ترحل الأجيال وتترك وراءها آثار وأمجاد تعتبر ثمرة جهودها من أجل البقاء والإستمرار، ونموذج للتضحية من أجل الوحدة والوطن، بل وإسهاماتها في القيم المشتركة الإنسانية، وإرث يرقى للكونية. لكن حين يهملها المؤرخون والباحثون، ويتجاهلها الغافلون، ولا يعيرها متليقها من الجيل الجديد أي إعتبار، ستسقط لا محالة في غياهيب النسيان وتغيب ببطئ من تاريخ البلد وتندثر من الذاكرة الجماعية.
على سبيل المثال، كم من “أكدير” أو مخزن جماعي كإرث مادي تتساقط أسواره أمام أعيننا اليوم ولا من يحرك ساكن؟ كم من محكيات وأساطير أمازيغية غابت عن المتخيل المحلي لأنه لم يتم توثيقها وتدوينها؟ وفي المقابل صمدت الأساطير الإغريقية الضاربة في القدم كمرجع أكاديمي وإرث إنساني. لهذا القدم ليس مبرر للنسيان، لكن الغفلة والتناسي والتجاهل والجحود هم من يغيب الحلقات المهمة من الذاكرة وتدخلها عالم المجهول الغائب.
لذا تعتبر المقاومة بالأطلس الصغير الغربي عموما، ومعركة أيت عبد الله على الخصوص، نمودجا للإرث الوطني المنسي والمتناسي، وصرخ لا مادي ومجد تاريخي آيل للسقوط وجب علينا نفض غباره، ترميمه وإنقاده من الهلاك كجزء لا يتجزء من الموروث التاريخي الوطني.
عقود من الزمن ونحن نحتفل جميعا كأمة موحدة عبر التراب المغربي إفتخارا بعيد الإستقلال، سنوات ونحن نمجد بكل إعتزاز ووطنية عبر ربوع الوطن في المناسبات وكتب التاريخ ودروس المادة بالمدارس، وعبر أفلام وثائقية أمجاد معارك وطنية من أجل الإستقلال والحرية والإنعتاق من دهاليز الإستعمار.
من منا لا يعرف مقاومين أمثال عبد الكريم الخطابي بالريف ومعركة أنوال، وعسو أوبسلام من أيت عطا ومعركة بوكافر، والهيبة من أيت بعمران ومعاركه التي وصلت سيدي بوعثمان نواحي مراكش. لكن لا أحد يذكر مقاومة الأطلس الصغير الغربي ومعركة أيت عبد الله المجيدة التي تعتبر آخر المعارك بقيادة المقاوم البطل الحاج عبد الله زاكور. لماذا أسقطت هذه المحطة من التاريخ المحلي والوطني، ولا وجود لها بكتب التاريخ المدرسي؟
النضال ضد المستعمر لم يشكل وسمة عار على جبين أهل سوس، بل هو صفحة مشرقة من التاريخ المحلي والمغربي ومفخرة بحجم وطن. من العار أن نساهم بصمتنا في إقبار المعركة من الذاكرة الجماعية وتقزيم مساهمة السوسيين في بناء إستقلال الوطن، ومشاركة مقاومي جبال الأطلس الصغير ببسالة في الملاحم الوطنية.
السؤال الذي يطرح نفسه بالمنطقة، هل كتب الزمان على أهل سوس أن يضحوا بأموالهم من أجل تنمية قراهم المهمشة، ويناضل المجتمع المدني السوسي لإثبات الهوية ضد الحكرة والإقصاء والتهميش؟ عوض أن يوجه جهوده نحو النماء. وهل قدرنا كذلك أن نكافح من أجل التذكير بإسهامات المقاومين السوسيين من أجل إستقلال الوطن، وبالأرواح التي سقطت فداءا لوحدة الوطن، ليسجل التاريخ ملاحمنا الوطنية؟ أي قدر بمقدار أسطورة سيزيف هذا !! هل معركة أيت عبد الله، كآخر معقل لم يدخله المستعمر الفرنسي إلا بعد إستعمال الطائرات الحربية ضد العزل، بعد أن أستعصي عليه إقتحام المنطقة الجبلية وهزم شجاعة المقاومين الوطنيين المرابطين بالجبال في ظروف صعبة لا تستحق الذكرى والتوثيق، ولا ترقى لمستوى أن تنقش في ذاكرة الناشئة عبر مادة التاريخ المدرسي؟ أسئلة بريئة لمن يحمل هم إنقاد الإرث المحلي وصون الذاكرة الوطنية.
مسؤولية الدفاع عن المشترك الوطني، وإحياء ذكرى المقاومة بالأطلس الصغير الغربي لحمايتها من الضياع مسؤولية مشتركة بيننا كمغاربة كمجتمع مدني وكقوى حية تنذر المنذرين وتدق ناقوس الخطر حين تستشعر هفوات ستنال من مجدنا وتاريخنا. وما أنسانا في النوم واليقظة.
معركة أيت عبد الله محطة تاريخية ملهمة تبحث عن حقها في الضوء العمومي، لما لها من رمزية تاريخية ووضع إعتباري في نفوس أهل المنطقة، الذين هم في أمس الحاجة لما يلهم ذواتهم ويذهب عنهم أحزان الجفاف، وإعتداءات الرعي الجائر وغيرها من المآسي التي تعرفها أعالي جبال سوس اليوم.
نضال المغرب من أجل تحقيق الإستقلال مر بمرحلتين، مرحلة المقاومة المسلحة خاصة في البوادي المغربية ما بين 1912 ـ 1934، تاريخ آخر معركة، معركة أيت عبد الله المنسية،التابعة ترابيا لإقليم تارودانت، كآخر حلقة في الكفاح المسلح ضد المستعمر الفرنسي. ومرحلة الحركة الوطنية التي نشأت بعد إصدار الظهير المسمى زورا “بالظهير البربري” في 16 مايو 1930. وتمكن المغرب أخيرا من انتزاع إعلان الاستقلال في مارس 1956.
بقلم امحمد القاضي
رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله