اختار الأستاذ والمحامي، مصطفى المنوزي وهو من عائلة معروفة بمنطقة تافراوت، عائلة مقاومة للاستعمار الفرنسي ومناضلة في سنوات الجمر والرصاص بالمغرب، أن يكتب يوميات “الحبس الاختياري”.
مؤسس “المنتدي المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف”رئيس “المركز المغربي للديموقراطية والأمن” وأمين عام شبكة “أمان لتأهيل ضحايا التعذيب والدفاع عن حقوق الإنسان”، ورئيس “أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي” وعدد من التنظيمات الحقوقية والجمعوية، اختار أن يتعامل مع حالة “الطوارئ الصحية” التي أعلنت بالمغرب لمواجهة تفشي وباء فيروس “كورونا” المستجد، بتدوين يومياته في “الحجر الصحي” على شكل حلقات متتالية.
(الحلقة 12)
في الحلقة السابقة (11) تكلمنا عن ” حياة بيضانصي ” ، وهي تعني حياتنا الجماعية كمعتقلين سياسيين محسوبين على الحركة التقدمية ، ومنتمين لليسار او منحدرين من الحركة الوطنية والديموقراطية ، حياة جماعية داخل السجن المدني ” غبيلة ” بكراج علال ( المدينة الجديدة بدرب السلطان) ، والتي استمرت بنفس الأشخاص بالسجن المدني بعين بورجة .
فكما معلوم أن السجن المدني غبيلة شيد فوق مقبرة قديمة ، ربما كانت اقدم مقبرة تتمركز في وسط مدينة الدارالبيضاء ، لذلك احتفظ باسم ” غبيلة ” ، وبناية السجن تشبه مقبرة لدفن الأحياء ، وكان آنذاك وإلى حد يومئذ منقوش في المدخل الثاني للمعتقل حيث توجد الإدارة والمزار وغرفة للتشخيص القضائي ( أخذ بصمات النزلاء وصورهم ) ، كتبت بأحرف بارزة ” الداخل مفقود والخارج مولود “، وكم كان مزعجا ومخيفا الشق الأول من العبارة ؛ في حين تم تحويل ثكنة عسكرية بعين بورجة الى سجن عسكري ثم الى سجن مدني في عهد ما بعد انهاء عقد الحماية؛ والمهم أن حياتنا الجماعية استمرت في السجنين معا، وهي حياة ممأسسة بميثاق تحت إدارة الأخوين عبد الرحيم عميمي ومحسن عيوش، قبل أن أتولى شخصيا تنسيق إدارة الحياة الجماعية، رفقة الرفيق مصطفى فارسي ( من طلبة المعهد العالي للتجارةو إدارة المقاولات ISCAE )، لقد حللنا محل عميمي وعيوش، بعد أن انتقل الأول الى سجن لعلو بالرباط بعلة الاستشفاء ومتابعة الدراسة بشعبة الفلسفة .
والثاني بدعوى الاستشفاء بالدارالبيضاء ، وظل الاول بالرباط الى أن اطلق سراحنا نحن الثلاثة ، بأمر من الوكيل العام للمجلس الأعلى إثر نقض القرار الاستئنافي القاضي برفع العقوبة من سنتين حبسا نافذا الى أربع سنوات مع الإبعاد عن مدينة الدارالبيضاء الكبرى لمدة خمس سنوات ؛ في حين التحق بنا محسن بالسجن المدني بعين بورجة ، حيث غادرناه في نفس المساء ، تبعا لقرار الوكيل العام أعلاه . كانا ( وكنا لاحقا ) مكلفين بإدارة وتنسيق الحوار والتفاوض مع مدير السجن ، السيد ميمون أوراغ ، والذي كان منفتحا ، يساعده رئيس المعقل آنذاك و المشهور ببطشه وتعسفاته ، تجاه معتقلي الشبيبة الإسلامية لسنة 1984 ( مجموعة 71) ، وكذلك المشهور باعتداءاته على مجموعة 16 ورفافقهم من مجموعة 26 . والذين بسببهم تم نقلها الى سجن عين بورجة ، حتى لا نلتقى ونتصدى موحدين ، او نشوش على مخطط الإدارة .
وتجدر الإشارة إلى أن الأجهزة الأمنية كانت قد شنت اعتقالات واسعة في صفوف العديد من الهيئات والجمعيات ، ذات طابع سياسي أو دعوي / ديني . ومن بينهم افراد أسرة الجماعة ، وعلى رأسهم المرحوم محمد البشيري ، والذي ، عايشته وتعايشنا معه لمدة ثمانية أشهر ، وكذلك جماعة البهائيين ، والذين اعتقلوا إثر تقديمهم لطلب رخصة الدفن في مقبرة خاصة بالبهائيين ، إلى جانب السجناء من ذوي السوابق العدلية أو الباعة المتجولين ، تجاوبا مع الخطاب الملكي وصمهم بالأوباش . إضافة إلى الأخ علي موريس السرفاتي نجل المناضل الفقيد ابراهام السرفاتي ، والذي لفقت له تهمة الفساد والمشاركة في الخيانة الزوجية صحبة خطيبته ( مطلقة ضابط سابق ) . وطبعا دون أن ننسى طلبة المعهد العالي للتجارة وادارة المقاولات . وقبل الحديث عن بعض تفاصيل ومجريات حياتنا الجماعية وكيفية تدبيرها ، أحيي جميع من شاركونا المعاناة وآزرونا في تلك المحنة ، من محامين ورفاق ورفيقات وحراس أيضا ، وعلى الخصوص آباء وأمهات المعتقلين نزلاء ” حياة بيضانصي ” .
إن مهمة تدبير العيش المشترك والتعايش كانت تتطلب من الصبر والحكمة والعقلانية ، فلأول مرة أباشر هذه المهمة الصعبة ، فالأمر لا يتعلق بادارة الاختلاف الفكري العام او السياسي المألوف ، بل مرتبط بأدق التفاصيل المادية والمعنوية ، والانفعالية والعاطفية ، تفاصيل متناهية في الصغر ، وهو موضوع محال على سيرتي الذاتية ” في ترتيب النهايات ” .
وهنا تكفي الإشارة فقط إلى أن بعضنا كان يختزل غاية انخراطه في حياتنا الجماعية في توزيع التغذية ومشتقاتها ، والحال أن دورنا كان يروم الارتقاء بأعضاء حياة بيضانصي الى تجاوز صفة الضحية ، بالتسلح بالتكوين الذاتي المعرفي والأكاديمي ، إضافة إلى التثقيف السياسي .
إن كلمة ” بيضانصي ” هي ترجمة لpénitentier أي المعتقل او السجن . لذلك يطلق على الخبز نفس الكلمة والصابون ، ونحن توافقنا على إطلاق بيضانصي على حياتنا الجماعية ، وبادرنا إلى إنشاء مجلة سميناها ” حياة بيضانصي ” السلسلة القيدية ، مقارنة وليس قياسا على ” حياة ريجنسي ” السلسلة الفندقية .