المنوزي يكتب: يوميات الحبس الاختياري (الحلقة 24)

اختار الأستاذ والمحامي، مصطفى المنوزي وهو من عائلة معروفة بمنطقة تافراوت، عائلة مقاومة للاستعمار الفرنسي ومناضلة في سنوات الجمر والرصاص بالمغرب، أن يكتب يوميات “الحبس الاختياري”.

مؤسس “المنتدي المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف”رئيس “المركز المغربي للديموقراطية والأمن” وأمين عام شبكة “أمان لتأهيل ضحايا التعذيب والدفاع عن حقوق الإنسان”، ورئيس “أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي” وعدد من التنظيمات الحقوقية والجمعوية، اختار أن يتعامل مع حالة “الطوارئ الصحية” التي أعلنت بالمغرب لمواجهة تفشي وباء فيروس “كورونا” المستجد، بتدوين يومياته في “الحجر الصحي” على شكل حلقات متتالية..

(الحلقة 24)

” بونجور موسطافا، جاو العيالات ” صاح في وجهي علي موريس السرفاتي، نجل المناضل ابراهام السرفاتي.

” صباح النور موريس، واه ! مالك فقتي مقلوب، آش من عيالات؟ راحنا في الحبس ! ” . ” Les familles je veux dire ”
” سير بعد افطر راه باقي الحال، يالله التسعود” .

وقع هذا ذات صباح ثلاثاء ( يوم الثلاثاء هو اليوم المخصص لمجموعتنا للقاء العائلات). كان بمثابة يوم عيد، يوم ننتظره بشغف كبير، ينطلق عداد شوقنا اعتبارا من لحظات انتهاء الزيارة السابقة، غير أن التحضير يبدأ، بالنسبة لبعضنا، منذ يوم السبت، ننظف الأواني ( الشوبينات بلغة البضانصي اي السجن ) ونضعها في السلل، هي وملابسنا ” الموسخة”، التي لا يمكن غسلها في السجن، وطبعا كان كل واحد يغسل ملابسه الداخلية .

كان بعضنا يعيد قراءة رسائل العائلة والزوجة أو الرفيقة ( المسربة ) والتي تتم خياطتها في السلل او الملابس. كنا نستعمل الورق الرهيف كرهافة أحاسيسنا، نكرر القراءة، إما ليجيب على بعض التساؤلات أو المؤاخذات او يتقاسم بعض المعلومات الضرورية؛ وكانت قراءة رسائل الزوجة أو الرفيقات الحبيبات تستغرق الزمن الكافي لتجديد التفاعل و الاستلهام، فتخصب الصورة وتتولد العبارات، كل على حسب سعة متخيله وقدر عشقه؛ لحظات توليدية تجدد نفس العلاقة، كجزء من عملية انتاج قطع غيار آلية الصمود. كنا ، ونحن نستعد ليوم الثلاثاء، نعيش لحظات الزيارة قبل حصولها ، كطفل يترقب موعد ميلاد شقيقه الجنين، وكلنا أمل بسماع أخبار جديدة او رؤية زائرين جدد.

كنا نحرص، عشية ميعاد الزيارة، على حلاقة ذقننا، فوجوهنا مؤشر لحالة ” طقسنا ” النفسية.

وكنا نجبر أحيانا بعضنا البعض على اردتاء ملابس أنيقة، وكنا نعير لبعضنا البعض ” حوايج التفركيس ” الملائمة للحظة الافتحاص النفسي و المؤسسة على معاينة وقراءة المظهر، و التي كنت شخصيا أعززها بابتسامتي المعهودة، والتي لا يمكن عدم السخاء في ظل أزمة معنويات.

صحيح أن جل مظاهر سعادتنا ” مفتعل ” لأنه لا يعقل ان تكون دائم المرح أمام ضغظ ظرفية الاعتقال، فشعورنا بفقداننا للحرية مضاعف وكذا حنيننا لتوسيع دائرة التحوال والاحتكاك ب ” الجماهير “، رغم أن صديقي محمد الصبار، يوم كان شاعرا، وقبل أن يدان، غيايبا، بثلاثين سنة سجنا نافذا، من قبل محكمة الجنايات بتطوان، وفي نفس الوقت الذي كان معتقلا بسجن لعلو يقضي عقوبة حبسية لنفس الأسباب ، قال : ” نحن في سجون خصوصية وانتم في أخرى عمومية “.

وكان بعضنا يقوم بتمارين رياضية، ليبدو نشيطا وسعيدا ، لأكتشف لاحقا، أن السر في ذلك يعود إلى ممارسة الرياضة التي تفرز مادة الدوبامين المنتجة لهرمون السعادة، وفق ما جاء في القاموس العلمي: “” الدوبامين هو مادة كيميائية، كما أنّه أيضا ناقلا عصبيا في الدماغ، يرتبط بالحالات الإدمانية، والإكتئاب والأمراض الحركية”” ولأن المناسبة شرط، ونحن نعيش هذه الأيام لحظات الحبس الإختياري بسبب كوفيد 19، ألح على أن ممارسة الرياضة ضرورة حيوية لتفادي حالة القلق وتداعيات أعراض الاكتئاب. ورغم عدم تماثل الظرفيات والظروف؛ فإن الاستعداد لخروجنا ( جماعة ) إلى المزار لايتم إلا بعد الإعداد الجدي، وكأننا نقوم بالبروفات المسرحية، ولا مجال للغلط او الارتباك، لأن الضحايا الحقيقيين هم الأسر، ومعاناتهم لا تشبه محنتنا ولكن لا تقل عنها آثارا؛ من هنا فالأمهات والزوجات على الخصوص يحتجن إلى دوبل دوزاج، أي جرعات مضاعفة من أجل رفع المعنويات.

وتحضرني كثير من اللحظات الحرجة، عندما تأتيني بعض الأمهات أوالأباء او الأصدقاء ليسألونني عن أحوال أبنائهم او قريبهم المعنوية ؛ فأحرج ولا أجد جوابا سوى أن للمعدة دورها في انتاج حالة القلق ( بعضهن ، مزحا او حقا، يعرضن ويقترحن الشهيوات لترميم الأمعاء وتنشيطها، وبعضنا لم يدق طعم الطنجية او البسطيلة إلا في السجن )، أو أن السبب يعود للإرهاق الناتج عن القراءة أو الدراسة. وهنا اتذكر يوم اصدر وزير الداخلية قراره السيء الذكر بمنعنا من إجتياز الامتحان وضياع سنة دراسية، حيث كانت أول زيارة بعد صدور القرار، ساد أجواءها نشيد جنائزي صامت، لأن أغلب العائلات لم يكن يعني بالنسبة لها الاعتقال سوى مقصلة للمستقبل، ومشنقة للحياة.

آنذاك تاهت البوصلة وتبددت ملامح الأمل ومبررات الصمود. يوم كئيب لا يقل شراسة عن لحظة الاعتقال او لحظة صدور الأحكام القاسية في حق شبان في زهرة العمر. وبذلك كانت لحظات الزيارة فضاء زمني يعبر كالومض ( أسرع من البرق )، لكنه وعاء كثيف نغترف منه ( معتقلين وعائلات ) طاقة نصنع منها زيتا لصمودنا ووقودا نواجه به خصاصنا المعنوي والعاطفي .

وحين نعود الى زنازننا لا نحمل معنا إلا ” قفتنا ” والأحاسيس والانتظار، انتظار الأسبوع المقبل، متلهفين لمعرفة ما تحتوي عليه تلك السلل من مفاجئات، مؤونة ورسائل. فالمؤونة ندعها في غرفتنا الجماعية الخاصة بالتغذية، أما الرسائل فنقرؤها ( لكل رسالته الخاصة او الخصوصية ) ، أغلبنا يبدأ برسائل الحبيبة، واترك لخيال كل واحد ان يسافر في رسائله وخواطره الشخصية، ليعيش معنا زمننا الحميمي، فرغم انه لا تماثل في البشر، فإن القاسم المشترك هو تلك الشحنة الإنسانية التي كنا نغذي بها حاجتنا العاطفية، خاصة إذا كانت مشفوعة بعبارات شعرية وصور شاعرية، يترجم طيف المحبوب حضورا يلازم أجمل اللحظات. أما الجرائد فلا نطلع عليها إلا في المساء، وبالتداول، والتي أغلبها كان يصادر، وكذا بطاريات المذياع وممنوعات أخرى، من قبل بعض الحراس، الذين يقومون ب ” واجبهم ” المهني؛ لكي تسلم لنا في المساء طبقا لقواعد القانون ” النعيم ” ، ونفس الشيء ينطبق على الكتب والمؤلفات الممنوعة وليس القانون الناعم .

ومع مرور الزمن السجني اكتسب الجميع، بقوة الواقع وقانون التعايش الاضطراري، القدرة على ” تصدير ” المرح عوض القلق، وفي هذا الصدد كنا نخصص بعض الأمسيات ” ثنائيا او أكثر، حسب سعة الزنزانة او خصوصية الموضوع “جلسات للبوح والاستشارة الإنسانية او الإرشاد العاطفي؛ إن صح التقدير، وشخصيا كنت استوحي بعض الصور من أشعار درويش والقصص و الروايات ذات اللحظات الرومانسية…وهلم جرا.

وطبعا كان يوم السبت خاص لممارسة طقس المرح الجماعي، وهناك تعلمت أن السهر يناسب حالات الحزن والقلق ومشتقاتهما، في حين يظل السمر الموافق لأجواء الفرح والحبور وتبادل طاقة الإسعاد، وهو اكبر مجهود كنا نسمو به بطاقتنا الإيجابية إلى درجة أن بعضنا يكاد يحن إلى زمنه الجميل، وعلى سبيل المثال كان بعضنا يقدم دروس محاربة الأمية لبعض السجناء الذين ” ضموا ” مسطريا إلى ملفنا، وكانوا محكومين ابتدائيا بثمانية اشهر، وعندما أعلموا بأنه سيفرج عنهم لأن محكمة الاستئناف قضت بتأييد الحكم الابتدائي مع تعديل العقوبة الى ” بما قضوا “، ومن هؤلاء من رفض الحكم الى درجة الغضب والبكاء، فلما لا وأنهم اعتبروا السجن مدرسة، ونحن ايضا لا يمكن ان نكون جاحدين تجاه ” حياة بيضانصي ” التي تعلمت فيها كيفية إنضاج وعي الكتابة بفضل تراكم حس القراءة، قراءة الواقع والذات، ما دامت كل قراءة إعادة كتابة. وكانت من أجمل القراءات، ” قرايا الجورنال ” ، يمارسها كل وافد من الكومسياريات، وهي عبارة مجازية تعني، فحص الملابس الداخلية بحثا عن ” القمل ” الأبيض الذي يسكن ثنايا الملابس، واحيانا في حالة الفراغ، كان بعضنا يشعر بملل كبير وبما يقترب من حالة إحباط حينما لا يجد اية فريسة، وكأنه لم يجد أي خبر مفيد في جريدته. طبعا على سبيل الإعلام، لأن المهم هو كيف نقرأ مستقبلنا الإنساني من أجل تأهيل التطبع السيء ومناهضة كل مؤامرات التطبيع المروض .

شاهد أيضاً

الجزائر والصحراء المغربية

خصصت مجموعة “لوماتان” أشغال الدورة السابعة لـ “منتدى المغرب اليوم”، التي نظمتها يوم الخامس من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *