اختار الأستاذ والمحامي، مصطفى المنوزي وهو من عائلة معروفة بمنطقة تافراوت، عائلة مقاومة للاستعمار الفرنسي ومناضلة في سنوات الجمر والرصاص بالمغرب، أن يكتب يوميات “الحبس الاختياري”.
مؤسس “المنتدي المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف”رئيس “المركز المغربي للديموقراطية والأمن” وأمين عام شبكة “أمان لتأهيل ضحايا التعذيب والدفاع عن حقوق الإنسان”، ورئيس “أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي” وعدد من التنظيمات الحقوقية والجمعوية، اختار أن يتعامل مع حالة “الطوارئ الصحية” التي أعلنت بالمغرب لمواجهة تفشي وباء فيروس “كورونا” المستجد، بتدوين يومياته في “الحجر الصحي” على شكل حلقات متتالية..
(الحلقة 46)
علاقتي باكادير علاقة وجدان عميقة، وتنشئة وتكوين وارتقاء واندماج إجتماعي، هي منعطف نوعي بتراكم التحولات التي اثرت في شخصي، وأفضل ما في هذا التشخيص أن اكتفي بذكر الشخصيات والأشخاص الذين كان لهم وقع بين في مساري الحياتي والمهني، وليكن قاسم أشوان ابن خالتي وزوج شقيقتي رشيدة نموذجا للفضيلة والحب.
فقد إحتضنني واختي، ولم يكن عمي الحسن/غاندي أقل منه كرما ودعما، إلى جانب الأستاذ يحيى البدراري معلمي الأول، والذي فتح لي مكتبه للتمرين ، وهيأ لي ظروف الإنتماء الى المحاماة، وليكن الأستاذ عبد اللطيف أوعمو، برلماني منطقتنا والعائلة، والذي يستحق مني ان القبه وأدعوه بشيخي المهني، فمكتبه كان مدرسة للتكوين والتمرس، دون ان أنسى زملائي واصدقائي أولهم عبد الله عجول الذي استدركت معه خصاصي المعرفي في المسطرة والقانون المدني، كان مؤطري ومكوني.
ثم العربي التلمودي والذي لم يبخل بتضامنه ومحبته وعنايته، ومحمد اخويبي رفيق النضال السياسي والمقاومة المهنية، وإبراهيم بوجيد وأحمد الضاريفي وعلي العالمي، وعبد السلام بودرقة شقيق مبارك الداعمون لمسيرتي ماديا ومعنويا، وحسن المرجو النزيه فكريا ورفيق الكفاح المهني، وأحمد الديكراري رفيقي خلال فترة التمرين وما بعدها إلى يومه، والذي سجلت ذاكرتي ونقشت في عمق الوجدان لحظة أدائنا معا قسم مهنة المحاماة، بتاريخ ثاني نونبر 1987، بمحكمة الإستئناف بأكادير، أمام الغرفة المدنية المشكلة من قبل رئيسها الأستاذ الحسن بلخنفار وعضوية المستشارين محمد عطاف وإدريس الكثيري، بحضور السيد إبراهيم اليزيدي نائب الوكيل العام، والسيد بوجمعة سمير كاتبا للضبط، رفقة زميلتي نعيمة أبرباق وسعيدة هداية الله، وزملائي عبد الحميد بن بوعيدة و محمد الإمام الحاجي.
دعوني أسترجع معكم هذه اللحظة، وأنا المحكوم عليه بالإبعاد عن الدارالبيضاء لمدة خمس سنوات (محكمة الاستئناف بالدارالبيضاء وهي تبت في القضية بعد النقض، قضت بتأييد الحكم الابتدائي سنتين فقط)؛ والمطرود من “دينامية” حزبية أنا أحد مهندسيها ومجدد هياكلها؛ وأنا الذي تمت معاملتي كمن يحمل فيروس معدي وقاتل؛ لم تكن بنية الاستقبال المخابراتية و لا المهنية ولا الحزبية ولا القضائية حتى في مستوى تضحياتي وتضحيات عشيرتي وقبيلتي ولا أسرتي حتى !
وكان ما كان من تعايش وتنافر، كانت الحياة والمعاناة، ومرت مياه كثيرة من تحت الجسر، رغم السدود ورغم ثقافة الجفاء وسياسة الجفاف.
هذه نقط حذف توحي وتحيل على وقائع كثيرة صنعت مني الكائن الذي أنا، وفي جوفه هموم محام فتي يكبر معرفيا، حاولت مواجهة الطواحين والفزاعات، كنت كائنا يتلمس معالم طريقه نحو الكينونة القانونية والحقوقية، ولم أكن مغترا بما يكفي ليجعلوا مني “كاهنا” يطوق ذاتي بخصاله ومغامراته كهارب من الإنصاف، فلست فقيها متضلعا ولكن تواضعي المعرفي ظل يناسب تواضعي الإنساني ويلازم حجم كرامتي الفياضة.
هي قصة رجل سيموت شجاعا، ولكن ليس بعد أن يحكيها لكم ، ولنبدأ من الخاتمة، و التي ليست إلا ملامح بداية، عفوا سأبدأ من المشهد ما قبل الأخير، مشهد طالب في الحقوق حاولوا إلباسه وصم “مجرم كثيف السوابق ” حتى يحرم من ولوج مهنة المتاعب، لكن لحظة إنهاء آخر جملة في نص القسم “أقسم بالله العظيم أن أمارس مهام الدفاع والاستشارة بشرف وكرامة وضمير ونزاهة واستقلال وإنسانية، وأن لا أحيد عن الاحترام الواجب للمؤسسات القضائية وقواعد المهنة التي أنتمي إليها وأن أحافظ على السر المهني، وأن لا أبوح أو أنشر ما يخالف القوانين والأنظمة والأخلاق العامة، وأمن الدولة، والسلم العمومي”.
هذه اللحظة حلق بي الخيال، وقاسم ابن خالتي يعانقني بدموع دافئة، دموع الفرح والرحمة، كما وصفها لاحقا، قائلا بلكنته السوسية الجميلة “الحمد لله أوراغ تك تساست غانشك اللي تكا الرحمت”.
مشهد درامي يبدو فيه مصطفى على “الشاشة” مرتديا جبته السوداء، شبيهة بجلباب أبيه البيولوجي، ولكن مناقضة لبزة “عراب الدير”، حارس مقصلة إعدام المسارات البريئة بدم صقيعي، كما خمرة باخوس السياسة؛ ولكن تلك لحظة القسم كانت مفارقة ومنفعلة، كنا أشخاصا مختلفين، أنا ووالدي الحقيقي مختلفان شراكة مع منتحلي هوية الآباء الروحيين المزيفين، فالأب العظيم، مالك نطفتي، أقسم على تحرير الوطن، وابنه أدى اليمين القانونية، مزيجة بين قسم المهنة وبين إرادة التغيير الذات والموضوع لمن استطاع اليهما سبيلا.
فلحظة تحقيق الجهاد الأكبر قد انطلقت منذئذ، فقد تحقق الأمل وعلينا ان نحقق الحلم؛ لقد اخترنا مهنة المحاماة لمأسسة روح الدفاع عن حقوق الناس قبل الحقوق الشخصية، وتأطير طموحنا في بناء دولة القانون، وانخرطنا عن فطرة واختيار، معا ، في جبهة مناهضة الظلم، وسنكون سذجا إذا قبلنا نعت «الضحية» الذي يصموننا به، ونكون ماكرين إذا تراخينا في تقويم الإعوجاج تركنا تنظيماتنا السياسية، لنتفرغ لمهامنا الحقوقية، نملك من السمعة فوائض تكفي لدخول الفردوس العظيم، فلن نساوم بتاريخنا لكي نستدرج الجلاد حتى يرضى عنا، ولن نمتهن الرياء لكي نمارس التزلف تجاه من يبتزوننا، بالإكراه الثقافي والإرهاب الفكري.
فلسنا أقل رشدا من الأشباح حتى ينصبوا أنفسهم أوصياء على مصيرنا وقضاة يحاسبون نزاهتنا، تبا لمسخهم الحقوقي وبهتانهم السياسي، فحذار من غواية الجلاد وغرور الضحية ؟؟ كنا صامدين في وجه الإعصار، ولم يكن صمودا ذاتيا، بل صمودا موضوعيا إلى حد الجلد السرمدي والتباث الأزلي، صمود عجنته الرياح العاتية، في وجه الجلاد وأشباهه؛ ولولا من ذكرت بعضهم أعلاه، لسقطت فريسة ايديولوجيا الهزيمة، لولاهم ولولا كثير من أصدقاء العائلة على رأسهم الحاج حسين نوس و الحسن بويا باحسين، وطبعا صديقي محمد كوزوز وعبد الله بونخيلة والأخ الخظير الخطر و زوجته الفاضلة ميلودة وصهري علي الصالحي ابن عم المختطف المدني الصالحي وعبد الكريم لعزيز المناضل الكنفدرالي، كل قدر استطاعته، جميعهم تعاونوا واجتهدوا ليكون إسمي بارزا على خريطة المدينة ونواحيها، لم أكن أشعر بالغربة بتاتا، خصوصا وأن الدكتورين مهدي هدي ونجيب زوكميد أحاطاني بإنسانيتهما المتفردة قبل عنايتهما الطبية ورعايتهما النفسية العظيمة؛ لولاهم جميعا، ولولا الحروب الصغيرة، لما كنت.