المطالبة بتحرير القانون المغربي من قيود الفقه الإسلامي التقليدي

بقلم: الصافي مومن علي

يمكن القول أن مسلسل التحرير الحقيقي في بلادنا كان في العصر الحديث على الشكل التالي:

انطلق أولا في عيد العرش لسنة 2001 بتحرير الهوية المازيغية من التبعية للهوية العربية، وأصبح المغاربة منذ هذا التاريخ يعتزون بأمازيغيتهم بعد أن كانوا مئات السنين يحتقرونها معتبرينها وصمة عار في جبينهم، واستمر هذا المسلسل بتحرير المراة من معاناة الظلم والعذاب والقهر، بصدور مدونة الأسرة الرحيمة، ثم تابع مساره سنة 2011 بتحرير اللغة الأمازيغية وبإرجاعها لها سيادتها في وطنها، وكذا أيضا بتحرير أرض المغرب من التبعية للوطن العربي الشرقي، وبالإعلان في الدستور أنها جزء من المغرب الكبير.

وأعتقد أن الخطوة الهامة التي يتوج بها المغرب هذه الثورة التحررية تتجلى حتما في تخليص منظومته القانونية من الدوران المزمن في دوامة النظرة الضيقة للفقه التقليدي الإسلامي، ولن يتأتى له طبعا هذا الخلاص إلا بتدبير شجاع يتمثل في إقراره بفكرة القانون الطبيعي، ويجعل هذا القانون مصدرا من مصادر تشريعاتنا الوطنية، على اعتبار أن هذا الإقرار هو ما يشكل البوابة المفتوحة لتحقيق تفعيل أعمق لخطة النهوض بالديموقراطية وبحقوق الإنسان التي تسعى الدولة جاهدة الى إنقادها.

أما أهمية هذا التدبير فتتمثل في أن هذا القانون الطبيعي لا يعتبر فحسب المصدر الأصلي الذي اشتقت منه منظومة حقوق الإنسان المتعارف عليها عالميا ، بل يعتبر كذلك المصدر الاساسي الذي تستقى منه مبادئ العدالة ، وكذا مصدر فضائل الأخلاق الحميدة، وأسس الحكمة ومنطق الحس السليم.

وإذا ما أضفنا الى هذه الأهمية ما يحظى به هذا القانون من طابع ازلي، لثبوت وجوده مع وجود الإنسان في الحياة ، وحضوره الدائم معه أينما كان ، وكيفما كان ، وفي اي زمن كان ، لكونه منقوش في عقول البشر جميعا بدون استثناء ، ثم أضفنا كذلك ما تحضى به مبادؤه من عمومية وثبات وعدالة ، ما يجعله بحق قانونا كونيا  مشاعا بين جميع الناس ، أي لا هو غربي كما يعتقد خطأ ، ولا هو شرقي كذلك.

لكن ان كان هذا القانون قد وضع للبشر ليعيشوا بمقتضاه عيشة رخية آمنة مسالمة يستمتعون فيها بحقوقهم الطبيعية الكاملة ، فقد ابتلوا – مع الأسف – في جل مراحل تاريخهم ، إما بحكام مستبدين حرموهم كليا أو جزئيا من هذه الحقوق، وإما بمعتقدات روحية بدائية كرست هذا الحرمان ، الذي لم يقع تخفيفه نسبيا الا بمجهود بعض الفلاسفة والمصلحين ، ثم بظهورانبياء الديانات السماوية الذين ساهموا مساهمة أكبر في توسيع دائرة الاستمتاع بالحقوق ، غير انه يمكن القول ان بعض الشعوب في العصرالحديث ، استطاعت أن تتخلص من ذلك الحرمان المزمن ، وان تحقق لنفسها لاول مرة تذوق حلاوة الاستمتاع الحقيقي الشبه الكامل بحقوقها الطبيعية ، ويمكن القول ايضا  انه في هذا العصر ايضا استطاع المجتمع البشري ولاول مرة في تاريخه ، ان يتحد رضائيا في منظمة عالمية  هي الامم المتحذة ، تجعل من بين أهدافها الكبرى تعميم الاستمتاع بهذه الحقوق في سائر شعوب العالم.

وبعـــــــــــــــــــــد.

أليس من المفارقة العجيبة أنه في الوقت الذي تدعو فيه جل المنظمات الحقوقية والأحزاب السياسية في بلادنا الى إدماج حقوق الإنسان في المجتمع ، فإنه لا يكاد يوجد فيها من يدعو الى إقرار القانون الطبيعي ، والى جعله مصدرا للتشريع ، علما أنه يعتبر – كما رأينا – هو الأصل ، في حين ان منظومة حقوق الإنسان ما هي الا فرع منه ؟؟.

أليس من المفارقة كذلك أن تطالب هذه التنظيمات في بياناتها ، بتدريس منظومة حقوق الإنسان في أسلاك التعليم ، وفي بعض المعاهد الخاصة ، غير أنها تغفل عن المطالبة بتخصيص كرسي في الجامعة المغربية لتدريس مادة القانون الطبيعي ، على غرار ما هو معمول به في بعض الجامعات الاروبية.

انه بدون شك تناقض صارخ غير مفهوم.

إذن ، طالما ثبت وجود علاقة التبعية بين منظومة حقوق الإنسان وبين القانون الطبيعي ، فإن هذا الامر يدعو بداهة الى ادراك ان التقدم في النهوض بهذه الحقوق رهين  بحضور ذلك القانون ، ومع ذلك لم يقع الانتباه الى هذه المسألة.

ومن جهة اخرى فإن هذه البداهة ايضا تفرض ان الانفتاح على هذا القانون ، بتدريسه في الجامعة ، وبجعله مصدرا لتشريعاتنا ، سيساهم حتما في تغيير عقلية مجتمعنا ، وفي تقريب وجدانه من روح الحقوق الطبيعية ، ومع ذلك لم يلتفت ايضا الى هذا الامر، على الرغم من وجود كثيرين يومنون بارتباط تخلف شعبنا بتخلف عقليته ، وعلى الرغم كذلك من ثبوت  فضائل ثقافة القانون الطبيعي على تحرر عقلية الشعوب وتطورها.

وهكذا بعد أدراكنا لدور القانون الطبيعي ، ولقيمه المثلى في تطوير التشريعات وفي الارتقاء بها في المدارج العليا للعدالة ، سيتبادر الى ذهننا حتما السؤال التالـي:

ما السر في استبعاد هذا القانون عن منظومتنا التشريعية ، وكذا عن منظومتنا التعليمية ؟؟

وما السر أيضا في استبعاده حتى من الحوارالاجتماعي للمجتمعين : المدني والسياسي ؟؟

سوف اتوجه في خط مستقيم الى الجواب على هذا السؤال فأقول ان هذا السـر كشف عنه الأستاذ احمد الريسوني في كتابه (نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي) ، ذاكرا أن هذا الاستبعاد انتقل  إلينا من الفقه الإسلامي التقليدي السائد في بلادنا ، والذي كان محكوما بأمرين:

الأول اعتباره الشرع الإسلامي ، كاملا ، مستقلا في وجوده ، وفي مصادره، مكتف بذاته ، غير محتاج لغيره.

والأمر الثاني اعتباره قواعد القانون الطبيعي مستمدة كلها من العقل المحض وحده ، بعيدا عن التقيد بأي دين كيفما كان ، ولذلك استبعده كمصدر مستقل من مصادر القانون، كما استبعد أيضا فكر المعتزلة الذي يقول بقدرة العقل على استنباط الأحكام الشرعية ، دون حاجة الى تأييدها بالكتاب والســنــــة.

وهذه النظرة الكمالية للشرع الإسلامي هي التي جعلت الفقهاء لم يهتموا بغيره من الثرات القانوني العالمي، الذي لم يقوموا بترجمة أي أثر فكري من آثاره ، حسبما شهـد على ذلك المرحوم عـلال الفاسـي في كتابه :”دفاعا عن الشريعة” الذي ابدى في هذا الامر موقفا غريبا ، ذلك انه عوض أن يتأسف على انعدام هذه الترجمة ، معتبرا اياها خسارة، وانغلاقا متعصبا على الذات ، فانه على العكس من ذلك حبذها لانها حسب قوله تجعل الشرع الإسلامي محتفظا على صفائه وعلى أصالته، ومبتعدا عن التأثر بأي مذهب من المذاهب الأجنبية أو الأفكار الغير الإسلامية.

وإن كان الأستاذ الريسوني قد ذكر استمرار هذه النظرة الكمالية للشرع الإسلامي في العصر الحديث ، فان الموقف السلبي والرافض للاستاذ علال الفاسي من القانون الطبيعي يؤكد استمرار تلك النظرة في بلادنا ، فقد قال في كتابه الانف الذكر ما يلي :

(( …. فالشريعة واضحة، ولا يمكن أن تقبل غموض القانون الطبيعي ، أو قانون العدالة ، أو ضمير الملك ، لأنها مجرد تخمينات لا تستند لغير ما يحسبه الناس أنه حسن الإدراك ، ولا ضمان له ، ولا دليل عليه.))

ويبدو أن المغرب لحد الان لا يزال يكرس بالكامل نظرة الفقه الإسلامي التقليدي تلك ، بدليل عدم ذكره القانون الطبيعي من بين المصادر الواردة في الفصول 474، 475،476 من قانون الالتزامات والعقود ، وذلك في الوقت الذي تحررت فيه دولة مصـر من هذه النظرة ، بتنصيصها في المادة الاولى من قانونها المدني على جعل القانون الطبيعي من ضمن مصادر حكم القاضي في حالة عدم وجود نص تشريعي .

هذا ففي الوقت الذي رأينا فيه فكرة القانون الطبيعي غائبة ومغيبة في الفقه التقليدي الإسلامي ، فإنها على العكس من ذلك كانت حاضرة في الفقه المسيحي، إذ نجد القديسين : اوغسطنين ، وتوما الأكويني ، يعترفان بالقانون الطبيعي، معتبران إياه أساس الحياة الاجتماعية  لارتكازه على دعامتين أساسيتين هما:

ان لا يفعل المرء مع غيره ما لا يود أن يفعلوا به ، وأن يعطي لكل ذي حق حقه.

ويمكن القول بنوع من الفخر والاعتزاز أن المجتمع المغربي في بعض المناطق البعيدة عن نفود الدولة المركزية ، استطاع أن يتحرر من نظرة الفقه التقليدية السابقة ، ونجح في تأسيس كيانات سياسية ديموقراطية مستقلة ، مسترشدا في ذلك بهدي مبادئ القانون الطبيعي الكامنة في العقــــل.

يقول فيلسوف العقد الاجتماعي جون لوك ما يلــــي:

(( عندما تجتمع كلمة عدد من الناس على تاليف جماعة واحدة، لكي يعيشوا عيشة رخية آمنة سالمة، وأن يستمتعوا بأموالهم، ويأمنوا شـر من ليس منهم، يصبحون من حينهم هيئة سياسية واحدة تكتسب الأكثرية فيها الحق بالتصرف وإلزام الآخرين .. وأن تأليف مثل هذا المجتمع وعلى هذا الوجه فقط، نشأت، وتنشأ كل حكومة شرعية في العالم.))

هذا الأمر بالضبط الذي ذكره لوك في كتابه (( في الحكم المدني)) هو ما فعلته المجتمعات الأمازيغية التي كانت بعيدة عن حكم الدولة المركزية ، فاستطاعت بذلك أن تخلق مجتمعات سياسية منظمة ، يحكمها تشريع وضعي مكتوب ومتوافق عليه ، وتخضع لسلطة عامة ، مؤلفة بطريق ديموقراطي وفي إطار الحرية والمساواة  بين كل مكوناتها ، لغاية تحقيق السلام والتعاون والخير المشترك.

ويكفي الاطلاع على ديباجة تشريع “أمقـــن” لمجتمع أيت وادريم المؤرخ في سنة 1811 ميلادية ، لإدراك مدى تطابق أفكار هذا الشريع مع روح فكرة العقد الاجتماعي السياسي، الذي تحدث عنه جـون لــوك.

ويسرني أن أختم هذه المداخلة بذكر نص هذه الديباجة الرائعة الذي هو كما يلــــي:

(( … فبحول الله وقوته وتوفيقه ، عقدنا عقد مؤاخاة ، ومسالمة ، ومشاركة ومتابعة ، بين بني وادريم من حد أقطار القبيلة ، ومن انتسب إليها، وانضاف إليها، وانتصر لأربابها، عقدا يوجب لهم حفظ الدماء والاموال والأعراض، ويوجب رجوع كل شارد الى وطنه بلطف الله وشفقته على عباده الضعفاء، وأن يقبض الأعيان القريب والبعيد، والجانب والأخ بيد واحدة، ويوجب بحول الله أن يكون الجميع يدا واحدة، ويتواصلون ويتزاورون، ويتراحمون ، ويتوامنون، ويتشاورون في محدثائهم،ويسلكون في مشورتهم الأصلح، ويتصابرون، ويتواصون على الفلاح، ويامرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويثوبون، ويندمون على ما سلف أن صدر منهم من الكبائر والسيئات وقبائح المنكر، ويتعاونون في أمور دينهم ودنياهم ، على أن يكون اعتماد امور القبيلة في يد الله ويد أعيانها الآتي أسماؤهم، واتفق رأيهم على ما سيذكر من الإنصاف (العقوبات) في كل حادثة، لا قديم الا الله، وعلى ذلك عرفهم وعرف اعقابهم إن شاء الله، ويكون الإنصاف (العقوبات) الآتي على الإثلات، الثلث للمصالح، والثلتان للأعيان، فالله يجعل البركة في رأيهم))

لهذه الأسباب، عسى ان ينجح المغرب في تحرير منظومته القانونية كما نجح في مسلسل تحريره السابق  فيقوم  بما يلــي:

  • الإقرار بالقانون الطبيعي كمصدر من مصادر تشريعاتنا الوطنية.
  • العمل على فتح كرسي في الجامعات المغربية لتدريس هذا القانون.
  • صيانة التشريعات الأمازيغية القديمة والاعتزاز بها ، باعتبارها كانت سباقة الى ابطالها عقوبة القصاص وكذا عقوبة الضرب ، و الرجم ، وقطع الاعضاء الجسدية ، وغير ذلك من أنواع العقوبات الماسة بكرامة الانسان ، التي كانت مطبقة في الكثير من دول العالم.
  • تعديل دروس كليات الحقوق بإدماج هذه الشريعات الأمازيغية في موادها لتنشئة الطلاب على معرفة التطور الفكري القانوني لاجدادنا ، وكذا على تشبعهم بالممارسة الديموقراطية.

 

 

 

 

 

 

شاهد أيضاً

«مهند القاطع» عروبة الأمازيغ / الكُرد… قدر أم خيار ؟!

يتسائل مهند القاطع، ثم يجيب على نفسه في مكان أخر ( الهوية لأي شعب ليست …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *