القى السيد المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير الدكتور مصطفى الكتيري كلمة بمناسبة تقديم كتاب ” القضاء العرفي بالمغرب خلال عهد الحماية 1912-1956″ للأستاذ عبد العزيز بودرة خلال الدورة 27 للمعرض الدولي للنشر والكتاب- الرباط- 2022، وذلك يوم الأربعاء 08 يونيو.
وجاء في كلمة المندوب “يسعدني أن أشارك في هذا النشاط الفكري المنظم برواق المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، والذي يهم تقديم أحد إصدارات هذه المؤسسة برسم سنة 2021، ويتعلق الأمر بمؤلف يتناول موضوع ” القضاء العرفي خلال عهد الحماية الفرنسية بالمغرب 1912-1956″ لمعده الباحث الاستاذ عبد العزيز بودرة. وهذا اللقاء، هو الرابع ضمن سلسلة الحلقات الفكرية التي تنظمها المندوبية السامية لقدماء المقاومين واعضاء جيش التحرير بمناسبة فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب في دورته 27 لسنة 2022″.
و”وهذه فرصة قيمة ومناسبة سانحة للتعريف بعينات من المؤلفات والأطروحات التي تعكف هذه المؤسسة على نشر متونها ووضعها رهن إشارة المهتمين والأساتذة الباحثين في شتى العلوم، ومنها العلوم القانونية والسايسية التي تمتح منها هذه الدراسة مضامين إشكاليتها، وكل ذلك بتعاون وتنسيق مع الشباب الباحث، الطموح ، والراغب في الاستزادة من معين التاريخ الوطني الذي نساهم في تراكمه المعرفي كما وكيفا، بمثل هذه المبادرات الحاملة لعصارة الأفكار وخلاصات الدراسات العلمية ومخرجات الاجتهادات المعرفية”.
و”معلوم أن فرنسا الاستعمارية وهي تخطط لتنزيل سياستها الاستعمارية بعد سلسلة من الاتفاقيات السرية والعلنية مع القوى الإمبريالية للقرن التاسع عشر، قد عملت على تجهيز نفسها اقتصاديا واستخباراتيا وعسكريا وسياسيا وديبلوماسيا، إلا أن سير الأحداث وتطور الوقائع على الميدان أكد أن ما بين التنظير والتطبيق بون شاسع وفرق كبير، وهو الموضوع الذي كان محط مؤلف الدكتور سمير بوزويتة بعنوان “الاستراتيجية العسكرية الفرنسية في محك المقاومة المغربية 1912-1934″الصادر ضمن منشورات هذه المؤسسة برسم سنة 2022، والذي تم تقديمه يوم الأحد 5 يونيه الجاري، حيث أكد أن السياسات والاستراتيجيات العسكرية الفرنسية كانت دائما ما يعاد فيها النظر حسب ما استجد من معطيات ومعلومات عن المقاومة المغربية في الميدان، هذه المقاومة الشرسة وغير المتوقعة التي استمرت زهاء 30 سنة”.
و”بموازاة مع عمل هذه الآلة العسكرية الفتاكة على الأرض، كان دهاقنة الاستعمار لا يبرحون مكاتبهم إلا لماما، ولا تنفَضُّ اجتماعاتهم إلا في أوقات متأخرة، ولم يستمر القادة في مناصبهم إلا لفترات قصيرة، بسبب الإشكالات العصية التي طرحها إخضاع المغرب، وفي كل مرة كانت تتفتق عبقريتهم عن أفكار ماكرة ومكائد جديدة وأساليب تدليسية ذات نفحات عنصرية، من أجل التغطية على إخفاق الآلة العسكرية في تحقيق المخططات وبلوغ الأهداف”.
واضاف “لقد فكر هؤلاء الساسة بمكر وخبث في تنزيل منظومة قانونية عُرفت بالسياسة العرفية من أجل التفريق بين أبناء المغرب الواحد الذين امتزج دمهم وعرقهم منذ إدريس الأول وكنزة الأوربية إلى يومنا هذا، وهي الحقيقة التي جعلت المؤرخ الناصري يقول : “سبحان الذي مزَّغ حاحا وعرّب دكالة” .
وقال “فالدولة الاستعمارية “فرنسا” اتخذت من مكونات الهوية الوطنية لمستعمرتِها المغرب، المتميزة بالتعدّد والتنوع، وسيلة وآلية، من أجل تثبيت هيمنتها الاستعمارية وإحكام قبضتها الكولونيالية، عبر العمل على تشتيت وإحياء الصراعات العرقية والإيديولوجية التي من شأنها إشعال فتيل الانقسامات وضربِ وحدة الشعب التي أنجبت الأمبراطوريات التي سادت على الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط”.
ثم “لقد كانت الفكرة الأساسية التي قامت عليها السياسة البربرية الفرنسية، هي أن الشعب المغربي ليس عربيا” وهي الفكرة التي استهل بها القبطان “فيكتور بيكي” كتابه الصادر بباريس سنة 1925 تحت عنوان مزدوج {“Peuple marocain: , le bloc berbere”؛ “الشعب المغربي، الكتلة البربرية”} وهو المؤلِّف المختص والمتمرس في تعريف أمور شمال إفريقيا وتشكيلها، والذي حاول إثبات، مثل آخرين كثر، بأن جزء من الشعب المغربي، الذي ما يزال غير مُعَرَّب بإمكانه الوصول للحضارة الفرنسية، بشرط منع مواصلة حصوله على البصمة العربية”.
و “هذه السياسة التي نهجتها فرنسا بالمغرب، هي التي يتتبع هذا الكتاب جذورها من خلال التعريف بالتجربة الفرنسية بالجزائر والتدقيق في الإطار الفكري للسياسة الأهلية الفرنسية بالجزائر، ويقدم بعد ذلك صورة تفصيلية عن وضعية القضاء المحلي والمركزي بمغرب الحماية، حيث تم التمييز بين أنواع المحاكم بالمغرب، وتحديد المهام التي كانت تضطلع بها طيلة فترة الحماية، وتحديد المناطق ذات العوائد “البربرية” الأمازيغية التي عينتها فرنسا بمراسم وزارية على مدى 15 سنة، وهو ما أعطى صورة واضحة عن التقسيم المجالي والاثني الذي سعت إدارة الحماية إلى فرضه على المجال المغربي”.
و”علاقة بصلب إشكالية الموضوع ، فقد عالج الكتاب ما سمي “بالإصلاحات القضائية الفرنسية بالمغرب” من خلال تحديد القانون المطبق في بلاد العرف، والتركيز على أهم الإصلاحات العرفية التي وضعتها سلطات الحماية إلى غاية سنة 1930م، اعتمادا على جل المراسم الوزارية التي صدرت في هذا الشأن والتي قامت بتحديد القبائل التي شملها ظهير 11 شتنبر 1914. وقد كانت هذه المهمة دقيقة جدا، حيث ظلت هذه الفترة التاريخية دون إصدار أي ظهير يخص تدبير الأعراف القبلية، إلى حدود صدور ظهير 15 يونيو 1922، الذي نص على إدخال التسجيل العقاري إلى المناطق الأمازيغية “البربرية”، وتعيين ضابط عسكري يسهر على تفويت العقارات للأشخاص الأجانب عن القبيلة”.
“كما تقف هذه الدراسة عند سنة مفصلية من تاريخ المغرب المعاصر وحدث فارق في مرحلة الكفاح الوطني من أجل الحرية و الاستقلال، ويتعلق الأمر بمحاولة فرنسا مأسسة القضاء العرفي بإصدار ظهير 16 ماي 1930م، الذي رامت من خلاله الإدارة الاستعمارية الفرنسية إلى منح الشرعية لـ “اجْماعات” القضائية التي أصبح يطلق عليها اسم المحاكم العرفية، وتحديد صلاحياتها التي شملت جميع القضايا، المَدَنِيَّة منها والتجارية، والأحوال الشخصية والإرث، باستثناء القضايا الجنائية؛ بالإضافة إلى القيام بإلحاق القضاء الجنائي العرفي بالقضاء الفرنسي بمقتضى المادة السادسة من ظهير 16 ماي 1930م، وهو ما شكل محاولة لفرنسة القضاء العرفي وتدجينه، وبيَّن حقيقة نوايا فرنسا تجاه هذا النموذج القضائي الذي طالما ادعت دفاعها عنه، احتراما للاجئين إليه من القبائل الأمازيغية، كما شكل اعتداء صارخا على اختصاصات السلطان بعدما أقرت معاهدة الحماية باحترام فرنسا لجميع سُلطه”.
و”في هذا الباب، بسط الكتاب أهم ردود الأفعال التي أعقبت صدور ظهير 16 ماي 1930م الخاص بتنظيم العدالة في القبائل التي كانت تصنف من “ذات العوائد البربرية”، حيث واجهت فرنسا عقب صدور هذا الظهير متاعب كثيرة؛ سواء في تعاملها مع موقف السلطان المغربي الذي تراوح بين الرفض أحيانا والرضوخ للضغوطات أحيانا أخرى، أو في مواجهتها لاحتجاجات الطبقة المثقفة والنخب السياسية الناشئة بالمدن المغربية، والتي عملت على التنديد بالظهير بكل العالم الإسلامي سعيا لتدويل القضية المغربية، وفي هذا الصدد يقول “دانييل ريفيه” في كتابه “المغرب أمام امتحان الاستعمار”: “إن المغاربة تمسكوا بما لم يستطع الاستعمار أن ينتزعه منهم”، حيث اصطدم هذا المرسوم مع جيل بأكمله، ونهض هذا الجيل لمواجهته، واستغل هذه المواجهة لإيقاظ النزعة التحررية”.
و”هذا الكتاب يتطرق أيضا إلى رد فعل فرنسا تجاه هذه الاحتجاجات سواء على مستوى المذكرات التي أصدرتها أو التدخلات التي قامت بها بهدف قمع المتظاهرين، أو من خلال مباشرتها لنقاشات تبين استعدادها التخلي عن الظهير. وهنا وقف الباحث عند مسألة مهمة غيّبتها معظم الدراسات السابقة، ويتعلق الأمر بحيثيات استبدال فرنسا لظهير 16 ماي 1930م، بظهير 08 أبريل 1934م، الذي تراجعت فيه فرنسا الاستعمارية عن كل ما تم رفضه خلال الاحتجاجات والمظاهرات المناهضة لظهير 16 ماي، حيث قدم قراءة في الظهير الجديد والاجراءات التي رافقت تطبيقه، كما تتبع سير المحاكم العرفية، والتغييرات التي طرأت على تنظيمها، واختصاصاتها، بعد سنة 1934م”.
و”رغم هذا التراجع من قبل سلطات الحماية، فقد واصلت فرنسا سياستها الساعية إلى خلق شرخ بين مكونات الشعب المغربي، من خلال التركيز على لجوء فرنسا إلى خلق نظام تعليمي مغاير للنظام التعليمي المعمول به في المدن، بغية خلق طبقة مثقفة أمازيغية معارضة للنخبة الموجودة بالمجال الحضري. وكذلك، من خلال محاولاتها الرامية إلى تعميق الهوة بين العرف والشرع، بالإضافة إلى تحييد العرف والحفاظ على تقليدانيته”.
و”المهم هو أن الكتاب يخلص إلى أن الإدارة الاستعمارية الفرنسية قد فشلت في مشروعها الاستعماري البعيد المدى وخاصة في جانبه القانوني الذي كان يهدف إلى إحداث ما يمكن أن نشبهه في زمننا الحاضر بتلاعب جيني في الكيان المغربي، بالرغم من الإمكانيات التي رصدوها من أجل ترسيخه وضمان نجاحه”.
وقال المندوب السامي في تقييم الكتاب لا يسعني إلا أن أؤكد على أن الكتاب، بما احتواه من مادة علمية اعتمد في توثيقها على مادة أرشيفية غنية وخصبة، هو لبنة أخرى جديدة تضاف لمحصلة علمية غنية وتراكم معرفي زاخر، تقارب الأوضاع بالمغرب إبان فترة الحماية وكفاح العرش والشعب من أجل الحرية والاستقلال، من مختلف منطلقات الدراسة وزوايا التناول وآفاق البحث، وكل ذلك من أجل توثيق التاريخ الوطني وإماطة اللثام عن ذخائره وكنوزه وتسليط الأضواء الكاشفة على بعض من زواياه التي لازالت العتمة تكتنفها وأَقلام البحث لم تقتحمها.