اختار الأستاذ والمحامي، مصطفى المنوزي وهو من عائلة معروفة بمنطقة تافراوت، عائلة مقاومة للاستعمار الفرنسي ومناضلة في سنوات الجمر والرصاص بالمغرب، أن يكتب يوميات “الحبس الاختياري”.
مؤسس “المنتدي المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف”رئيس “المركز المغربي للديموقراطية والأمن” وأمين عام شبكة “أمان لتأهيل ضحايا التعذيب والدفاع عن حقوق الإنسان”، ورئيس “أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي” وعدد من التنظيمات الحقوقية والجمعوية، اختار أن يتعامل مع حالة “الطوارئ الصحية” التي أعلنت بالمغرب لمواجهة تفشي وباء فيروس “كورونا” المستجد، بتدوين يومياته في “الحجر الصحي” على شكل حلقات متتالية..
(الحلقة 57)
في بحر سنة 1992، أي بعد سنتين تقريبا من تسجيلي في جدول المحامين بأكادير كمحام رسمي (ثامن ماي 1990)، وأنا أهم لأغادر قاعة الجلسات بالمحكمة الابتدائية بإنزكان في البناية القديمة طبعا، سمعت صوتا يناديني “أستاذ منوزي”، التفت جهة مصدر الصوت والنداء، فوجدت النقيب مبارك الطيب الساسي، لم أصدق، وقال لي “لابأس، يالله نوصلك لأكادير، عندي ليك شي خبار”. لم أكن أملك السيارة آنذاك، وافقت بعد إعتذاري للفقيد الاستاذ محمد المهدي الدرقاوي، قبل أن ننتخبه نقيبا؛ وأردف النقيب الساسي “اليزيد يبلغك سلامه، ويقول لك” حان الوقت للالتحاق بالحزب “قلت له أي حزب؟، فرد “معنا طبعا”.
طلبت مهلة للتشاور والتفكير في الأمر. غيرنا الموضوع وتحدثنا في عموميات لم أتذكرها، لأن “إلتفاتة” النقيب فيها نظر أولا، وكان جوابي شبه جاهز، ولكن كنت أريد التأكد من صحة ما نسب لليزيد البركة، وهو أحد قياديي جناح يسار الاتحاد الاشتراكي، رغم عدم عضويته في اللجنة الإدارية الوطنية.
وفي أول فرصة تواصلت مع بعض أصدقائي ممن ظلوا “صامدين” في معمعة التنظيم، وقد أقنعتني بعض الإستشارات والوصايا؛ وهي أن “التنظيم بالدارالبيضاء وفق الشكل والمحتوى الذي كان عليه قبل ثامن ماي واقف؛ وبأن قرار تغيير الإسم اتخذ منذ 1991، والآن يتم التحضير للمؤتمر الوطني للحزب في اسم حزب الطليعة الديموقراطي الإشتراكي”.
وتجدر الإشارة إلى أنه في بحر السنة الدراسية والجامعية 1981.1980 التحق عدد من الإخوة الجدد بالحزب، أغلبهم شبان وشابات، ذلك الحزب الذي كان قيد التشكل في رحم الاتحاد الاشتراكي وبإلتحاق هؤلاء الاخوة والأخوات سيتغير وجه الحزب، أو الجزء من الحزب قيد التشكل في البيضاء؛ تم إحتضان الملتحقين الجدد في قطاع الشبيبة الإتحادية، وكانوا جميعهم من بنمسيك/سيدي عثمان، وقبل ذلك كانوا جماعة من تلامذة ثانوية مولاي إسماعيل التي غادرتها سنة 1979، كان هؤلاء الشباب يبحثون عن غطاء تنظيمي يساري لأنشطتهم.
وبعد التداول فيما بينهم واستعراض “الممكنات التنظيمية” المتوفرة وطنيا وبحكم بعض علاقات الحي والعائلة حسم الأمر لفائدة جنين “يسار” الاتحاد الاشتراكي حينئذ، لقد غير التحاق هؤلاء الاخوة والأخوات وجه الحزب محليا. بل سيصبحون سريعا هم الحزب. فهذا الجيل سيجد واقعا تنظيميا جديدا وبنية استقبال خالصة من رواسب “الماضي التنظيمي” إثر عزوف غالبية العدد القليل من أعضاء التنظيم المتبقين من سابق صراع كاد يعصف بكل شيئ (صراع كان معروفا بين جماعة اليزيد و من معه و جماعة فجري وعائلته والصيدلي المغراوي الذي قدموه لنا بأنه من بلدة الفقيه البصري ولربما من عائلته) عزوف عن مواصلة العمل الحزبي في الإقليم الحزبي للدارالبيضاء الكبرى.
ومنذ إختطاف عبد اللطيف الهاشمي رفقة عمر منير واليزيد البركة وأحمد بنجلون ومنية شادي، انقطع الاتصال الحزبي والتواصل التنظيمي مع “لحظة” المغراوي ومن معه وكانت انتفاضة 20 يونيه1981، والتي شارك فيها الشباب المؤطر في عدد كبير من الجمعيات من بينها جمعية الأهداف الثقافية بقرية الجماعة، أسسناها بالموازاة مع تأسيس جمعية الهدف بيعقوب المنصور بالرباط، كانت الانتفاضة وكذا الاعتقالات سببا في رحيل عدد كبير من قدماء التنظيم ، وتوقف مسار “الصدام” بين القديم والجديد، ولقد شكل اندفاع وحماسة الملتحقين الجدد مدعاة لقلق “الزعامات” المحلية وأدى كل ذلك إلى توثر استمر يلف التنظيم في الدار البيضاء طيلة العقدين التاليين، ولقد تفاجأ الملتحقون بحقيقة السياسة أو بالوجه “الخسيس والحقير” في العمل السياسي، الوجه الذي لا يتورع عن التآمر و تلفيق التهم والتضحية “بالآخرين” وتقديمهم حطبا لنار لا يعرف أحدا من أضرمها، زاد من حدة كل ذلك تعقد وغموض الصراع الحزبي، صحيح أن الصراعات في تاريخ الحركة الاتحادية كانت دائما غامضة ومعقدة؛ غير أن تعقيد هذه اللحظة كان مضاعفا.
ومن أهم الآثار سيتعلم هؤلاء الشباب أن الأكثر رفضا في السياسة، هو أن تكون مستقلا. وستجد القوة الجديدة والصاعدة في”التنظيم الحزبي” نفسها بالبيضاء في خضم صراعات متعددة المراكز والأقطاب.
صراعات مؤسسة على تراكم هزائم وإحباطات سابقة، هزائم وإحباطات اتخذت شكل “خلافات سياسية” وقدمت في طابع “إيديولوجي” أضيف إليها بعض من العنتريات و “بطولات ” وأساطير. ولقد بذل مجهود معتبر في صناعة التغطية الإيديولوجية والعلمية ” لذلك الصراع، وفي غياب مثقفين و ذوي الكفاءة في هذا النوع من الصناعات /فقد أصبح كل من اصطنع لغوا مغلفا ببعض كبير كلام وبقايا مصطلحات، منظرا”، ومن حسن حظي غيبني الاعتقال عن تلك الظرفية المفارقة، ومن الناحية الواقعية صار بنمسيك هو مركز التنظيم. كما أن مركز الثقل والفعالية “التنظيمية” انتقل من كلية الحقوق إلى كلية الآداب بعين الشق ثم الآداب ببنمسيك لاحقا، وتلك وقائع كانت من بين العناصر التي تم توظيفها من طرف البعض لتضخيم الحجم التنظيمي للحزب بالبيضاء، لاستعماله بشكل مغرض في المعارك اللاحقة. بكل صراحة لم أكن متحمسا العودة إلى نفس البيئة، وأنا المطرود من “حزب فرع المدينة” منذ خروجي من السجن في صيف 1986.
و كنت صادقا مع نفسي، لأن الأمر كان صعبا، والحال أنني أحتاج إلى إقتناع كبير، فتنظيميا انقطعت الصلة، ومعنويا منذ توقف جريدة المسار سنة 1988، وسياسيا منذ 1991 يوم صدور القرار بتغيير إسم الحزب، أما وجدانيا فمنذ يناير 1994 يوم إطلعت على أدبيات المؤتمر 4، ومع ذلك ستظل علاقتي مع أغلب المناضلين الأوفياء إلى يومه؛ خاصة وأن التنظيم الوحيد الذي استمر، نسبة إلى كافة التنظيمات الشبيبية على الصعيد الوطني؛ هو تنظيم بنمسيك المتوتر العلاقة مع “حزب فرع المدينة”، خاصة وأنه لم يتورط في اعتقالات 8 ماي 1983 ليظل شاهدا على حقيقة الاختلاف و الإستمرارية وعلى الوفاء للمبدأ. ( يتبع في الحلقة 58) .