اختار الأستاذ والمحامي، مصطفى المنوزي وهو من عائلة معروفة بمنطقة تافراوت، عائلة مقاومة للاستعمار الفرنسي ومناضلة في سنوات الجمر والرصاص بالمغرب، أن يكتب يوميات “الحبس الاختياري”.
مؤسس “المنتدي المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف”رئيس “المركز المغربي للديموقراطية والأمن” وأمين عام شبكة “أمان لتأهيل ضحايا التعذيب والدفاع عن حقوق الإنسان”، ورئيس “أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي” وعدد من التنظيمات الحقوقية والجمعوية، اختار أن يتعامل مع حالة “الطوارئ الصحية” التي أعلنت بالمغرب لمواجهة تفشي وباء فيروس “كورونا” المستجد، بتدوين يومياته في “الحجر الصحي” على شكل حلقات متتالية..
(الحلقة 33)
تواصلت طيلة مدة الحجر الصحي مع عدد كبير من الرفيقات والرفاق ، وخاصة أصدقاء الطفولة والدراسة وقدماء ضحايا سنوات الجمر أو ذويهم ، حصل الإطمئنان وما يشبه إشباع الخصاص العاطفي ، وتم تبادل إرسال الطاقة ومواد التفاؤل والصمود ، والخلاصة الأولية أن أغلبهم عبر عن عظيم استعداده للتفكير ، بعد تأمل وتدبر ، في إعادة صياغة الأحلام في قالب آمال متجددة ، فهذه مياه أخرى ، “” أمان ياضنين أيا “” ، كما قال الضفدع وهو داخل قدر مليء بالماء الساخن ، تتصاعد مع مرور الوقت درجة حرارته ، وهو على نار متقدة ، وبالتالي لابد من إعادة شرعنة طرح سؤال : “”هل يمكن للمرء السباحة في النهر مرتين “.
ولكن في صيغة جديدة ” هل يعقل أن يستحم الإنسان في نفس المياة الراكدة والنثنة لأكثر من مرة ؟ “” ، وفي إنتظار تفاعل الجميع مع هذا التساؤل / الإشكال ، في ضوء مطلب إرساء ضمانات عدم تكرار الماضي ومآسيه ، أدعو إلى السفر سويا عبر هذه الخاطرة التي سبق أن حررتها من قبضة ذات حصار اسمنتي ، متسائلين عن الفارق بينه وبين حبسنا الحجري :
“” أوراق من داخل معتقل عين البورجة .
أعبد نافذتي ” شامة ” ( أي نقطة الزين على الخد لا علاقة لها بقصيدة شاما المغناة من طرف عمر السيد ومن معه ) في وجه الحصار (مهداة إلى من بقي صامدا طاهرا من المثقفين) …
نزعوا عني كل شيء ،قبل أن يقفلوا علي زنزانتي ، سلموا لي رقم إعتقالي والإنتظار .نزعوا مني كل شيء سوى أحلامي وكوابيسهم ..وصرير أقفالهم ، لا ترحيب لهم سوى أنهم قالوا بصلافتهم المعهودة :” الداخل مفقود وعندما يكتب لك الخروج ستكون مولودا ” ثم ركنوني في غرفة ضيقة مرحاضها فيها ، قرب منامتي الإسمنتية ، لكن أوسع ما فيها تلك النافذة الصغيرة بحجم الغراب ، متسخة كمدخنة من القرون الوسطى ، في البدء اختنقت لمجرد رؤية حجمها المزدان بالقضبان السميكة ، تسمرت عيناي على طيفها الرمادي الداكن عنوانا لغد مستحيل ، تسلقت الجدار، وكأني أتسلق الجبال ، لأطل على الساحة المجاورة دون جدوى ، أغمي على مقلتي سهوا الى أن تسرب عبرها، في الصباح الباكر، نشيد الطلبة يأتي الى مسامعي صادحا ،رغم بعد جناحهم الخاص ، كان كلاما غير واضح ،وفي كل صباح كنت ألتقط كلمة من ذلك النشيد الذي اكتمل مع مرور الأيام فحفظته دون لحن مضبوط :
من جبالنا طلع صوت الأحرار ينادينا للإستقلال ،إستقلال وطننا
تضحيتنا للوطن خير من الحياة.
كانت النافذة إذاعتي وقناتي التواصلية مع العالم الخارجي ،عبرها كنت أستنشق حريتي الأسيرة خارج الأسوار ، وبها كنت أراقب الزمن الشمسي من خلال الآذان وآهات الوافدين الجدد ، عبر نافذتي كانت روحي تسافر الى أبعد نقطة في بلادي ، تعانق الأحبة والوالدة وكل أمل في معانقة حريتي قريبا ،عبرها كنت أغادر زنزانتي على صهوة خيالي ومتخيلي ، عبرها كان السجان يراقب حميميتي خلسة دون أسراري ، كانت حياتي الخاصة عارية أمام عدسة الجلاد دون مشاعري ، وكل ما كتبت من خواطر كنت أصيغه بشراكة مع نافذتي ، نشرتي الجوية والبرية ، عبرها أسكر بأحلى الأغنيات العابرة للمعابر والزنازن ،لذلك عشقت نافذتي منذ تزوجت حاستها بأسماعي ليلا وكنت وفيا لها ، مخلصا لذكرياتي ،حلوها ومرها ،أستجدي بها ندمي وإعتزازي ،الى يوم تصير الصور واقعا فوق إعتقالي ،كما كان النور المتسرب عبرها ملاكا يعبر خوالجي ، كانت نافذتي لوحة حية متحركة ونشيطة بالعصافير التي ترسو على قضبانها ، كنساء مصطفات في درب الإنجليز ينتظرن شغلا في أي بيت وبأي ثمن ، وتذكرني بصور من رواية خريف البطريرك لغابريال غارسيا ماركيز ، وكأنها ممثلات على ركح عتيق ينتظرن البوح لهن بالحوار المنسي ، نافذتي لا مثيل لها سوى كوة جد جدي بداره بأمانوز ، يوم حاصره العدو لبضعة أشهر ،كانت برج مراقبته لهم ، منها كان يحصي تحركاتهم و أنفاسهم ويصفي من يقدم على الهجوم على عين غرة، ومنها أخرج اليهم عنزته الصغيرة بعد أن أشبعها شعيرا ، ذبحوها في عز المجاعة واستغربوا لسخائه بذهب عام الجفاف ، فقد انبهروا لصموده المستدام، ففكوا الحصار عنه وانصرفوا .
أما أنا فلم تكن لي عنزة أضحي بها سوى صرخات ألعن بها جلادي يوم قطعوا عني الماء ، جلدوني وصبرت، لكن لم أصبر عندما غيروا زنزانتي بأخرى دون نافذة ، كانت غرفتي الجديدة مكعبة وأوسع ،غير أنها أضيق ، حزنت على نفسي ولكن أقل مما بكيت على نافذتي كما يبكي الحبيب فراق عشيقته ، أحببتها كحريتي ، صرت مستلبا بها دون جلادي ، كانت عيني و معبري الى الحياة ، كانت كتبي ورسائلي الرسمية والغرامية ، وسبورتي المدرسية بلا طبشورة تعلمت بها حسن الإنصات وحروف التواصل الحسي دون هجاء ،هي الثقب الذي أتحاور به وعبره مع نفسي دون مونولوج ، فمن يملك منكم نافذة تغنيه عن جميع الشاشات والشاشيات ، هي نصف حرية ،ولكن أعمق من الإنعتاق ، ومن ليست له نافذة فليرسمها على أقرب جدار يحاصره ،ارسموها بدمكم مربعة كقدر محتوم ،ارسموها بعرقكم كسرة خبز ،تذكركم بالطفولة والكهولة حيثما اخترتم الملاذ ،ارسموها بلا قضبان ولا أسلاك ، ولا حتى برواز ،بكل الألوان إلا البنفسجي ما دامت لا تغريكم شمس الحقيقة و لا ولادة عسيرة لقصائدكم .
كم منكم رسم لوحة بلا نافذة ،إلا اقتصادا في الصباغة ، كما لو أن القماش خصم للانفتاح ، جمال خطوطكم العريضة تشكيل بدون معنى ، سوى لمن وضع نافذته شامة على صفحة ماء بحركم الجارف للحب والحرية ،بل ثغرا يتدفق رضابا يروي عطش لوحاتكم ،فكيف تدعون أن قلوبكم مفتوحة على الوصل والآفاق ورصيدكم خال من أي نافذة أو حتى ثقب ؟
عيون الجميلة حور ،فكيف علمتم بأسرارها ؟ وقديما قالوا من أين لك بتلك الفاتنة ،يكون الرد من تلك النافذة ، عروس أجمل عند الغسق وجسد مترامي الأطياف على شاكلة قوس قزح تقتحم كل الزنازن ،فاحرصوا على حسن استقبال ضيوفكم ،وانفذوا في الأرواح ما شئتم ،ولا تنفذوا إلا بسلطان النافذة ،بكلام مجازي ولكنه نافذ دون نفوذ ، مجاني بلا نقود ، خيال حر بلا قيود ، قيل وما معنى نافذ ،قيل لهم هو بعل النافذة الذي ينفث فيها الروح . نفذت عقوبتي ودعت انتظاري ، فاسترجعت حريتي وتركت للجلادين نافذتي مغلقة ،ولست أدري مصيرها بعد أن تسببت لها في تلك الوضعية.
وكان أملي أن يفتحوها لمن سيحل بعدي وإلا سيعيش اعتقالا مضاعفا ، تلك أمنيتي ، فهي الساعة التي يضبط عليها السجين مواعيده مع الإنتظار المتجدد ، هي وضوء الخيال ، وهي الرئة التي تحمل اليه الهواء النقي وما جد من أخبار تعاقب الليل والنهار حيث يرتفع اليأس الى مرتبة الإنتحار أو الإحتظار الذاتي ،وحيث يرتفع عشق الوطن الى درجة العبادة والحلول الصوفي .”