اختار الأستاذ والمحامي، مصطفى المنوزي وهو من عائلة معروفة بمنطقة تافراوت، عائلة مقاومة للاستعمار الفرنسي ومناضلة في سنوات الجمر والرصاص بالمغرب، أن يكتب يوميات “الحبس الاختياري”.
مؤسس “المنتدي المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف”رئيس “المركز المغربي للديموقراطية والأمن” وأمين عام شبكة “أمان لتأهيل ضحايا التعذيب والدفاع عن حقوق الإنسان”، ورئيس “أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي” وعدد من التنظيمات الحقوقية والجمعوية، اختار أن يتعامل مع حالة “الطوارئ الصحية” التي أعلنت بالمغرب لمواجهة تفشي وباء فيروس “كورونا” المستجد، بتدوين يومياته في “الحجر الصحي” على شكل حلقات متتالية..
(الحلقة 36)
قبل أن تقرؤوا حلقة اليوم، أرجو أن تقدروا الطقس الذي يطوقني كلما حاولت الكتابة عن محمد بن المحفوظ كيرينا المعروف بكرينة، كما تطوقني الأمانة الخاصة التي أودعتها الأخت جميلة كيرينا في عنقي، يوم زرت أسرتها، كان عمرها خمس سنوات، ومن شدة سعادتها بقدومي نادتني ب ” الكلب الوفي”، قبلت هذه الوصم الإيجابي، كناية، قد يكون الكلب الذي يسكنني قد مات، ولكن سيظل الوفاء حيا يلازمني ظلا لصمودي السرمدي، فاعذروني بدل ان تحذروني، لأن الشهداء ومعهم الشرفاء يستحقون كل وفاء واحتفاء.
أتذكر يوم استشهد محمد كرينة 24 أبريل 1979 في سنه العشرين، انتفضت الشبيبة الاتحادية من أقصى الوطن الى أقصاه، أشرف الفقيد عبد الرحيم بوعبيد على مراسيم دفنه بمقبرة احشاش أقديم بأكادير، واستنسخ الحزب عشرات الآلاف من صوره، وزعت في كل مكان، في حي أنزا وثانوية الخوارزمي بالبيضاء حيث اختطف، وما تبقى من الملصقات استعمل في الحملة الانتخابية للمؤتمر الوطني 16 لطلبة المغرب، فاز الطلبة الاتحاديون وحصدوا المسؤوليات الأوطمية، لكن خلال سنة فقط، سكتت شهرزاد عن الكلام المباح، ولولا أنني بادرت رفقة الأخ سعيد حسنين وباتفاق مع الأخ عبد الرحيم عميمي الكاتب الاقليمي للشبيبة الاتحادية بالدار البيضاء آنذاك، بالذهاب، عبر حافلة آيت مزال، إلى أنزا التي خلدنا فيها الذكرى الأولى لرحيله، في بيت الاخوة رفقي عبد المجيد و رشيد وعلي، ثم في أكادير بمقر الكتابة الإقليمية للا ش ق ش ، وهنا لابد من الإشادة بالشبيبة الاتحادية وتنظيمها النوعي والقوي، وكما لا تفوتني الفرصة أن أنوه وأحتفي بالأخ الصديق إبراهيم زنيدر، العامل بالبريد بأكادير حيث يشتغل عمي لحسن المنوزي، وهو من شبيبة يعقوب المنصور، على قصيدته الرائعة “الميمة”، في حين ادعى أحدهم أنه شاعر وقرأ علينا قصيدة “عجبت للفقر كيف يحكم في الفقراء” نسب زورا لنفسه والحال انها للصديق عبد الله زريقة.
ثم خلدنا الذكرى في دوار تكاد بين ظهراني مناضلي الفرع، أغلبهم فلاحون أو عمال زراعيون. وليلا زرنا با المحفوظ ومي زهرة لخضر والدي الشهيد، وتعرضنا لمحاولة اعتقال، و في غده بمقر الاتحاد الاشتراكي بتزنيت، وعند انتهاء المهرجان الذي لم أر له مثيل منذئذ، “تم تهريبنا” من قبل مناضلي الشبيبة.
نامت قضية كرينة تحت الرماد شأنها شأن قضية عمر بنجلون والحسين المانوزي ومئات آخرين، وفشل رفاقه في الحفاظ على توهج أ و طم بنفس القدر الذي تم فيه إقبار طموحات مندوبي المؤتمر الوطني الثالث للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ففي هذا المنعطف بالذات يمكن قراءة مسار الحركة الاتحادية وعلاقتها بالحركة الطلابية والنقابية، من هذه الخيمة انطلق المسار الذي نحلل أسباب تعتره، هذه الخيمة التي نحيي صمودها الاستثنائي لأن كل من عبثوا بالفكرة هنا وهناك، بوجدان او حماس، أقاموا دعائم مستحدثة، كما الضلالة، على كثبان رمال الصحراء وجماجم الشهداء المتآكلة بفعل النسيان والتجاهل، فكم قمنا بتحذير بعضنا البعض دون جدوى، فمنطق استثمار هوية القبيلة لركوب نفس المغامرة وقلة الحيلة، ورطنا جميعا في طمث الانقلابية كلعبة قذرة، بالأمس تخلينا، وعن وعي، عن خيار السلاح حقنا لدماء المناضلين الشرفاء، لكن التدبير اللاعقلاني للصراع، كلف “نفسنا الثوري” كلفة كبيرة، أبرزها إجهاض الصراع الفكري والسياسي المتراكم، بتصديره خارج وحدة الحزب ووعاء الوطن، فتبخر شعار الوحدة والديمقراطية، ولم نستطع الانضباط لقانون الجدل ووحدة وصراع المتناقضات، ورغم أنه تعد هناك جدوى للندم أو وقت للإستدراك، فمسارنا ، الذي كان مشتركا، “إيجي فلعضبان” أي “برئ على عطب” .
لكن لازلنا نملك زمنا كافيا لكي نحقن الدماء، رغم أن شرايين الوطن جفت واهترأت تضاريسه الشامخة تجاعيدا؛ فالذاكرة ستظل وقودا لإنعاش مشركنا الوطني، ومهما تغيرت مكونات الدولة؛ فإن منطق الصراع والتكيف، بدل التحول، في ظل استمرارية نفس العقل الأمني، سيفرض على الدولة أن تستغني عن المعتدلين بعد القضاء على الراديكاليين، باستعمال الأصوليين ضد التقدميين، كما استعانت سابقا، على العهد البائد، بكل خصوم الدمقراطيين والتقدميين من اجل اخلاء الجامعة من الفكر النقدي وحامليه، وأذكر أنه في 24 ابريل من سنة1981; بكلية الحقوق وفي اطار أوطم كنا بصدد تخليد الذكرى الثانية لاستشهاد محمد كرينة، عمدت ادارة الحي الجامعي الى إيواء وإطعام ما يزيد عن أربعين فردا، أغلبهم ينتمون لنقابة طلابية حزبية ( ا.ع.ط.م ) ، مدعومين من قبل فلول الشبيبة الاسلامية، وعناصر الأمن السري والأواكس، عمدوا الى الهجوم على مناضلي أوط م بالعصي والأسلحة البيضاء ممزقين ملصقات التعاضدية وصور الشهيد واقاموا محلها صورا لفقيد حزب الاستقلال عبد العزيز بن دريس، المتوفى في نفس التاريخ منذ الستينيات في تاحناوت، وقد أصبنا جميعا بجروح وكسور، ولولا طلبة الفوج الأول /السنة الأولى قانون الذي يفوق عددهم الخمسمائة وطلبة السنة الثانية قانون، أغلبهم من أصدقاء الدراسة الثانوية والحركة التلاميذية والذين كنت ممثلهم في التعاضدية (وفي لجنة القسم كان يمثلهم محمد ظريف و ع. حمي الدين مسؤول أمني كبير حاليا )، والذين طردوهم من الكلية، لأزهقت الأرواح، وقررنا الا نتقدم بأية شكاية، وعلى عكس ذلك نشرت جريدة العلم بالبند العريض ،،،،حرية الفكر تتعرض للقمع بكلية الحقوق، على صفحات تلك الجريدة التي ستظل مع ذلك، غراء.
لقد كنا واعين بخطورة الاستفزاز وعواقب التجاوب السلبي معه، وفوتنا فرصة الإجهاز على المكتسبات بتفادي الانجرار نحو الفخاخ ، وأصدرنا بيانا ندين فيه تواطئ التحالف الطبقي الحاكم آنذاك اليمين الإداري ووزارة عزالدين العراقي المكلفة بالتعليم، المعينة منذ، تحليق رؤوس المعلمات، بقرار شهير لعراب المرحلة الصدر الأعظم، عقابا لهن على ممارستهن للإضراب، يومي 10و 11 ابريل 1979، دعت له الكدش، وخلال هذه الفترة القمعية كان الشهيد محمد كرينة حيا و قيد الاعتقال منذ 30 مارس، على خلفية مشاركته في مظاهرة يوم الأرض الفليسطينية، والتي دعت لها الكدش، قبل أن يستشهد جراء آثار التعذيب الوحشي وهو في طريقه إلى المحكمة .