اختار الأستاذ والمحامي، مصطفى المنوزي وهو من عائلة معروفة بمنطقة تافراوت، عائلة مقاومة للاستعمار الفرنسي ومناضلة في سنوات الجمر والرصاص بالمغرب، أن يكتب يوميات “الحبس الاختياري”.
مؤسس “المنتدي المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف”رئيس “المركز المغربي للديموقراطية والأمن” وأمين عام شبكة “أمان لتأهيل ضحايا التعذيب والدفاع عن حقوق الإنسان”، ورئيس “أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي” وعدد من التنظيمات الحقوقية والجمعوية، اختار أن يتعامل مع حالة “الطوارئ الصحية” التي أعلنت بالمغرب لمواجهة تفشي وباء فيروس “كورونا” المستجد، بتدوين يومياته في “الحجر الصحي” على شكل حلقات متتالية..
(الحلقة 25)
على إثر تواصل جرى فيما بيني والاخ رشيد وزوجته خديجة البودادي وضيفيه الارجنتينيين اللذين حضرا في إطار دعمهما العلمي والحقوقي لقضية المختفين قسريا، بمناسبة عيد ميلاد المختطف الحسين المنوزي، وإثر تواصلي مع فاطمة ونجيب ( وكلهم ممنوعون من السفر والعودة إلى ديارهم خارج الوطن بسبب حصار وحجر ” كوفيد 19 “.).
أوحى لي نجيب ابن عمي الحاج علي بأغلب محتوى هذه الحلقة. فقد كان من أبرز زواري في السجن، أفراد عائلتي ( وطبعا أسرتي )، ومن أعظمهم عمي الحاج علي الذي كان يضخ في شراييني وقود الصمود وزيت المقاومة، فحديثه كله حكم وعبر، وكلما حضر إلا و يسألني، (بعد السؤال التقليدي، هل تنام وتأكل جيدا؟)، هل أقرأ؟.
وكان يذكرني بأيام اختطافه واحتجازه بأقبية الكوربيس بمطار أنفا الدارالبيضاء، ولم يكن أحد يعلم بمكانه سوى المخابرات والحراس، وكذا يحكي عن التعذيب الذي كان يتعرض له، قبل أن يقدموهم للوكيل العام الدولة، ويحال على غرفة التحقيق، ليتم إيداعهم في السجن المدني غبيلة. سؤاله كان يضمر حكمة وعبرة، فحكمة القراءة تكمن في أنها بمقتضاها يمكن إملاء الفراغ، أو تزجية الوقت، فالعبرة من القراءة تكمن في التحصيل واكتساب المعرفة، والتكوين، كان رحمه الله، يوم كنت إبنا له، ضمن أبنائه، ندا لأقراني: صلاح الدين وعبد الكريم وعبد الحفيظ، كان يحرص، ونحن صغارا، على ثلاثة أمور، اولا تزاليت أي الصلاة، ولا يهمه احترامنا لموعدها، والأمانة، ثم (تيغري ) اي القراءة و الاجتهاد، وكذلك كان يفعل ونحن نزوره في السجن، يا للأقدار بنفس المزار ! ونفس الشيء، كان يقوم به، خلال زيارته لنا في السجن، سواء في اعتقالي الأول أو الثاني، غير أنه، خلال هاتين المرتين الأخيرتين، كان يرسم بسمة خفيفة وهو يسألني عن” تزاليت “.
وأهم عبارة لا تزال ترن وقعا، عندما يقول لي: ” تبارك الله، تلا العمت، توفيت إمدوكال مادارك إتكان ” ، أي ” تبارك الله ، كاين الغاشي ، لديك من الأصدقاء من يزورنك ” ، وكان يقصد أنه خلال فترة اختطافهم لم يكن يعرف مكانهم وبالأحرى أن يزورهم ، وبالنسبة لفترة اعتقالهم الاحتياطي، لا يرخص إلا لشخصين فقط، وقد طلبت بالحاح شديد، عبد الكريم ابن عمي ان يجلب رخصة لزيارة عمي الحاج علي. دخل عند الكاتبة الخاصة لقاضي التحقيق وطلب منها تحرير رخصة لفائدة شخصين : المنوزي عبد الكريم ومصطفى و فاطمة، أدخلت الرخصة لقاضي التحقيق فوقعها. ذهبنا للتو الى باب السجن ووجدنا فاطمة تنتظرنا، وبعد إطلاع الحارس المكلف قال لعبد الكريم ” الرخصة فيها مصطفي ماشي مصطفى ، جاب الله مصطفى صغير، الله يسامح “.
تصرف الحارس بتلك الطريقة حتى يتناهى الكلام في آذان ” صاغية ” او أي لاقط غير هوائي. وللتاريخ كان أغلب الحراس متعاطفين . وأذكر ان عمي الحاج علي، خلال تلك الزيارة طلب من الحارس ان يسمح له بعناقي مباشرة، دون ” كرياج ” اي سياج . وسمح لي، وكان أول تصرف قام به عمي، رحمه الله، أن راقب أسناني واحدة واحدة، وكان لي نابان بارزان، فقال لي بقلق ” كس الصدعنا ” ، اي ” ازل هذا الإزعاج “.
أما أشهر زائر فهو أخي عبد الكريم، رفيق طفولتي ومراهقتي، والذي كان يحضر دائما، ما عدا في حالة الظرف القاهر، إلى جانب والدتي وأخي العربي، والذي يصعب ان أحصي جميله علي وعلى والدي، خاصة والدي الذي كان يعاني من مرض المعدة، تلك قصة إنسانية جميلة تستحق مني أن افرد لها كتابا بدل تدوينة، وهي وكل افراد أسرة عمي الحاج علي، وعلى الخصوص فاطمة وزوجها العزيز الحسين الأموي المانوزي، وأمي الثانية مربيتي الحاجة خديجة شاو.
هذه الأخيرة التي لا تكفيني مجلدات لأوفي حقها من التكريم والوفاء، ولكن في هذه اللحظة التاريخية من زماننا الوطني المغربي، لا مناص من استحضار عبارة مأثورة لن أنسى وقعها النفسي ونحن صغار، خلال فترة الاعتقالات السرية المتتالية، خاصة تلك التي توجت بمحاكمة مراكش الكبرى وإعدام عمي ابراهيم يوم 13 يوليوز، دامت لأكثر من سنتين، من صيف 1969 إلى 1971، كانت الحاجة تردد ” لاح كلو مدن، حتى يان أوراحاغ إتقراب ولا أسقسان، لا أمدكال ولا حتى أدجارن، زوند إيغ إغ نوضن س الطاعون ” اي بالعربية ” اين كل هؤلاء ؟ لا احد يقترب أو يسأل، لا من الاصدقاء ولا من الجيران، وكأننا مصابون بوباء الطاعون ” .
وفعلا قام الناس، من شدة القمع والترهيب، بمقاطعتنا، لا تعامل ولا تواصل، وحتى من كان يتعاطف معنا، يساندنا من بعيد، كان تواصلهم شبيها بما يجري اليوم، وكأننا في حالة حجر صحي. لقد عانينا جميعا من هول الحصار القاتل، لقد اقترن هذا الحصار بحقد بلغ احيانا درجة العداء، فلن ننسى يوم بادر عدد من الأعيان والعملاء، إلى تخوين العائلة، وقد حرروا عريضة الى الديوان الملكي يتبرؤون من ” نضالنا ومقاومتنا ” وهذا ليس بجديد، فقد قام اجدادهم بنفس الشيء، إبان الاستعمار. إلا أن مظاهر العداء والتخوين ستنقضي في منتصف التسعينيات، ولحد يومه يتأرجح السبب ويتوزع بين فرضية التوبة وأزمة ضمير، وبين فرضية النفاق الاجتماعي، وارجح الفرضية الأولى لأن الترهيب والقمع لعب دوره، فكما رجعت المياه إلى مجاريها، يوم فسخ عقد الحماية، كذلك وقع يوم قرر القصر، في عهد الجديد، ولو أن بعضهم تاب غداة تعيين حكومة التناوب التوافقي. غير ان الفارق بين الوقائع هو أن الحجر الصحي الكوروني تقرر بنص قانوني، في حين تقرر حجرنا السابق بتمثلات واقعية، ولكم أن تحكموا وتميزوا.
وتحضرني واقعة إعتقال الفقيد محمد أشوان ابن خالتي فاضمة ( الشقيقة الأكبر لوالدتي ) يوم حمله بعض التغذية والملابس لجدتي، مبعوثة من طرف عمي لحسن غاندي المنوزي ؛ وكذلك انتقاما من مساعدة خالتي خليج وفاضمة وابنائها لوالدتي في درس محصول الشعير الذي زرعوه ، على قلته، لأن ما تم حرثه كان قليلا، بالنظر إلى المساحة الكبيرة التي صادرتها السلطات العمومية إثر تنفيذ الإعدام في حق الشهيد ابراهيم.
كانت جدتي ام المانوزيين رحمها الله ومعها امي كلثوم حفظها الله محل حصار ابناء القبيلة بإيعاز من السلطة وأعيانها. رغم اي حصار، فعهدنا المستدام ان نظل منوزيات و منوزيين، ولا منزويات ولا منزويين مادام الوطن موشوم بدم شهدائنا وأبرار وشرفاء تاريخنا .