المنوزي يكتب: يوميات الحبس الاختياري(الحلقة 58)

مصطفى المنوزي

اختار الأستاذ والمحامي، مصطفى المنوزي وهو من عائلة معروفة بمنطقة تافراوت، عائلة مقاومة للاستعمار الفرنسي ومناضلة في سنوات الجمر والرصاص بالمغرب، أن يكتب يوميات “الحبس الاختياري”.

مؤسس “المنتدي المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف”رئيس “المركز المغربي للديموقراطية والأمن” وأمين عام شبكة “أمان لتأهيل ضحايا التعذيب والدفاع عن حقوق الإنسان”، ورئيس “أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي” وعدد من التنظيمات الحقوقية والجمعوية، اختار أن يتعامل مع حالة “الطوارئ الصحية” التي أعلنت بالمغرب لمواجهة تفشي وباء فيروس “كورونا” المستجد، بتدوين يومياته في “الحجر الصحي” على شكل حلقات متتالية..

(الحلقة 58)

لقد ظل مطلب تقييم الأحداث، حقيقة، من القضايا العالقة إلى يومه، وإن كنا نملك، منذئذ، بعض العناصر والمعطيات الكافية والمفيدة لبلورة موقف، في الطريق إلى الحقيقة، وكلها مرتبط بسؤال جودة التحضير لمحطة 8 ماي 1983 يوم اجتماع اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي، وقبلها محطة سابع ماي، موعد انعقاد اللجنة الإدارية الوطنية، والتي من المنتج التصريح بما جرى من باب عدم التكرار، طبعا ليس بمنطق اليوم، ومرتبط بمن قرر حضور المناضلين من كافة الأقاليم بغض النظر عن علاقتهم المؤسساتية باللجنتين الإدارية او المركزية، وبالسياق العام المحيط، ومرتبط بتحديد مكامن الخلل، هل في الحضور الكمي أم في سوء التعبئة غير الكيفية أم في إصدار قرار طرد المكتب السياسي؟.

وفيما يخصني أنا شخصيا ويخص قرار الحضور، وهو قرار اعتبرته آنذاك قرار إنزال متهور لأنه كان يروم تجييش شباب غير مهيأ في الحقيقة، بدليل أنه بمجرد اعتقال 34 مناضل وإقفال مقرات الرباط، توقف النشاط وضاعت البوصلة لأكثر من نصف عقد من الزمن؛ فقد زارني الأخ محمد بوشطو، ليلة الأحد، أي بعد اجتماع اللجنة الإدارية الوطنية يوم 7 ماي، وقال لي بالحرف “قررت القيادة الحضور غدا صباحا أمام مقر الحزب بأكدال” إعتذرت له، لم أكن مقتنعا بهذه المغامرة السياسية الصادرة عن “مجموعة من المناضلين مجرد أعضاء في اللجنة الإدارية”.

وتساءلت متوقعا إما أن مذبحة ستقع في صفوف الطرفين وإما أن الاعتقالات ستتم، ولم أستوعب آنذاك، وقبل صدور البيان عن مناضلَيْن محاميَيْن ومجربَيْن وسلما نفسهما للنيابة العامة لاحقا: كيف يعقل التضحية بالاستراتيجيا من أجل التكتيك أي الحزب من أجل الموقف من المشاركة؛ وفيما يخص قرار طرد المكتب السياسي، هل كان صائبا، فأغلبية المناضلين بالدارالبيضاء، على الأقل، لم يستوعبوا لحد يومه جدواه، كما لم يفهموا معناه، حسب التشخيص السريع الذي قمنا به، وحوكمنا بسببه، بعلة أننا قدحنا في القيادة “الإفتراضية”، والحال أن من تصرف باسم القيادة لم يتشاور مع القواعد التي لم تكن بالضرورة ضمن قواعده حكرا وحصريا.

صحيح أننا توافقنا ضمنيا، بإسم “الشرعية النضالية” على التفويض لهؤلاء المناضلين، بكل ثقة، صلاحية تيسير تدبير الصراع السياسي والإيدولوجي تجاه التحريفية اليمينية ومن أجل التصحيح، ولكن إصدار قرار تنظيمي بذلك الحجم ، وأغلبية “القيادة” المفترضة رهن الحراسة النظرية في المعتقل والبقية مطاردة، لم إلا مغامرة سياسية، لعب فيها العقل دوره المساعد وهذا كان معروفا ومتوقعا وما جرى يوم ثامن ماي من إعتداء على المناضل عبد الرحمان كان سببا مباشرا. وهذه لم تكن المغامرة الأولى فقد سبق أن تقرر (وراء الستار) في بحر سنة 1981 “الهجوم” على مقر الحزب بدعوى “إسترداد أرشيف الكتابة الإقليمية، بطريق مديونة وكلفوني بالاتصال بالإخوان في ISCAE وتعبئتهم، وماكان مني إلا أن انبه الأخ عبد السلام لعزيز وحذرته من مخاطر المجازفة، لأن من أصدر القرار لم يكن عضوا في هذه القيادة المفترضة، فهو مجرد عضو مطرود من الكتابة الإقليمية للدارالبيضاء، ولولا الكاتب الإقليمي للشبيبة ومن معه لما كان له صيت أو وجود، فقد دورا كبيرا في تعبئة التضامن والمؤازرة لفائدته.

لقد تعرضت لتعنيف جراء موقفي الحكيم بعلة أنني أفشلت الخطة؛ كما سبق لي أن أقنعت الأخ حسن نايا حتى لا ينساق ومن كلف بالمهمة السوداء مع قرار (…) بالتعرض لصحافي مشهور بفاشيته (م .ب) وارتكاب جناية في حقه، بدعوى الإنتقام من إعتدائه على الأخ عزيز مليح، وذلك على هامش مؤتمر الشبيبة بمركز درب غلف سنة 1983.

ولولا وفاة العربي صادق الشتوكي لعرفنا بعض ملامح الجواب عن سؤال رهان أو رهانات “القيادة” داخل الأجل المعقول، ليبقى الإفتراض، لفائدة التاريخ فقط، أن الرهان كان ربما على وضعية الحزب إثر وقائع توتر علاقة المكتب السياسي بالقصر، وعلى الخصوص تدهور الصداقة بين الفقيد بوعبيد والراحل الحسن الثاني، وكذا تفاقم الحزازات الذاتية فيما بين بعض القياديين من المكتب السياسي ومن اللجنة الإدارية، مقابل رهان الدولة على إضعاف و تقسيم الحزب، استحضارا لقرار الملك الحسن الثاني بحل الاتحاد وإعتراض صهره أحمد عصمان، ورهان البعض على “دعم” رفاق الأمس والسلاح بالخارج. والمهم من كل هذا أنه تم إتخاذ قرار “عدم العودة” إلى مطلب التقييم بشكل عاطفي، لأن قرار الإنشقاق من أعلى كرسه قرار الطرد، وتبين في نظري ومن زاويته، وبعد مسافة اربعة عقود، أنه حصل سوء تحليل المعطيات وسوء تقدير الظرفية، وصار كل ما تعلمناه من قوانين المادية الجدلية في خبر كان، وحتى لا اقول أن القرارين، قرار التجييش وقرار طرد المكتب السياسي، بيروقراطيين، فإني أكتفي بالقول بأنهما متسرعين اعتمدا يقينيات غير محسوبة العواقب، ولحد يومه يصعب إجراء محاسبة حقيقية لمن هندس وقرر.

فدينامية جناح اليسار الإتحادي لم تكن تنظيمية واضحة الأفق، فحتى إجازة المؤتمرات الطليعية اللاحقة لما جرى وتبنيه كأمر واقع، صار يهم ويعني من انخرط في الحزب لاحقا تحت يافطة اسم جديد ووفق ادبيات جديدة، رغم شعار الاستمرارية لحركة التحرير الشعبية أو الحركة الإتحادية الأصيلة، فعقد من الركود التنظيمي والتيه كان له وقع كبير على فتور الحماسة، وخيار “عودتنا” إلى هذه الدينامية ظل يراودنا لولا أنه تم تهريب التقييم وعدم إجرائه في وقته او داخل أجل معقول، وتحضرني واقعة الصراع السياسي عقب قرار عقد المؤتمر الإستثنائي حين طالب فرع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالخارج بتقييم وقائع 3 مارس 1973، وأجابهم الشهيد عمر بقولته المشهورة “الوقت ليس وقت تقييم …”.

فقتل عمر قبل أن يجف مداد التقرير الإيديولوجي واستراتيجية النضال الديموقراطي (غير الانتخابي) وكذا حبر لائحة أعضاء المكتب السياسي واللجنة الإدارية التي غيب عنها مناضلون في المنفى والإعتقال؛ فتبخر الوعد وليطرح نفس سؤال جدوى التقييم والتقويم والمحاسبة، بعد رحيل مهندسي أسباب النزول المفترضين وعلى رأسهم المناضلين العربي صادق الشتوكي وأحمد بنجلون ومحمد بوكرين ثم عبد الغني بوستة، الذي ألحق لاحقا بقيادة حزب الطليعة رحمهم الله جميعا؛ ناهيك عن كون العديد من مناضلي الجناح، حضروا لقاءات ترتيب وهندسة ما حصل، التحقوا بالحزب الأم خاصة في المؤتمر الوطني الخامس الذي ترأسه عبد الرحمان اليوسفي، الذي كاد أن يتكرر فيه نفس سيناريو ثامن، إثر سيطرة تيار الشبيبة بقيادة محمد الساسي وتيار المحامين بريادة خالد السفياني وتيار الكنفدراليين بقيادة نوبير الأموي، هذا الأخير الذي أبرم تسوية مقابل عودة عبد الرحيم بوعبيد إلى المؤتمر وبالتالي الى الحزب.

وهو مؤتمر قطع مع أدبيات المؤتمرين الاستثنائي والثالث، وهو نفس الذي قام به المؤتمر ( الإستثنائي ) الرابع لحزب الطليعة وإن إختلف المنحى، والحال أن أصل الخلاف المعلن كان حول الانحراف يمينا عن مطلب الملكية البرلمانية و استرايجية النضال الديموقراطي على أساس البيان العام للمؤتمر الوطني الثالث، في حين عاد حزب الطليعة لمطلب المجلس التأسيسي في مؤتمر دجنبر 1993 (الافتتاح بمركب كنيسة المعاريف بزنقة Jura) وجدد الإستراتيجية على أساس تحيين أبعاد (التحرر والديمقراطية والاشتراكية) بنفس القدر الذي جدد به دماء الحزب بضخ نفس شبابي في الشرايين، ليبقى سؤال القطيعة والإستمرارية غير ذي أهمية، مادامت القطيعة السياسية والتنظيمية قد حصلت على أرض الواقع، وانصرف الإتحاد، خلال العهد الحسني، نحو الكتلة الدمقراطية، في حين ستبحر باخرة الطليعة في محيط اليسار بحثا عن تحالفات ممكنة مع قدماء المنشقين من الاتحاد واللاحقين، وكان لحلول العهد الجديد وتحولاته الوقع الكبير على المسارات الحديثة والمغايرة لكل حزب على حدة.

وسيظل المشترك بين الجميع ماضي العلاقات الغامضة والصراعات الملتبسة والتي لا تريد أن تمضي، ويبدو أن الفرصة تاريخية وملائمة للاعتراف بالتردد والخوف من البوح، فوبيا تسكننا ونحاول عبثا تصديره إلى غيرنا إرهابا فكريا بإسم الشجاعة الأدبية أو الطهرانية الشعبوية الدفينة في لبوس سياسي او حقوقي حتى! وسأظل أكرر مع رفاقي الأوفياء لأسباب النزول (جيلي من شبيبة تلك المرحلة) هل ينفع الندم عندما نكتشف اننا كنا حطبا لمعركة غير مضمونة الغاية، حتى لا نقول خاسرة وعديمة الجدوى ؟

اقرأ أيضا

قراءة وتحليل لقرار مجلس الأمن رقم 2756 حول الصحراء المغربية

قبل أن نبدأ في التفصيل وشرح مقتضيات القرار 2756، يبقى جليا بنا أن نقف على …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *