اختار الأستاذ والمحامي، مصطفى المنوزي وهو من عائلة معروفة بمنطقة تافراوت، عائلة مقاومة للاستعمار الفرنسي ومناضلة في سنوات الجمر والرصاص بالمغرب، أن يكتب يوميات “الحبس الاختياري”.
مؤسس “المنتدي المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف”رئيس “المركز المغربي للديموقراطية والأمن” وأمين عام شبكة “أمان لتأهيل ضحايا التعذيب والدفاع عن حقوق الإنسان”، ورئيس “أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي” وعدد من التنظيمات الحقوقية والجمعوية، اختار أن يتعامل مع حالة “الطوارئ الصحية” التي أعلنت بالمغرب لمواجهة تفشي وباء فيروس “كورونا” المستجد، بتدوين يومياته في “الحجر الصحي” على شكل حلقات متتالية..
(الحلقة 52)
قبل تنظيم الأسبوع الثقافي لسنة 1980بكنيسة حديقة جامعة الدول العربية، من قبل تعاضدية كلية الحقوق بالدارالبيضاء، اجتمعنا كخلايا القطاع الطلابي الاتحادي (قبل أن نعلن عن انفسنا كلائحة للمهدي وعمر من اجل الوحدة والديموقراطية) قصد الإعداد الأدبي بإقتراح المواضيع وأسماء المتدخلين والمشاركين.
وإذا كنا قد نجحنا في “فرض” أغلب أسماء المتدخلين، الفقيد احمد بنجلون وبركات اليزيد وعلي بوطوالة وفي مواضيع حساسة، فإننا لم نكن نتوفر على ريبيرتوار لشعراء او موسيقيين لتنشيط الأمسية الشعرية، سوى الزجال محمد الصبار، وثريا البلايلي، طالبة آنذاك بكلية الصيدلة، وهي حاليا تناضل في صفوف الحزب الاشتراكي الموحد بمراكش، يرافقها بالقيثار عبد الرحمان عطفي، طالب بالمعهد العالي للتجارة وإدارة المقاولات، والشاعر الفقيد أحمد بركات، الذي فتحنا معه نقاش قصد الالتحاق بالحزب، لكنه فضل أن يبقى في الظل متعاطفا، قبل ان ينضم إلى حزب التقدم والإشتراكية، بالإضافة إلى الصديق عبد الحق ضرفي الذي فضل أن يهدينا قصيدة رائعة عن المختطف الحسين المانوزي، مساهمة منه كمناضل حديث العهد، آنذاك ، بتنظيمنا.
في حين شارك في الأمسية، من خارج صفنا، الفنانان الملتزمان اسماعيل حمدي وسعيد المغربي وبعض الشعراء أذكر منهم بلعيد توفيقي.
رغم أن الأمسية الفنية والشعرية كانت ناجحة، فإن سؤال الواجهة الثقافية أرق مضاجع مناضلينا، بل إنه بعد التقييم إتضح بأنه لا يكفي أن نراكم الرسائل على مستوى الوقع السياسي، بل لا مناص من ان نؤسس لمواقع أقدام داخل الفضاء الجامعي ثقافيا وفنيا، فبحكم العلاقة (المفترضة مع الحركة الماركسية اللينينية) فإن لائحة الطلبة القاعديين كانت تستثمر المد الأدبي والفني في ارتباط مع ظاهرة الاعتقال السياسي وقضية الاستشهاد، وبذلك كان لوقائع الأمسية وقعا ثقافيا بمثابة “ربح” معنوي ساهم في دعم حركة الإستقطاب داخل الكليات والمعاهد، وكانت “عقدة” تنظيمنا أن الحقيقة الإعلامية و السوسيولوجية لا تبرز سوى شهداء الحركة الماركسية اللينينية، ويتم حسن استثمارهم من قبل تنظيم الطلبة القاعديين “الهلامي”، في حين كنا كاتحاديين ( يسار الاتحاد ) منفتحين على جميع الشهداء، ومعتبرين أن من مهامنا الأصيلة حفظ ذاكرة شهداء حركة التحرير الشعبية والتي كنا ندافع على شرعية استشهادهم وأن الحركة الاتحادية وشهدائها إستمرار لها.
فعلا كانت تشكل عقدة بالنسبة لنا كشبيبة تعاني من حصار على مستوى مخطط مأسسة النسيان، فالنظام ومعه الحزب الشيوعي ومصابه لاحقا، وكذا المنشقين عنه، تنظيمات وأفراد، كانوا يعتبرون الحركة الاتحادية حركة مغامرة او انقلابية وانتظارية وتجريبية أو إصلاحية، تفضل السلاح على الفكر، وهي أوصام ينعت بها الاتحاديون في الاتجاهين، يسارية انتهازية ويمينية انتهازية، وبالتالي كان ينظر إلينا كجناح داخل الاتحاد الاشتراكي بنفس النعت المركب، ما دمنا لم نحسم في الإختيار ولا نعطي أولوية للثقافة، ودليلهم أن السجن المركزي انتج مفكرين ومنظرين ومثقفين وأدباء، غير أن المسكوت عنه أن الحركة الثقافية المذكورة ساهمت في التعددية وانعشت الحق في الإختلاف ولم يعد الصراع الفكري يحمل بصمات اصحابه فحصل نقد ذاتي، اصطفافات جديدة واختيارات مخالفة ومختلفة، ستساهم في صنع خريطة جديدة، وكانت هذه حجة بعضنا تجاه غيرنا، حيث كان بعضنا الآخر يركب “جواد” المزايدة لإتباث أننا راديكاليون، وهي نزعة ستعتري بعض المناضلين منا إلى درجة تبني العدمية.
ومنذئذ طرح النقاش في أوساطنا، وخلص تنظيمنا وطنيا إلى ضرورة إعداد أرضية فكرية حول سؤال الثقافة التي نريد أو نتبنى؛ وتحضرني وقائع اجتماع دام ساعات طوال وعلى امتداد ثلاثة إجتماعات داخل اللجنة الثقافية لمكتب تعاضدية كلية الحقوق، ودخلنا كلائحة كنا منقسمين، فمنا من يقترح “ثقافة وطنية وديموقراطية” ومن يقترح ثقافة ديموقراطية وطنية” ومن يقترح “ثقافة تقدمية”، في حين كان الطلبة القاعديون موحدين ومستقرين على مقترح “ثقافة ديموقراطية” وفي حقيقة الأمر لم يكن في مستوى فهم معنى ما نقترح وبالأحرى الدفاع عن المقترحات.
وكنا نعمل على الانتقاص من مقترح غيرنا، ورغم الارضية التي توصلنا بها لاحقا من قبل ما يسمى باللجنة الإقليمية للتنظيم بالدارالبيضاء، والتي صاغتها الأخت مونية شادي؛ فإن الثقافة التقدمية التي توافقنا عليها لم تكن تعني بالنسبة لي شخصيا سوى جعجعة بلا محتوى، فكلانا كان يهرب من وصم “مهادنة” ثقافة النظام، فالأرضية التي اتفقنا على تبنيها كانت حمالة أوجه، والمهم في كل ذلك أنها لم تكن مرجعا لأنشطتنا، بدليل أنه عندما قررنا تنظيم تظاهرة ثقافة بعرض أشرطة سينمائية، إقترح محمد جرحو (من الطلبة القاعديين واعتقل معي سنة 1981 وقضينا سنة حبسا)؛ الاتصال بالمركز الثقافي العراقي لجلب أفلام عراقية ولدعم النشاط؛ في حين اقترح الفقيد محمد حجار الاتصال بالمركز الثقافي السوفياتي، وبعد أخذ ورد، عمد جرحو إلى نعت حجار ب “حجار موسكوفيتش”، وببداهته المعهودة رد عليه حجار “جرحو قاعدي بعثي!”.
ضحكنا ملء فمنا، لم يتم النشاط، وظل سؤال الثقافة حاضرا بقوة، خاصة أثناء التحضير للمؤتمر الوطني السابع عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وقد تم تكليف الأخ الزيتوني بوسرحان (مؤسس فرقة اللواء المسرحية ومخرج مسرحياتها الدائم) الذي أوجد أرضية “ثقافية” اعتمدت في جلها على لويس ألتوسير، وبحكم الضغط وضيق الوقت صادقنا عليها، كأرضية لرفاق الشهداء، وصراحة لم استوعبها بما يكفي ولكنها دفعتني إلى قراءة أدبيات ألتوسير ذات الصلة بالدولة والسلطة والمعرفة، وكل ما بقيت احتفظ به آنذاك هو “أن علاقة البنية الفوقية بالبنية التحتية علاقة مادية عشوائية أو صدفوية”.
وهي عبارة زادت من التعقيد آنذاك لفهمي لجدوى الثقافة التي نريد، ويبدو أن بوسرحان كان متوقعا لما يحصل لاحقا من علاقات نتائجها الصدفوية لا تنسجم مع مقدماتها الجدلية، مما يوحي أن “دروسنا” التي تلقيناها في قوانين المادية الجدلية تعسفنا في إستعمالها على مستوى ترتيب التناقضات وإجراء التحالفات، و التمييز بين الصدفة والمصادفة و الاحتمالية و الضرورة واليقينية والحتمية.
لقد طغى السياسي في صراعنا على الثقافي، واقترنت النجاحات مع الإخفاقات وكانت السياسة دون استراتيجية ثقافية موازية ومؤطرة سببا في صناعة كثير من أسباب الفشل، فجلنا يبخس الثقافة، ليس فقط في جوانبها الأدبية بل في جانبها القانوني، وأستحضر واقعة الأخ عبد الواحد خنفوذي (محام بالجديدة) يوم اقتنى مجلدات الوسيط في شرح القانون المدني للدكتور عبد الرزاق السنهوري، وهو مؤلف يشرح التعاقد ومصادره وآثاره، ولازال مفيدا، كقانون أم، في إبرام جميع اشكال الالتزامات والتعاقدات وحفظ حقوق أطرافها؛ عاتبه أحد المناضلين على ضياع نقوده في كتب غير الماركسية والفكرية؛ ومع ذلك ليس كل اختيار يقيني وليس كل فشل قَدَرِي .