اختار الأستاذ والمحامي، مصطفى المنوزي وهو من عائلة معروفة بمنطقة تافراوت، عائلة مقاومة للاستعمار الفرنسي ومناضلة في سنوات الجمر والرصاص بالمغرب، أن يكتب يوميات “الحبس الاختياري”.
مؤسس “المنتدي المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف”رئيس “المركز المغربي للديموقراطية والأمن” وأمين عام شبكة “أمان لتأهيل ضحايا التعذيب والدفاع عن حقوق الإنسان”، ورئيس “أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي” وعدد من التنظيمات الحقوقية والجمعوية، اختار أن يتعامل مع حالة “الطوارئ الصحية” التي أعلنت بالمغرب لمواجهة تفشي وباء فيروس “كورونا” المستجد، بتدوين يومياته في “الحجر الصحي” على شكل حلقات متتالية..
(الحلقة 38)
(في ذكرى رحيل والدي الأبي مهندس حبي وانعتاقي )
أنا الآن في سني الستين ونصف السنة، مخضرم كشعر ابن تابث وهجين كمطلب الاستقلال، عصي عن النمو في ظل زحف الخراب، جايلت الزعامات والنعامات وأهل النعمة والعضلات، وأهل العصمة والخطبة والنقمة، صادفت في مساري كل الأشواك و الأزهار والأحلام، إلا شقائق النعمان وسعادة الإنسان، قضيت عمري بين الشوارع والكوابيس والمعابر وزيارة المقابر، عانقت الصور والشعارات والصراخ والغبار، استنشقت دون الحرية عرق الكادحين و عرق النساء دون عرق سوس وصما، الشافي لمسخ ثقافي وبهتان انتخابي، فقدت الأحبة في المسار وبين المنعرجات يأبى الأمل الانبثاق بين ثنايا مساحيق عافها القناع وقانون الزمان، هذه خلاصة «عينة» من عقد ولادة، تؤرخ انتحالا لسيرة حررت مصيرها بويضة مخاض أمي كلثوم خصبتها نطفة أبي أحمد في جنبات ما.
منذ ذاكرة تشييد سيدي عثمان، قيدونا في كناش الحالة المدنية ونحن احرار في وضعية ظلت مزرية، هم أصحاب الوقت، من دار الخليفة الى بلاط الخلافة، ونحن مالكو الزمان، هم أصحاب الحال ونحن مالكو البدل، هم متخصصون في النحو ونحن متدرجون في الاتجاه، هم إنا عكسنا ونحن إنا أتبثنا، هم هم ونحن نحن، هم رواية ونحن تاريخ، هم جمع قلة ونحن مفرد كثرة، هم البحر ونحن النهر، هم المياه ونحن الماء، هم الفصل ونحن الأصل، هم الانفصال ونحن الاتصال، هم الانفعال ونحن التفاعل، هم الأمة و نحن الأوطان، هم المسار ونحن المسير، هم هم ونحن نحن، يملكون السبحة و المصباح، ونحن علاء الدين والفانوس، هم مين واحنا مين، هم الملائكة والشياطين، ونحن الرعية المواطنين، هم القدر والضرورة، ونحن تاريخ السيرورة وجغرافية الصيرورة.
نحن كنحن، انا ووالدي، مات ابي وها أنا ذا، ترك الجلباب ولبست الجلد، ترك الوصية لكل معلوم، وأنا المغمور ابن كلثوم، وتحضرني تسجيلي في مدرسة موسى ناحون العمومية (العبرية سابقا ) مدرسة الكندي حاليا؛ سألوا ياسمين، زوجة الحسين المنوزي سابقا، عن اسم والدي فأجابت المنوزي أحمد، فقاطعت بعفوية وبراءة صارخا “أ للا سي حماد”، وكأني أخشى تزوير نسب او تبديد هوية. رباني على حب الوطن واحترام الشرفاء، ونصحني بحمل السلاح في أي كفاح، ربما يعتقد، كما المناضل سباطة، بأن السلاح وسيلة لبلوغ سن الرشد، ومن لايملك سلاحا عليه ان يحمل المعرفة مشعلا او الحب جسورا نحو الأفق ، غير حاقد إلا على وضعه المزري، ليس كرها أو انتقاما، كان متصالحا مع ذاته وتركني أتصالح مع الوطن.
لذلك لست ماكرا تجاه السلطة ولا تجاه حلفائي الموضوعيين، لأن الله خير الماكرين، لست ذكيا بالقدر الكافي لأخوض معارك الرياء أو البراء تجاه الجميع، حاولت مرارا أن أتعايش مع واقعي ببساطة وتواضع، أنطلق من البسيط كي أبلغ الواقعية الإيجابية / المعقدة، كالسهل الممتنع، وما التواضع سوى جسر بيداغوجي لتبليغ رسائل الإعتدال إلى من يهمه الأمر، نسبة إلى العدالة كإنصاف وبمنطق الإصلاح المتدرج لتحقيق الممكن، في ظل ظرفية بنيوية يحكمها القول المأثور «كما تكونوا يولى عليكم».
فالدولة ترهن الوطن لسراب العولمة باسم أن العالم صار قرية صغيرة، وبتحويل المتروبول العالمي المهيمن إلى «شيخ» للقبيلة العالمية، لتظل المقاولة الوطنية والنخبة الموالية مجرد شاعر لتلك القبيلة، يغزل قوافي الخضوع والتبرير التاريخي لواقع التخلف القدري ولا يسع المجتمعات الوطنية إلا أن تمتثل للجبرية المحتومة، لهذا يصعب علي أن «أنتحر» طبقيا بنفس القدر الذي لا أقوى على الإرتقاء إجتماعيا، فلست من أشباه المثقفين ولا من «اللوبن» بروليتاريا، وعقيدتي لن تسمح لي بتحويل الإنتظارات إلى حطب، ولا استعمال دموع المظلومين لإطفاء حماس الفقراء إلى السلطة.
كل ما يهم في هذا الصدد هو تصفية البيئة والمحيط من كل التوترات التي تحول دون تواصل التدبير السلمي للصراع وبمرجعيات تعاقدية والتزامات تبادلية صريحة، قد يتماهى فيه ماهو مطلبي بماهو ثقافي استراتيجية ولكن بمقاربة حقوقية مؤطرة بالزمن الإجتماعي، فرغم التردد والإرتباك الحاصل، سنواصل رأب الصدع، ضمن آجال معقولة، حتى لا يتحول الإستثناء إلى قاعدة، والتكتيك إلى استرتيجية، فكثير منا ينتابه الإحباط ويغريه التيه الذهني، وذلك لأنه تصدق عليه حكمة أمازيغية / سوسية «آري سيكيل إسگني ماني إكششم، تكشمت تزيكرت» وبالعربية « يبحث المخيط/ الإبرة عن جسم يدخله، فإذا بالخيط يقتحم خرمه» ، وبيت القصيد هو أنه ينبغي الحذر من مقتضيات حكم الآلهة الإغريقية التي خلفت لنا « أسطورة سيزيف».
ألا يمكنني أن أصير فارس قصائد مغامراتكم البطولية أو الغرامية حتى! أم لابد أن نخط مصيرنا بكفنا ترنيمة لوعي عشقي خام سيظل يتشكل، فأغلبنا قد يحب الوطن، وهذا لا يعشق مواطنيه إلا لمن شهد له التاريخ بتضحياته قربانا، لتبقى الشهادة محل ري بالعرق أو الدماء لا فرق، عقد قران كاثوليكي لايقبل الشقاق أو الطلاق. فهل يعقل أن يكون الوطن متعددا؟ هو سفر الهوى فياتجاه واحد حيث الإياب محظور، وفق شريعة غير المتعاقدين، تكرس حالة إذعان لهيام هلامي المعشوق. لست أعني شخصا بعينه في جميع خواطر غير «العلمية» بالضرورة.
ولكن قد أعني شخصي أو فردا من «قبيلتي» الفكرية أو تيارا بعينه داخل عشيرتي السياسية، قد أقصد المخاض أو الطست أو الحضن أو الفضاء او الزمن أو المسار أو السبيل أو لاشيء بمحتوى محسوس ومضمون ملموس، زئبق بين الهواء والهوى، والخلاصة أنا ضحية حب سما وفريسة عصف عصبي قطع مع التردد، وصار العش يتوزعه ثلاثة بعد إثنين، دون أن ينشطر الحب وفق قاعدة لكل حسب استحقاقه او لكل حسب حاجته، بل لكل عطائه وسخائه، لذا فعندما يتوقف نبض الفؤاد تجاه من كنا نحبه ويحبنا ذات زمان، نتسرع إلى لوم الذات إلى حد الجلد، دون أن نسائل الزمن الذي حال دون صمود العواطف «قسريا»، ضدا على قانون الهوى والميول، وفي الاتجاه المعاكس للوفاء الإجباري الذي يقتضيه العرف والتعاقد ، لذلك فالحب يعد من أعقد المسائل التي يصعب المغامرة فيه بالتقييم الموضوعي/ أي من خارج الذوات المعنية به والمشحونة بتداعيات تشكلاته وانفصاماته،.
فالحب مركزي في أي علاقة بين طرفين، من هنا يطرح السؤال حول دور مؤسسة الزواج، هل هي إطار لتأطير الحب وتدبير تموجاته، أم هو صك تحفيظ وتأبيد له، أي هل هو أداة للتوثيق أم هو ميثاق لجعله أوثق إلى الأبد؟ لست هنا بصدد محاولة «زعزعة» عقيدة العاشقين ولا الإخلال بنظام مؤسسة الزواج، لأني أعتقد بأن الحب واقعة إنسانية، وفي تراكمها تصير وقائع مجتمعية، وقد عايش أغلبنا صداقات بمقاربة النوع الإجتماعي، وبعضنا زعم استنفاذ شروط الثورة الثقافية وكأن الرباط أبدي، وبعضنا تريث، وكنت ضمن من يحبذ الدخول من أبواب البيوت، حرصت تمثلاتي على اكون أصوليا، فعلاقة الطريق إذا تماهت مع حب الصديق، يطرح سؤال الخيار بين العشيق والرفيق، كنت أملك جوابا قسريا، فهل كنت صائبا ؟
لست نادما بنفس قدر فشل مشروعنا العام والخاص، و لكن بحجم عدم نضجنا لتمثل بعضنا للعلاقات، فالحرية لا يمكن أن تتعارض مع النظام العام، والحب ليس نزوة، بل نضال، ليس بمعنى زواج متعة او جهاد نكاح، الحب تعاقد لا ينقصه سوى توثيقه، فهو كالزواج مؤسسة قانونية، قد يكون مصدر التشريع لها العرف أو الدين أو الرضى الحر أو الأخلاق، أنا هنا، عبر هذا الهذيان «الربيعي»، رغم أن لقيم الحب هذه الأيام ملامح خريفية، سببها التسييس المفرط لكل المعاملات والتحليلات المقرونة باختلاق الخلفيات، عبر هذا التيه الذهني أبعث رسالة إلى كل العاشقين والعاشقات، أن عليهم وعليهن بذل مجهود فكري كبير، عند التأمل في حالات نجاح أو فشل علاقات عاطفية ما، النظر من زاوية الاستفادة من التجارب، خاصة إذا تعلق الأمر بتجارب تمخضت عن معمعان و ظرفيات تبلورت ضمن سياقات أطرها «احتكاك ومخاض نضالي».
فالخلاصة الأولية التي أساهم بها لفائدة الشباب، في أفق تعميق النقاش، هو أن النسبية تقتضي الاحتراز عند الحكم على العلاقات من زاوية مدى الانسجام الفكري أو السياسي، لأن الاختلاف سيظل يداري حساسية «التفاهم» الذي يقتضيه التعايش العاطفي، باعتبار أنه لا تطابق ولا تماثل في “الأذواق المبدئية” والاختيارات الكبرى، هو حق مضمون والمهم أن لا يغرينا الزمن السياسي ويدفعنا إلى التعسف في استعماله، ولأن الحب هو عنوان أرقى وأنبل أشكال «الصراع»، فهذه المرحلة الوجدانية السامية، تستحق منا أفضل وأجود التضحيات، ولو باسم ما يسمى في قانون الحرب حتى، بالتنازل الإيجابي، لفائدة الحبيب وما تولد عنه من أنوية وارهاصات عشق للحياة والأسرة والحياة والذات كجزء من الاختيارات العظمى، والتي بدون أخلاق العناية كقيمة مؤسسة لما يسمى بسوسيولوجيا الوفاء، لا معنى لها ولا طعم، ولو أنه ليس هناك نزعة «إرادوية» من أجل الوفاء، فهو فطري يصقله الزمن الإجتماعي، ويتحول بالعقل والممارسة، من تلقائي إلى مؤسس ومؤطر ومقنن لكل النزوات العابرة للحظات.
لذلك فإن كنت ثمرة عشق الوالدين، فما يؤرقني هو مصير شجرتي “المحتوم” في زمن رديء وطن غابته تعاني أشجاره من خريف متردد و ربيع مهرب، تغمرها الحيرة بين الاصطفاف في سوق الخشب، لغة للبيع أو حطب للمقايضة، وبين الاستمرار في الإثمار أوراقا أو فواكه بشرية تختبر قضاءها، حبا للوطن أو حبا للسلطة، أجسادا “”ترابط في ممر ضيق بين الخيانة والأمانة فاحذروا”” عشق القدر أو الفشل القدري، فلن نعيش إلا المكتوب الذي حررناه بدمنا وبروزناه بشرايين قلبنا، لأن الحب نور كالفكر المستنير مبدؤه التفاؤل ومنتهاه التفاؤل، قد أصاب من قال في البدء كان الحب، فهلموا نولد النهايات بدايات .
توقيع : ابن كلثوم سبط السيرورة والصيرورة