فلذلك فإنه من الصعب إقناع أصحاب هذا المخيال بالتخلّي عنه بحجة أنه يتضمّن أشياء بعيدة كل البعد عن الحقيقة والواقع والعقل. ذلك أمر صعب لأن المخيال لا يخاطب العقل والمنطق حتى يمكن إقناع المنتسبين إليه بأنهم على خطأ، وإنما يخاطب الوجدان والعواطف. ولأنه مرتبط بالوجدان والعواطف، فهو يمارس تأثيرا قويا على المنتمين إليه، إذ يتبلور في شكل وعي اجتماعي ثم قناعات سياسية تتجسّد في قرارات وممارسات سياسية. ولهذا تشكّل سياسة التعريب، التي ترمي إلى التحويل الجنسي القومي للمغاربة، امتدادا سياسيا للمخيال الأمازيغوفوبي. فلولا وجود هذا المخيال الأمازيغوفوبي، لما كانت هناك سياسة تعريبية. وهذه السياسة تعزّز بدورها هذا المخيال الأمازيغوفوبي، مما يساهم في مزيد من إقصاء الأمازيغية ومعاداتها. ولأنها سياسة تقوم على قرارات غير عقلانية، لأنها نابعة من المخيال الأمازيغوفوبي غير الخاضع للعقل والمنطق، كما أوضحت بالنسبة للمخيال بصفة عامة، فلذلك نلاحظ أنه بالرغم أن الدولة أصدرت ترسانة من القرارات والنصوص التشريعية لصالح الأمازيغية، استندت فيها إلى مبادئ العقل والمنطق والعدل، إلا أن ذلك يواجَه بانتصاب المخيال الأمازيغوفوبي، بمضامينه الوجدانية اللاعقلانية، كما شرحت، عائقا في طريق تنفيذ تلك القرارات والنصوص حتى عندما تكون نتيجة لإعمال العقل والمنطق والعدل.

استعادة المخيال الأمازيغي:

والحل الوحيد هو الانتقال من مخيال عروبي أمازيغوفوبي إلى مخيال أمازيغي. وإذا كان هذا المخيال الأمازيغي سيتشكّل، هو أيضا لكونه مخيالا، من صور وتمثلات ورموز وحكايات وأساطير وذاكرة جماعية…، فإن ما يهمّ هو أنه نابع من تجارب الشعب الأمازيغي، ومن تاريخه وموطنه بإفريقيا، يعبّر عن طموحاته وقيمه، وآماله وآلامه، وتفرّده الهوياتي واللغوي الذي يجعل منه شعبا متميزا عن الشعوب الأخرى. وهذا عكس المخيال العروبي المهيمن، المنتج لمقابله الأمازيغوفوبي، والنابع من تجارب الإنسان العربي وتاريخه وموطنه بالشرق الأوسط، والمعبّر عن طموحاته وقيمه، وآماله وآلامه، وتفرده الهوياتي واللغوي كشعب عربي أسيوي. فهذا المخيال العروبي يشكّل، بنشره وانتشاره بشمال إفريقيا، نشازا وشذوذا يحتاجان إلى تصحيح وتسوية. وعلى ذكر “الشذوذ”، يجدر التذكير أن الغاية من التمكين لهذا المخيال العروبي الأمازيغوفوبي، هو تحقيق الشذوذ الجنسي، أي الهوياتي والقومي، وذلك بتحويل المغاربة من جنسهم الأمازيغي إلى جنس عربي أسيوي.

لقد ظلت الدولة تلقّن للمغاربة، منذ الاستقلال، من خلال المقررات التعليمية، أكاذيب حول تاريخهم بهدف محو مخيالهم الأمازيغي وغرس مكانه مخيالا عروبيا أمازيغوفوبيا. لكنها بدأت أخيرا حملة تصحيح لهذا التاريخ بمحو تلك الأكاذيب وتعويضها بحقائق علمية مؤكدة (انظر موضوع: “هل هي بداية نهاية الاختلاق والتزوير؟” بالنقر هنا)، مثل الانطلاق، في دراسة تاريخ المغرب، من إنسان “جبل إغود”. فبعد عشرات السنين من تدريس هذه الحقائق التاريخية، ستصبح جزءا من المخيال الأمازيغي. ومما سيعطي لهذا المخيال رمزيته ومشروعيته، ليس فقط ارتباطه بالواقع التاريخي والجغرافي الذي أنتجه، بل لارتباطه كذلك بحقائق علمية، كما قلت.

هذا التصحيح لتاريخ المغرب الملقّن بالمؤسسات التعليمية هو نموذج لما ينبغي أن تكون عليه استعادة المخيال الأمازيغي المغربي الأصيل، مع كل العناصر الأخرى التي تدخل في تكوين هذا المخيال، كخط تيفيناغ، والتقويم الأمازيغي، وفن أحيدوس، والراية الأمازيغية المعبّرة عن الهوية الأمازيغية، والشخصيات التاريخية الأمازيغية، مثل “شيشونق”، “ماسينيسا”، “يوغورطا”، “يوبا”، “أكسيل”، “ديهيا” و”ميسرة المدغري”…، والأحداث التاريخية ذات الدلالة الرمزية الخاصة مثل مقاومة “يوغورطا” للاحتلال الروماني، و”ديهيا” و”أكسيل” و”ميسرة المدغري” للغزو العربي…

المناوئون للأمازيغية يعرفون جيدا أن الحفاظ على المخيال العروبي المغربي، مع ما يُنتجه من مخيال أمازيغوفوبي، يمرّ عبر تغييب المخيال الأمازيغي. ولهذا يناهضون هذا المخيالَ ويرفضون الاعتراف بمكوّناته، مثل إنكارهم للسنة الأمازيغية، وللقائد “شيشونق” المؤسس لهذه السنة، وتكفير “ديهيا” و”أكسيل” و”ميسرة” بدعوى أنهم كانوا يحاربون المسلمين، والزعم أن تيفيناغ كتابة فينيقية وليست أمازيغية، وأن راية الهوية الأمازيغية دعوة إلى التفرقة، وأن تدريس “إنسان إيغود” مخالف لأحكام القرآن الذي يقول بأن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم، كما زعم البرلماني علي العسري، الذي استفسر وزير التربية الوطنية يوم 6 أكتوبر 2020 عن دواعي تدريس “إنسان إيغود” الذي يشوّش على عقيدة التلميذ، حسب زعمه. وواضح أن هذه الحملة ضد تدريس “إنسان إيغود” هي في الحقيقة حملة ضد الأمازيغية، لمنع قيام مخيال أمازيغي يلعب فيه “إنسان إيغود” دورا رئيسيا محوريا تنتظم حوله العناصر الأمازيغية الأخرى، مثل تيفيناغ والتقويم الأمازيغي، والراية الأمازيغية… وهو ما يهدّد بأفول المخيال العروبي الأمازيغوفوبي، ومعه كل الإيديولوجية العروبية التي تنتشر عبر انتشار هذا المخيال العروبي الأمازيغوفوبي.

حالة “إنسان إيغود” مثال فقط عن العمل الذي على الدولة أن تقوم به لاستعادة المخيال الأمازيغي، كمخيال ينسجم مع التاريخ والفضاء الجغرافي للشعب الذي يعيش في هذا الفضاء والذي صنع هذا التاريخ، ويعبّر عن الانتماء إلى الهوية الجماعية الأمازيغية للشعب المغربي وللدولة المغربية كدولة أمازيغية، بالمفهوم الترابي الموطني. وسيكون ذلك بداية للقطع من المخيال العروبي الأمازيغوفوبي دون أن يعني ذلك عداء للعروبة كهوية نقدّرها ونحترمها، ونقدّر ونحترم أصحابها العرب في بلادهم العربية.

فمشكلتنا ليست مع العرب الحقيقيين، بل مع العرب المزوّرين، أي الأمازيغيين المنتحلين الانتماء إلى العروبة رغم أنها ترفضهم وتتبرأ منهم. ولهذا فإن الآخر، هنا في إطار المخيال الأمازيغي، ليس هو العربي ولا الغرب ولا أي شعب مختلف. وإنما هذا الآخر هو الأمازيغي الشاذ قوميا وهوياتيا، والذي يعتبر نفسه عربيا ويعمل على فرض شذوذه الهوياتي على المغاربة الأسوياء بنهج سياسة تعريبهم وإلحاقهم بعروبته المنتحَلة والمزوَّرة. أما الذات، في إطار نفس المخيال الأمازيغي، فهي الأمازيغية، كلغة وثقافة وهوية وتاريخ وشعب وإنسان وموطن…، عكس ما هي (الذات) عليه في المخيال العروبي الأمازيغوفوبي حيث تحوّلت فيه إلى ما يُلغيها وينفيها، أي إلى ذات عربية، وبربرية بالنسبة لهويتها الأمازيغية، أي أجنبية عنها بالمفهوم الإغريقي لكلمة “بربري” (انظر موضوع: “عندما يتحوّل الأمازيغ إلى برابرة يعادون أمازيغيتهم”.

اقرأ أيضا

الأمازيغية والاحصاء العام للسكان بالمغرب.. أربع حقائق

أثناء مباشرة الاحصاء نبه اغلب المتتبعين الى ان المنهجية المتبعة غير مطمئنة النتائج ونبهت الحركة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *