بقلم: رضوان بخرو
دائما ما كنت أقولها، وأنا مقتنع بذلك، فإذا كان هناك من يستحق وسام حماية الأمازيغية من الاندثار، فهي المرأة الأمازيغية وبدون منازع.
نعم، فالمرأة الأمازيغية بالإضافة لدورها المحوري في المجتمع الأمازيغي، دورها البيولوجي/الإنجابي، وتدبير شؤون البيت، وتربية النشء(التربوي)، وأدوارها السوسيواقتصادية(الانتاجي)، فقد أدت دورا ثقافيا بكل اقتدار. ولن يستطيع أن يؤديه غيرها، ولن تؤديه حتى المؤسسات بكل إمكاناتها المادية والبشرية، لن تؤديها المعاهد و لا المتاحف ولا الجامعات… وبذلك، فهي الكائن الذي يستحق القيمة الاعتبارية المثلى في المجتمع لأنها هي روح المجتمع، وهذا ما تفطن إليه ايمازيغن منذ غابر الأزمان، فباتوا ينسبون أبناءهم للأم حتى أطلق عليهم “مجتمع أميسي”.
ولم يكن يشعر الأمازيغ بأي حرج، أو عقدة نقص، وهم يمنحون نساءهم صلاحيات واسعة في مختلف جوانب الحياة، فتبوأت عندهم الريادة في المجالات الدينية و السياسية وحتى العسكرية؛ فقد تم تأليهها(اتخاذها إلهة) في العصور القديمة (نموذج الإلهة تانيث) كما ولجت عالم التصوف بقوة(للا ميمونة بالريف وللا تاسملالت بسوس…)، وانتقلت من قائدة لأسرة إلى قائدة لشعب في مناسبات عدة، وتجارب جمة، ومنها تجربة الملكة “تينهنان” التي حكمت شعب التوارك(الطوارق) بالصحراء الكبرى، وكذا الملكة “ديهيا” التي حكمت منطقة الأوراس (بالجزائر حاليا)، وهي نفسها التي قادت جيوشا عملاقة دافعت من خلالها عن الأرض الأمازيغية، فقاومت جيوش الأمويين الغزاة، ووحدت الأمازيغ حتى استشهدت في أرض المعركة وقد اشتهرت بسياسة “الأرض المحروقة”.
وفي هذا الباب، أسماء كثيرة حملت السلاح دفاعا عن الانتماء لجذور هذه الأرض، منها “فاضمة نسومر” التي تصدت للجيوش الفرنسية بمنطقة تيزي وزو بالجزائر، والتي شكلت قوة عسكرية مكونة من ألفي امرأة ترافق الرجال في الحرب، ورمز المرأة العطاوية “عدجوموح”، التي قاتلت المستعمر الفرنسي ببسالة في معركة بوكافر، نفس الأمر يتكرر مع المرأة الأمازيغية بالريف، والتي انخرطت بكل ثقلها في الحرب التحريرية ضد الإسبان خلال عشرينيات القرن الماضي، حيث قتلت أخت محمد الحراز ضابطا اسبانيا(لم تذكر المصادر إسمها الحقيقي)، فيما يشير المؤرخ الإسباني خوان باندو في كتابه-التاريخ السري لحرب الريف- إلى مشاركة الريفيات في ما أسماه بـ “مذبحة منظمة” راح ضحيتها الجنود الإسبان. وهذه المكانة المادية التي تبوأتها المرأة الأمازيغية، ليست غريبة، في مجتمع لم يكن ينزع أبدا للهيمنة الذكورية، وهذا ما يمكن استخلاصه من تسمية المرأة في الأمازيغية بـ «تمغارت» فهذه الكلمة هي مؤنث لـ «أمغار» التي تعني الزعيم أو سيد القوم، وهذا في حد ذاته تكريم رمزي ومعنوي للعنصر النسوي.
وربما قد يتساءل أحدكم، لماذا منحت المرأة الأمازيغية “وسام حماية الثقافة الأمازيغية “؟
إذن، تستحق المرأة الأمازيغية هذا الوسام لاعتبارات متعددة، أبرز هذه الاعتبارات؛ أنها شكلت منذ الأزل وعاء حاضنا للثقافة واللغة الأمازيغين، بحيث كانت على الدوام صمام أمان، وحاجز صد أمام الموجات الثقافية الخارجية التي تستهدف الهوية الأمازيغية في وجودها وبمختلف تجلياتها، فالمرأة الأمازيغية هي أكثر من مجرد فرد في المجتمع، بل تعدت هذا الدور لتتخذ من نفسها مؤسسة اجتماعية وثقافية، وظيفتها ربط قنوات ثقافية تنقل القيم والثقافة الأمازيغية بين الأجيال، عبر تلقين اللغة الأمازيغة (اللغة الأم للمغاربة) للنشء وحمايتها، وصون الذاكرة الجماعية للمجتمع من الاندثار، سواء من خلال الحفاظ على الموروث الأمازيغي اللامادي على غرار فنون الطبخ، الرقص، والطقوس الاحتفالية والتقاليد العريقة، أو ما يرتبط بالتراث الشفهي، كما هو الشأن بالنسبة للفنون الغنائية(إزران بالريف، تماوايت بالأطلس…)،الحكايات الشعبية (تينفاس)، الأمثال أو التعابير المسكوكة أو تلقين حكايات أسطورية مرتبطة بالميثولوجيا الأمازيغية.
وأكثر من هذا، فإن “تمغارث” تعتبر خزانا ثقافيا مهما، بحيث أنها كرست حياتها لحماية الثقافة من خلال اختيارها للمقاومة الثقافية، ضد العولمة ومختلف مظاهرها وآلياتها، أو عبر تصديها لبعض الإيديولوجيات الدخيلة على المجتمع(العروبة)، والتي تنظر بعين دونية لكل ما هو أمازيغي أصيل، ولا سيما بعد أن أصبحت إيديولوجية رسمية للدولة، وسلطة ثقافية تعتمد على الأجهزة الإيديولوجية للدولة كآليات للهيمنة خاصة الإعلام والمدرسة، وفي إطار استراتيجية الهيمنة عمدت هاته السلطة إلى إقصاء البعد الأمازيغي من الإدماج في التنمية الثقافية، وإقصائه وتغييبه من الساحة الثقافية والإنتاج الثقافي للمجتمع، وهذا ما أدى إلى تراجع قيمة الأمازيغية في السوق اللغوية الوطنية والفسيفساء الثقافي لمجتمعنا، أو تأجيل هذا الإدماج بمبرر وجود أولويات، والإكتفاء بإبقاء البعد الأمازيغي كـ “لوغو” يزين واجهة المغرب السياحية. وقد أدت الأمازيغية ثمنا باهضا جراء هذا التمييز السلبي لها، خاصة أمام اعتماد دول شمال افريقيا لسياسة التعريب الإقصائية، والتي تختزل الإرث الوطني فقط فيما له صلة بالوجود العربي.
وفي هذا الباب(المقاومة الثقافية)، فإن المرأة لم تبخل حتى بجسدها الذي اتخذته لوحة فنية، زينتها بالرموز (الوشم) للدلالة على أصالتها وعمق ثقافتها، فضمنت بذلك استمرارية الشخصية الثقافية الأمازيغية للمنطقة، وهو نفس الأمر، الذي حرصت على تجسيده في كل أنشطتها، خاصة أن المرأة بشمال افريقيا تتميز بالبراعة والإتقان في أعمالها اليدوية والتقليدية، إذ أنها تفننت في توظيف رموز الهوية الأمازيغية في نسجها للزرابي، والصناعة الخزفية، والصوف والزخارف والألوان والخصائص التي تميز بها المعمار الأمازيغي، وهي علامات تحيل على تناسق وتكامل إبداعي رائعين.
هذه الخصوصيات التي تتفرد بها المرأة الأمازيغية في لباسها وزينتها، رقصاتها وأناقتها، فنونها وإبداعاتها لم تخف الإعجاب الذي وصل حد الإندهاش لدى كثير من الأنثربولوجيين والإثنوغرافيين الأجانب، الدارسين لمجتمعات شمال افريقيا، وخاصة بالمغرب. هذا الإعجاب الذي عبرت عنه الإنجليزية أورسولا كينغسميل هارت في كتابها “وراء باب الفناء، الحياة اليومية للنساء الريفيات”، نفس هذا الإعجاب تحدث عنه بتفصيل الإسباني إيميليو بلانكو إيثاكا في كتابه الشهير Las danzas rifeñas، وهو ما يؤكده أيضا المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان بقوله: “إن المرأة الأمازيغية في غالب الأحيان فنانة أكثر من الرجل، فهي التي تزخرف آنية الخزف أوتنسج الزرابي ، وزينتها ترسمها على جسدها وشما لا يزول” .
وبناء على هذا الدور الاجتماعي، والثقافي، للمرأة في حفظ واحتضان الثقافة واللغة الأمازيغيين، فإن ذلك يؤهلها لنيل وسام الثقافة الأمازيغية بكل استحقاق، لأنها شكلت على الدوام نظاما مضادا للأخطار(Antivirus) التي تهدد مقومات إرثنا الحضاري، ولولاها لما بقيت الأمازيغية صامدة تقاوم هذا الغزو الثقافي العنيف، الذي يحاصرنا من كل الجهات.
هذه فقط إطلالة خفيفة على ما سجلته الدراسات التاريخية والأنتربولوجبة، حول بصمات المرأة الشمال إفريقية عبر تاريخها المليء بالبطولات ونكران الذات. لكن هذا لا يعني أن المجتمع الأمازيغي حافظ على هذه القيم بكاملها وذلك بتغير أنماط الحياة وتطورها، لأنه عرف كسائر المجتمعات تحولات اجتماعية عميقة، خاصة مع ظهور- الدولة الحديثة- التي كبحت المؤسسات التقليدية القبلية، وفرضت حياة اجتماعية جديدة. وهذا يبرز بشكل جلي في تراجع البوادي بديمغرافيتها وأنماط حياتها وأنشطتها وقيمها وعلاقات أفرادها، لصالح المدينة التي تعتبر مجالا متحكم فيه وموجه ثقافيا ولغويا وسوسيولوجيا. هذه العوامل كلها ساهمت في خلخلة البنية السوسيوثقافية للمجتمعات الأمازيغية، وهو الوضع الذي فقدت معه المرأة موقعها الريادي في الحياة السوسيوثقافية للمجتمع.
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال الصدام الثقافي، الذي كان تأثيره سلبيا على الدور السوسيولوجي والثقافي للمرأة، من خلال الغزو الثقافي الذي تعرضت له مجتمعاتنا، خاصة أمام تسرب الثقافة الظلامية /المشرقية عبر شاشات التلفزيون المشرقية التي يقف وراءها تيارين دينيين متطرفين ومتشددين، وهما التيار الإخواني(ترعاه قطر) والتيار الوهابي (الذي ترعاه السعودية). هذه الثقافة المظلمة التي تكبل المرأة وتحرمها من الإبداع والانخراط النشيط في الحياة السياسية والفنية والاقتصادية، وتسجنها في قالب ثقافي رسمت له حدودا مسبقة، لا يسمح للمرأة أن تتجاوزها، وهي لا تتعدى ممارسة وظيفتها البيولوجية في الجنس والإنجاب.
وللأسف، هذا التطرف الديني والعداء للقيم المعاصرة، والقاتل لقيمنا الحضارية النبيلة، أنبت جذورا حتى في دول أوربا الغربية التي كانت عبر التاريخ مهدا للحركات الإنسية، التي اتخذت من الإنسان محورا لكل إبداعاتها والتي ستشكل مراكز النهضة الأوروبية ومنبع للحضارة المتنورة، إلا أن جذور ثقافة العشيرة والبداوة ستمتد إليها، عبرأخطبوط الوهابية، والتي من خلالها(المراكز/العواصم الأوربية) تأثر أكثر الإنسان الأمازيغي الذي أصبح أكثر تبنيا لهذه الثقافة الجديدة والمدمرة لقيمنا الحضارية والثقافية، و التي تتنافى مع كافة القيم الكونية وحقوق الإنسان.
وما يمكن تأكيده في الختام هو تمكّن المرأة الأمازيغية من الحفاظ على التراث الثقافي والفني الأمازيغي، وضمان استمراريته، بالرغم من التحولات المجتمعية، التي فرضت تغير المواقع والأدوار في حياة يطغى عليها الطابع العصري، باكتساح العولمة والعصرنة كل مناحي الحياة الأمازيغية، التي ظلت لقرون مرتبطة بالحياة التقليدية/القروية بأنشطتها ونمط عيشها. وهذا ما يضع المجتمعات الأمازيغية أمام تحدي جديد، وهو اعتماد مقاربة النوع والاجتماعي، قصد استعادة قيمة المرأة في المجتمع واستحضار دورها الريادي في البناء، خاصة أن الزمن الراهن يستدعي تعاون وتضافر جهود كل أفراد المجتمع، بنسائه ورجاله، لأن المجتمع الذي يقصي المرأة من المشاركة الفعلية هو مجتمع أعرج يمشي على قدم واحدة، والأعرج لن يلحق بركب المتقدمين مهما حاول في زمن سريع التحولات وسيظل يتخبط في ذيل الشعوب المتخلفة أبد الدهر.