المنوزي يكتب: يوميات الحبس الاختياري(خمس حلقات متتالية)

مصطفى المنوزي

اختار الأستاذ والمحامي، مصطفى المنوزي وهو من عائلة معروفة بمنطقة تافراوت، عائلة مقاومة للاستعمار الفرنسي ومناضلة في سنوات الجمر والرصاص بالمغرب، أن يكتب يوميات “الحبس الاختياري”.

مؤسس “المنتدي المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف”رئيس “المركز المغربي للديموقراطية والأمن” وأمين عام شبكة “أمان لتأهيل ضحايا التعذيب والدفاع عن حقوق الإنسان”، ورئيس “أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي” وعدد من التنظيمات الحقوقية والجمعوية، اختار أن يتعامل مع حالة “الطوارئ الصحية” التي أعلنت بالمغرب لمواجهة تفشي وباء فيروس “كورونا” المستجد، بتدوين يومياته في “الحجر الصحي” على شكل حلقات متتالية..

ونظرا لأهمية وتسلسل الحلقات التالية وتشابكها وأهمية الموضوع، قررنا نشر أربع حلقات اتباعاً..

(الحلقات 62\63\64\66/65)

خلال الحلقات السابقة ركزنا في سرد الوقائع وربطها بالمكان على الفترة الزمنية ما بين 1979 و 1989 ومن حيث المكان شملت فضاءات الإعتقال والجامعة وبنيات الإستقبال السياسية والحقوقية والثقافبة والمهنية؛ وكانت هذه العشرية مرحلة مهيكلة لما سيأتي من وقائع وعمليات تشكل المسار الشخصي بهوية جدلية متعددة ومنفتحة على خريطة النسيج العلائقي، وطبعا، عندما نحدد المرحلة في عشرية فلا يعني أن ما شهدته من أحداث حصري ومحدد ولا جذور له أو إمتداد له في الزمن والمكان، لأن كل سبب نتيجة لما سبقها من أسباب، وكل نتيجة هو سبب لنتائج لاحقة؛ غير انه من الناحية المنهجية يسهل سرد الوقائع بسلاسة، رغم أنه شاءت الأقدار أن تكون عشرية 1989.1979 متميزة لأنها تنطلق من محطات حاسمة ومهيكلة (راجعوا الحلقات السابقة).
وبذلك ستكون العشرية اللاحقة 1999.1989 مرحلة لتداعيات العشرية السالفة، فوفاة الراحل الحسن الثاني واحترازات الانتقال إلى العهد الجديد، تم التحضير لها خلال النصف الثاني من عشرية التسعينيات، من انفتاح للدولة على المجتمع والنخبة المعارضة، عبر المقاربة الحقوقية، ولعبها فيها قرار تأسيس المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان، وما نتج عنه من تصفية البيئة الحقوقية والأجواء السياسية، أدوارا مهمة، توجت بإصلاح تشريعي ودستوري لمصلحة الحريات والمرأة والتخفيف من بعض مظاهر الاستبداد و تقليص حدة التحكم كعقيدة للحكم الفردي، ومهدت لمرحلة الانتقال السياسي والعدالة الانتقالية لاحقا، وهي العشرية التي دامت من سنة 1999 إلى سنة 2009، أنيط فيها لحكومة التناوب التوافقي مهمة تدبير الورش الأول، في حين ستتولى هيأة الإنصاف والمصالحة مهمة الورش الثاني.

وعن العمر الإفتراضي أوالحقيقي لحكومة التناوب يقول عبد الرحمان اليوسفي في خطابه التقييمي ببروكسيل بعد عزله التعسفي: “”عندما توفي عبد الرحيم بوعبيد سنة1992 أنتخبت خلفا له على رأس الاتحاد الاشتراكي واستمرت “شعرة معاوية” بين القصر والاتحاد في تماوج الى أن تأكدت اصابة ملك المغرب الراحل بالمرض، وعندها قرر المرحوم تدشين مرحلة جديدة من التناوب وكان مفهوما أنها ستكون من خلال حكومة يكون وزيرها الأول هو الكاتب الأول لحزبنا لم يكن سهلا بالنسبة لحزبنا، وأن الذي أوضحنا علاقاته مع القصر بأن يقبل بفكرة التناوب، كما طرحها الحسن الثاني في 1997، لكن بالرغم من ذلك خاطرنا بقبولها وبتحمل المسؤولية في إنجازها…

لقد وجدنا أنفسنا أمام خيارين لا ثالث لهما: الأول تمليه المصلحة الوطنية والثاني يميل إلى الإعتبارات السياسية والحزبية، فكان علينا إذن ان نختار بين المشاركة في الحكومة في الوقت الذي كنا نعرف فيه أن الحالة الصحية لعاهلنا مثيرة للقلق وأن المغرب من جراء ذلك سيواجه موعدا عصيبا أو ننتظر تولي عاهلنا الجديد العرش من أجل التفاوض معه حول إجراءات وطرائق مشاركتنا، فاخترنا تحمل مسؤوليتنا الوطنية وفضلنا مصلحة البلاد من أجل المشاركة في انتقال هاديء و التجاوب في نهاية الامر مع نداء ملكنا الذي كان يدعونا -نحن المغاربة قاطبة- الى انقاذ البلاد من السكتة القلبية التي تتهددها بالنظر الى الوضعية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة؟

لقد اخترنا إذن الاختيار الوطني وفضلناه على الحسابات السياسية، يشجعنا على ذلك قبول الملك لمطالبنا التي كررتها مرارا في تصريحاتي الصحفية والمتمثلة في الثقة الملكية والاغلبية البرلمانية المريحة والسند الشعبي وهي المطالب التي عززها الاداء المشترك لليمين والعهد. لقد تم الاعلان عن الثقة الملكية من طرف جلالة الملك خلال الخطاب الافتتاحي للدورة البرلمانية في اكتوبر 1997 عندما قال جلالته أن المغرب تتهدده “السكتة القلبية” وأن جلالته سيعين بعد تشكيل البرلمان الوزير الاول حسب ما يمليه عليه ضميره ؟ . “”

الحلقة 63 (تابع للحلقة 62)

في 25 ديسمبر 1991 قام الرئيس الأخير للاتحاد السوفيتي والحاكم الثامن له منذ إنشائه، ميخائيل غورباتشوف بإعلان استقالته. و أشار في الخطاب إلى أن مكتب رئيس اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية قد تم إلغاؤه. وأعلن تسليم كافة سلطاته الدستورية بما فيها السلطة على الأسلحة النووية الروسية، إلى الرئيس الروسي بوريس يلتسن.

وقبل الحل الرسمي للاتحاد، وخلال الفترة أغسطس 1991 إلى ديسمبر 1991، تم توقيع بروتوكول ألما آتا الذي تم فيه إنشاء رابطة الدول المستقلة. وأعلن البروتوكول صراحة حل اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية وأشار إلى أن الاتحاد السوفيتي لم يعد موجوداً قانونياً كدولة. انتهت الحرب بين حلف وارسو وحلف الناتو، ولم يكن أمام الدول جميعها بما فيها دول عدم الإنحياز وأقطار “رأسمالية الدول”، وكذلك الأحزاب الاشتراكية والشيوعية، سوى التفكير في إعادة الإصطفاف والقيام بمراجعات فكرية ومذهبية، ولأن مبرر سقوط جدار برلين سنة 1989 وانهيار المنظومة الإشتراكية بعد سنتين، تم تلخيصه في انعدام الديموقراطية وتفاقم انتهاكات حقوق الإنسان، وهو مبرر تلقفته الدول والمنظومات الحزبية الإشتراكية والشيوعية واعتمدته ذريعة التخلي عن المرجعية السابقة والانخراط فيما يسمى مسلسلات الانتقال الديموقراطي والعدالة الانتقالية.

والحركة التقدمية المغربية ستنخرط دون إجراء أي تقييم حقيقي للاسباب والنتائج؛ وبذلك ستتغير الأسماء والمفاهيم، وغير جلها انتماءه، من أحزاب اشتراكية وشيوعية إلى أحزاب ديموقراطية أو يسار ديموقراطي، ومن المطالبة بالسلطة او تغيير السلطة الى إصلاح النظام من الداخل. وتم رد الإعتبار للمسألة الحقوقية وصارت (رغم سقفها الليبرالي ومحدودية مهمتها وادوارها الإصلاحية) هي القناة المؤطرة لتدبير الصراع السياسي والاجتماعي سلميا وبمقاربة حقوقية محضة، وبذلك حصل التجاوب موضوعيا بين إرادة بعضها وبين الدولة، ما عدا بعض الأحزاب الفتية او المنشقة التي لم تؤمن أو لم تستوعب جدوى الانتقال الديموقراطي او العدالة الانتقالية.

فقد بادرت الدولة إلى إنشاء المجلس الإستشاري لحقوق الإنسان ضم قضاة وحقوقيين وممثلين عن الأحزاب، سنة 1990، وهي نفس السنة عرفت نوع من تبادل الضغط ومحاولات لي الذراع بين المعارضة والدولة؛ وكمثال تقديم ملتمس الرقابة وقرار شن إضراب 14 دجنبر، ناهيك عن واقعة نفي الفقيد إبراهيم السرفاتي …لينطلق مسلسل التسويات والمراجعات الدستورية والسياسية والمذهبية، والتحالفات الحزبية والتنسيقات النقابية والجمعوية الحقوقية بالأساس.

توجت بمواثيق وتكتلات، كان لها وقع كبير على مسلسل إعادة هندسة دستور 1962، وذلك من خلال عمليتي استفتاء 1992 و 1996، بمثابة جس النبض وقياس مؤشر الثقة، ولأن كل الأطراف كانت واعية بالشرط الموضوعي العام، وبهشاشة الأوضاع الداخلية؛ فإنه تم التوافق على ضرورة إجراء تنازلات إيجابية، ولم يكن الانفتاح والإنفراج سوى مظاهر لثمرة التسويات البينية والداخلية، ولقد لعبت فزاعة السكتة القلبية والوضعية الصحية للملك دورا كبيرا، في تيسير العمليات السياسية التي ستمهد للتناوب التوافقي والانتقال السلس من ملك إلى ملك في 30 يوليوز 1990.

غير أن أهم معطى جعل مهندس التناوب التوافقي يقبل بتجريب المغامرة دون شروط كافية حتى لا نقول ضمانات، هو الوضع التنظيمي للاتحاد الإشتراكي القوات الشعبية، والصراع بين الأجنحة، خاصة أن جيل الأطر السياسية المدعوم بالبرلمانيين والمستشارين الجماعيين ظل في صراع يومي ودائم، لم تنفع معه واقعة عودة الفقيد محمد الفقيه البصري من منفاه، رغم “الأمل الكبير” الذي خلقه الحدث لدى مناصري عبد الرحمان اليوسفي، ولدى قدماء المعتقلين السياسيين والمقاومين والنقابيين والمحامين، والذي جسدته مظاهر الحفاوة والإستقبال سواء بمطار محمد الخامس أو أكادير وخريبكة ومركب محمد الخامس بالدارالبيضاء وسائر المدن التي زارها الفقيد البصري، انتعش الحماس والحنين الى ذاكرة زمن التأسيس؛ غير أن القوة “الناعمة” والداعمة لجناح اليوسفي لم تدم طويلا، لأن الفقيه سيكتشف أن الأمر لم يكن سوى تكريم وإحتفاء ورد الإعتبار وجبر الضرر الذي تعرض مقاوم وطني و مؤسس الإتحاد على إثر قرار فصله بتاريخ 2 فبراير 1983 من منظمة الإختيار الثوري بعلة رهانه على الجيش وعلاقته مع إيران، في حين كان الطموح أن ينهي المجاهد مساره النضالي في حضن حزب القوات الشعبية. وبذلك سيدخل عبد الرحمان التجربة عاريا من دعم رفيق السلاح وتاريخه؛ وكان المؤتمر الوطني السادس سنة 2001 بمكتب الصرف، محطة زكت وشرعنت مغامرته السياسية بأثر رجعي، لكن تداعيات هذه المحطة بخست من عملة ورصيد القوة التنظيمية للحزب الذي انشطر، وظل اليوسفي وجها لوجه مع غريمه محمد اليازغي في التنظيم والتجربة، وبالتالي أضعفت كل أمل في تعزيز القوة التفاوضية بهدف إستكمال شوط الانتقال من التناوب التوافقي الى التناوب الدمقراطي .

الحلقة 64 (تابع للحلقة 63)

في سياق إستفزاز الأسباب غير المعلنة التي كانت وراء إعفاء عبد الرحمان اليوسفي من مهمة مواصلة الشوط الثاني من التناوب التوافقي، نعود إلى استكمال حديثه من بروكسيل حيث قال “”أن المشاورات أفضت الى تكوين اغلبية مريحة مكونة من نواب الكتلة الديموقراطية والوسط ومن المجموعة الاسلامية نفسها التي اعلنت عن مساندتها دون المشاركة في الحكومة؟ وقد فهم الجميع أن هذه الاغلبية ما كان لها أن تتشكل دون الضوء الاخضر ممن يهمه الامر?

أما المطلب الثالث والمتعلق بالسند الشعبي فيمكننا القول أنها المرة الاولى في المغرب التي شرع فيها المواطنون ابتداء من الشهر الثاني من تكوين الحكومة في طرح السؤال التالي: “لقد عقدنا امالا كبيرة على هذه الحكومة، فماذا تراها حققت لنا؟ إن دلالة هذا السؤال لا تكمن في شكله أو صياغته بل في معطى طرحه وحده لأنه لم يسبق أبدا طيلة 40 سنة أن طرح مثل هذا السؤال وذلك منذ الحكومات الأولى التي تشكلت من أعضاء الحركة الوطنية تحت اشراف محمد الخامس… وقد كان هناك وعي عميق بان هذه الحكومة اذا لم تفلح في تحقيق برنامجها فان ذلك سيكون بسبب عراقيل أخرى غير العراقيل الادارية أي بمعنى انها لم تتوفر على كل الوسائل التي تسمح لها بالعمل..

وإلى جانب هذه المساندة الشعبية العفوية، تمتعت الحكومة بترحيب دولي غير مسبوق؟ اذ، لأول مرة عبرت دول غربية مهتمة بالمغرب مثل فرنسا و اسبانيا والبرتغال وبلجيكا و ايطاليا هولاندا والمملكة المتحدة، اليونان و الولايات المتحدة عن ترحيبها وسرورها ازاء التغير الحاصل في المغرب المتمثل في تعيين وزير أول من المعارضة؟ وقد أبانت الوعود بتقديم المساعدات والاستثمارات في شكلها عن تشجيع التوجه الذي اتخذه المغرب…

تحت اشراف هذه الحكومة تشكلت لجن تحقيق برلمانية وغيرها عرت النقاب عن الفضائح والاختلاسات في المؤسسات العمومية والبنكية التي ارتكبت قبل تشكيل هذه الحكومة، والتي تجري محاكمة مرتكبيها الى حدود الان. اضف الى هذا تسوية الملفات المتعلقة بحقوق الانسان وتعويض ضحايا الاختفاءات القسرية والاعتقالات التعسفية واشكال القمع الاخرى التي ارتكبت في الستينيات والسبعينيات؟

قد حصل اتفاق عام في المغرب خلال السنوات الخمس المنصرمة على كون التناوب التوافقي بإنجازاته وثغراته ليس الا مرحلة انتقالية تنتهي مع انتخابات 27 شتنبر 2002 من اجل الانتقال الى التناوب الديموقراطي? والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو كالتالي: هل تحقق الانتقال الديموقراطي…إن الجواب الذي يفرض نفسه، مع الاخذ بعين الاعتبار لكل ما قدمناه حول التجربة الديموقراطية المغربية هو أن الانتقال الى “التناوب الديموقراطي” يتأسس على ثلاثة شروط:

1) تنظيم انتخابات في جو تطبعه الشفافية والنزاهة -وهذا ما تم يوم 27 شتنبر الماضي

2) تطبيق المنهجية الديموقراطية في تشكيل الحكومة وذلك بإسناد مهمة الوزير الاول الى الحزب الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان الجديد.

3)تطبيق بنود الدستور في اتجاه نقل أكبر عدد من الصلاحيات التنفيذية الى الوزير الاول والحكومة التي يرأسها؟ وأول ما يجب في هذا الصدد هو عدم التمسك بمفهوم “وزراء السيادة ” غير المنصوص عليه في الدستور وبالتالي اسناد كل الحقائب الوزارية بدون استثناء الى الاحزاب المؤهلة للمشاركة في الانتخابات، الشيء الذي لن يضر بأي شكل من الأشكال بالتوافق بين الوزير الأول الذي يقترح أسماء الوزراء على جلالة الملك وبين جلالته الذي يعود اليه قرار تعيينهم تطبيقا للمقتضيات الدستورية. والسؤال المطروح والذي يتعلق بالمستقبل هو: هل تم تطبيق هذه الشروط، شروط الانتقال الى التناوب الديموقراطي؟

لقد كانت المرحلة التي اعقبت انتخابات 27 شتنبر 2002 خصبة بالمفاجئات والتغييرات في العلاقات بين الاحزاب؟ ففي الوقت الذي كنا ننتظر الانتقال من “التناوب التوافقي” الى “التناوب الديموقراطي” أعلن بلاغ صادر عن الديوان الملكي يوم 9 اكتوبر 2002 أن السيد ادريس جطو، وزير الداخلية في الحكومة السابقة، قد عُيِّن من طرف جلالة الملك وزيرا اول؟ والسيد جطو هو الذي أشرف على انتخابات 27 شتنبر 2002 التي تم الاجماع على التنويه بها في الداخل والخارج والسيد جطو لم يتقدم لهذه الانتخابات كما أنه لا ينتمي لأي حزب من الأحزاب.

كان على حزبنا أن يتخذ موقفا من هذا القرار وإزاءه، وقد اصدر المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بلاغا يعلن فيه أن تعيين وزير أول من خارج الأحزاب السياسية التي شاركت في الإنتخابات والحزب الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد لا يتماشى مع المنهجية الديموقراطية ؟ “.

الحلقة 65 (تابع للحلقة 64)

عن أسباب عدم تجديد الثقة في عبد الرحمان اليوسفي لا يمكن فقط الركون الى ما جاء في محاضرته الشهيرة بتاريخ 25 مارس 2003 والتي ألقاها ببروكسيل عاصمة ومقر الاتحاد الأوروبي، فقد ظل يلازمه واجب التحفظ، إلى أن نشر مؤلف الذي أفرج من خلاله عن بعض المعطيات مرتبطة أساسا بحروب ذوي القربى. كما مؤلف “احاديث فيما جرى” الذي صاغ تفاصيله مبارك بودرقة لا يتضمن الأسباب الحقيقية لأنها بكل بساطة لا تتوفر لدى عبد الرحمان وانما لدى من قرر تعيين ادريس جطو وزيرا أول، والتي ينبغي البحث عنها في أرشيف الدولة الخاص بالتحضير للتناوب منذ بداية التسعينيات؛ وهنا ينبغي استحضار وقائع ووثائق كثيرة، مغترفة من أرشيف الدولة نفسها، وخاصة الأرشيف الأمني، وهذا يصعب الإطلاع عليه.

وقد لاحظنا عدم تعاون المؤسسة الأمنية و العسكرية فيما يخص الكشف عن مصير المختطفين، رغم الضمانات التي منحها الملك محمد السادس. لكن بالنسبة لأرشيف الحزب فيكفي الانطلاق من الرسالة الشهيرة للفقيه البصري التي يزعم فيها تورط بعض قيادي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في انقلاب غشت 1972 والتي سربها عمر السغروني ونشرتها أسبوعية لوجورنال في بحر سنة 2000، وكرد فعل صدر قرار حكومي بحظرها.
(تفاصيل عن المصدر والملابسات في مؤلف “في ترتيب النهايات”).

وتحضرني واقعة أن نظم الاتحاد الإشتراكي ورشة دراسية حقوقية بمقر الحزب الرئيسي بأكدال، وبادر مسؤول حزبي كبير نصحني بأن أفارق المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف، وألا اتحمل أية مسؤولية، وقلت له “هل هذا توجيه حزبي؟” أجابني “إسأل أصدقائك الحزبيين”.

وفعلا سألت وقيل لي بأن اليوسفي قام بالواجب تجاه عائلات المختطفين ونفذ توصياتهم وتوصيات ندوة 1994 بمدينة أميان. فهمت الرسالة، غير أنني فوجئت بأن محمد اليازغي الذي حضر لقاء أميان وكذا الجمع العام التأسيسي للمنتدى بتاريخ 28 نونبر 1999 بالدارالبيضاء، كان له رأي آخر، ظل متابعا للملف، بل تقدم بطلب تعويض وسلمه بعد صدور المقرر التحكيمي للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وهي إمتداد مفترض للاتحاد وتنوب عنه في المجال، بدليل عدم مشاركة الحزب في المناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وعندما يسأل عن السبب يكون الجواب أنه يكفي حضور المنظمة. وتجدر الإشارة إلى أنه لم يسبق لعبد الرحمان اليوسفي أن حضر أي تظاهرة او مؤتمر للمنتدى، وبالتالي يمكن إستنتاج السبب من واقعة “إقتراح وترشيح اليوسفي لرئاسة هيأة الإنصاف ورفض هذا الأخير”، والتي ينبغي مقابلتها مع قرار وحيثيات تأسيس منتدى الحقيقة والإنصاف (الإسم الأصل قبل أن يتم تغييره إثر حل فرع المنتدى بالعيون)، وكذا من الكواليس التي انتهت بالتوافق على الرئيس إدريس بنزكري وكذا نائبه.

لقد كان لدي حدس بأن الأمر يتعلق باستراتيجيا طويلة الأمد، بهدف مرافقة عملية سياسية عميقة تروم دعم شرعية ومشروعية المؤسسة، ومهيكلة للمفهوم الجديد للسلطة، مهندسوه جدد لا ينتمون إلى أعطاب الماضي وشرعياته المتقادمة في نظر مستشاري العهد الجديد، غير أنني لم أكن اتصور أبدا أن المنشود هو إعادة تأهيل المشهد السياسي والحقل الحزبي ولو على حساب أحزاب وطنية وديموقراطية، وبمرافقة ومفارقة خطين متوازيين متناقضين: خط المصالحة مع الماضي وتقييم مسار وأعطاب التنمية بخبرة وطنية؛ وخط مكافحة الإرهاب، ارتباطا بسياق وتداعيات أحداث 11 شتنبر التي هزت المجتمع الغربي بل ونموذجه الديمقراطي كله عبر إعلان الولايات المتحدة الطوارئ وإصدار القوانين التي تتيح حق المراقبة والتنصت على كافة وسائل الاتصال بين الأفراد ومراقبة حساباتهم البنكية، وما إلى ذلك من قوانين جاءت في مرسوم الرئيس الأميركي جورج بوش والذي عرف بالمرسوم الوطني المشهور ب باتيريوت أكت Patriot Act .

*الحلقة 66
هناك بعض الإفتراضات لابد من إستحضارها بما يشبه أحيانا مسلمات، فالعقل الأمني يتعامل دائما بقاعدة “ما لا يدرك كله، لا يترك جله”، و عندما يفشل في فرض جدول أعمال الدولة على الفاعلين والمتدخلين في المشهد، فهو يعمل على إجهاض اي عملية أو مبادرة لا تتوافق و “توابث” الأمة أو تشكل خطرا على سلامة وأمن الدولة الخارجي أوالداخلي، بل أحيانا يتم القمع والمتابعة والمحاكمة، غير أنه بعد التحولات الحاصلة، تغير الأسلوب لأن الدولة صارت مضطرة للتكيف مع مظاهر الدمقراطية وإعمال مقتضيات حقوق الإنسان دون تمثلها في الجوهر، فعوض الإستمرار في نهج التصفيات القمعية والمصيرية لمشاريع المعارضة المجتمعية بإغتيال أشخاصها ومفكريها، وباقتراف نفس فظاعات وانتهاكات سنوات الرصاص الجسيمة، من اختطافات واغتيالات وإعدامات خارج نطاق القانون واعتقالات تعسفية وما يرافق ذلك من تعذيب وسوء معاملة وعقوبات قاسية؛ تم إختيار نهج القانون الناعم.

صحيح أن إرهاصات هذا التكيف، في معاملة الخصوم السياسيين والمعارضين الراديكاليين، بدأت منذ منتصف العشرية التسعينية؛ لكن حاجة العهد الجديد إلى إبراز مؤشرات التميز عن ماضي الجمر والانتهاكات، وإضفاء الشرعية على حقيقة التغيير من داخل نفس النظام السياسي، في سياق التكيف بدل التحول، جعل العقل الأمني يجرب مغامرة الدخول في مسلسل تسويات تحت عنوان المفهوم الجديد للسلطة والمصالحة مع الماضي وفسح المجال للإفراج عن بدايات حجج حول ملابسات ما جرى من توترات وانتهاكات وإنفلات أمني، مع مراعاة تحفظات ومقاومات وإعتراضات صقور الدولة من سياسيين وأمنيين، لا مصلحة لهم في الكشف عن الحقيقة كاملة، هذه المراعاة التي أفضت التسوية بصددها إلى الموافقة الإشتراطية مقابل الإلتزام بعدم إثارة المسؤوليات الفردية. من هنا فالعقل الأمني لم يعترض على فكرة تأسيس جمعيات بمثابة تعبير معنوي ومدني عن متطلبات وانتظارات ضحايا سنوات الرصاص، وفي نفس الوقت صدرت التعليمات بمرافقة التأسيس بالتوجيه وإن اقتضى الحال بالدعم والمشاركة “الضمنية”.

وفيما يخص الضحايا أوذويهم، فقد انطلقت فكرة التأسيس من خلال مبادرات متعددة هنا وهناك، منذ أن قدمت لجنة عشارية مؤلفة من عشرة أعضاء انتدبت للعمل لمدة تزيد عن التسعة أشهر ليتم تقرير عن أشغالها وتوجت بالإعلان عن لائحة أولية بأسماء المختفين، رفعها بشأنها، ضمن تقرير، المجلس الاستشاري إلى “الملك” في شكل آراء استشارية انبثقت عن اجتماعه الثاني عشر الممتد من 20 أبريل 1998، إلى 13 أكتوبر 1998، وهي اللائحة (بالفرنسية ) التي جاء فيها بأن المختطف الحسين المنوزي بأنه (présumé mort ) أي أعتبر ميتا. توصلت العائلة باللائحة عبر الفاكس، وقد اتفقنا وعن قناعة راسخة على أن نرفض تلقي العزاء وهذه الحقيقة / الأمر الواقع. وكان من بين الزائرين لمنزل عمي الحاج علي الأخ صلاح الوديع، وبعد القيام بالواجب، اختليت وإياه وتحدثنا كثيرا حول آفاق العمل، واتفقنا على ضرورة التفكير في تأسيس جمعية خاصة بالدفاع عن كافة المعتقلين السياسيين، لأن عمل المجلس الإستشاري لم يكن مقنعا واقتصر على ملف الاختفاء القسري.

وكنا معا متحمسين للفكرة، وحددنا مواعيد متوالية، آخرها لقاء دعوت له والأخت فاطنة أفيد بنت المناضل أفيد، نظمناه في مقر الكنفدرالية الديموقراطية للشغل بدرب عمر بالدارالبيضاء، حضره أزيد من خمسين معتقلا سياسيا، أغلبهم من الضحايا الاتحاديين (محاكمة مراكش وأحداث 3 مارس) وبعض عائلات المختطفين والشهداء، وبينما كنا بصدد تحسيس الحضور بجدوى التأسيس والاتفاق على تشكيل لجنة تحضيرية لإعداد مشروع قانون أساسي، دخل علينا الأخ صلاح الوديع مرافقا للفقيد إدريس بنزكري، نوها معا بالمبادرة، واتفقنا على تأجيل الاجتماع من أجل تجويد التحضير شراكة، وجرت مياه كثيرة تحت الجسر، ودون أن أدخل في الملابسات، في هذه الحلقة، أؤكد فقط أن ما يهمني هو أن مبادرة التأسيس والفكرة تهيكلت و نجحنا في تحقيق الهدف، وبالموازاة حققنا هدفا جوهريا وهو بفضل إطلاق هذه الدينامية تغيرت اللائحة وصار إسم الحسين المنوزي في خانة المجهولي المصير.

وبعد سنة من صدور التقرير المشؤوم والذي أوصى بالعفو الملكي عن الجلاد والضحية معا. أي خلال أكتوبر 1999 إنعقد التجمع الوطني الأول للضحايا بالدار البيضاء، والذي سيتقدم خلاله الراحل ادريس بنزكري بعرض حول إستراتيجية العدالة الانتقالية، و”انتخب” ضمن لجنة تحضيرية من 6 أعضاء للتحضير للمؤتمر التأسيسي لمنتدى الحقيقة والإنصاف.

وفي 28 نونبر 1999 تأسس منتدى الحقيقة والإنصاف في كنيسة المعاريف بزنقة جورا، بعد تحويلها مركبا ثقافيا تحت إسم الفقيد محمد زفزاف الكاتب وصاحب “بيضة الديك” و “بيوت واطئة”، وانتخبت على إثر الجمع العام الانتخابي عضوا في المجلس الوطني، وفاطنة افيد وعبد الكريم المنوزي (عن عائلات المختطفين) عضوين بالمكتب التنفيذي، إلى جانب ادريس بنزكري رئيسا (قدماء إلى الأمام) وصلاح الوديع نائبا للرئيس (ق 23 مارس) وأحمد الحو أمينا للمال (من قدماء الشبيبة الإسلامية) وعبد الحق مصدق كاتبا عاما ونزهة البرنوصي وعبد اللطيف زريكم وخديجة الرويسي و مصطفى مفتاح (ق الحركة الماركسية اللينينة ) ومحمد الصبار (حزب الطليعة).

هذا عن نتائج الجمع العام التأسيسي، أما عن كواليس عشية التأسيس وعن موقف الدولة ودور الهيئات الحقوقية والسياسية في بلوغ هذه التسوية، فالوقائع اللاحقة ستفرز بعض الخيوط المنتجة لملامح صحة “توافق الإرادات”، والتي لم تكن إلا وقودا لدعم مسلسل العدالة الانتقالية على الطريقة المغربية .

اقرأ أيضا

قراءة وتحليل لقرار مجلس الأمن رقم 2756 حول الصحراء المغربية

قبل أن نبدأ في التفصيل وشرح مقتضيات القرار 2756، يبقى جليا بنا أن نقف على …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *