اختار الأستاذ والمحامي، مصطفى المنوزي وهو من عائلة معروفة بمنطقة تافراوت، عائلة مقاومة للاستعمار الفرنسي ومناضلة في سنوات الجمر والرصاص بالمغرب، أن يكتب يوميات “الحبس الاختياري”.
مؤسس “المنتدي المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف”رئيس “المركز المغربي للديموقراطية والأمن” وأمين عام شبكة “أمان لتأهيل ضحايا التعذيب والدفاع عن حقوق الإنسان”، ورئيس “أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي” وعدد من التنظيمات الحقوقية والجمعوية، اختار أن يتعامل مع حالة “الطوارئ الصحية” التي أعلنت بالمغرب لمواجهة تفشي وباء فيروس “كورونا” المستجد، بتدوين يومياته في “الحجر الصحي” على شكل حلقات متتالية..
(الحلقة 39)
عدد من الأصدقاء يسألون عن موقعي الحزبي خلال الفترة التي تناولتها في الحلقات السابقة، وأنا مرة أخرى أؤكد بأن زاوية النظر التي أعالج بها حيثيات ذاكرتي يضبطها الموقع الحزبي الذي هو الاتحاد الاش للقوات الشعبية، وبالضبط في “الزاوية” التي مريدوها يتشبتون باستراتيجية الحزب في حلته الجديدة، منذ إعادة التأسيس في 25 يناير 1975، سواء تعلق الأمر بالتقرير الايديولوجي، المطلوب تحيينه في ضوء راهن الظرفية، أو أدبيات المؤتمر الوطني الثالث، خاصة البيان العام الصادر عنه.
إذن وجهة نظري تتأثر بسياق كل لحظة أوثقها، نظرا لتباين كل مرحلة عن أخرى، فالتنظيم الذي أشرفنا على تأسيسه او تجديده، من داخل الحزب طبعا، تختلف المقاربة التي سوغناها كمكتب جديد نوعيا عن سابقاتها، صحيح أننا لم نحدث القطيعة مع بعض المناضلين، غير أننا حافظنا على نوع من التواصل “التاريخي” في صيغة قطائع “صغيرة” تهم بالأساس البنية التنظيمية. وما يهمنا هو الوقائع وليس المواقع، رغم ان اصطفافنا كان دائما على يسار القيادة مالكة الأجهزة التدبيرية، وكانت المرحلة الحرجة في تاريخ الحزب هي التي عشتها، منذ التحاقي (رسميا ) سنة 1979، وكان البعض يعتبرونني، وعن خطأ في التقدير، خلفا لصلاح الدين المنوزي الذي كان أمينا للمال في المكتب الإقليمي السابق والمطرود.
والحال أنه لا تماثل بين البشر، في نفس السنة، قبل التحاقي. لقد غيرنا المقاربة وشكل ومحتوى الصراع، فرغم أننا احتفظنا بنفس نقط جدول الأعمال القديم، ولكن كمضمون كانت الأولوية تولى للتكوين، وقد أسعفتنا التحولات العالمية من يناير 1979 إلى يناير 1984. وهي فترة أطرت إنشغالنا وأثرت على ديناميتنا، من خلال الوقائع التي حصلت، انطلاقا من تداعيات المؤتمر الوطني الثالث المنعقد في دجنبر 1978، وبروز ارهاصات الصراع داخل اللجنة الادارية الوطنية المنبثقة عن المؤتمر، وعلى الخصوص ما جرى، لاحقا، إثر واقعة تهريب البيان العام، ثم تأثر المشهد الوطني السياسي بجميع اطيافه بصدى الثورة الايرانية التي وقعت يوم 11 فبراير 1979، فاضرابات 10 و 11 ابريل 79 ، وقبلها 30 مارس التظاهرة التضامنية مع الشعب الفلسطيني التي دعت لها الكدش بمناسبة ذكرى يوم الأرض، والتي شارك فيها المناضلون واعتقلوا ومن بينهم الشهيد محمد كيرينا، وتعرض بسببها للتعذيب واستشهد يوم 24 ابريل، ثم قرار اللجنة المركزية للحزب القاضي بانسحاب جميع الاتحاديين من المؤسسات المنتخبة، جماعات ترابية او برلمان احتجاجا على القمع الذي تعرض له الكنفدراليون.
فالمؤتمر الوطني 16 لأوطم، وكثير من الوقائع التي سبق ان لمحت لها او أشرت اليها في الحلقات السابقة، غير ان اهم الأحداث التي كان لها وقع هو ما جرى من أحداث ذات الصلة بقضيتنا الفلسطينية الوطنية، وما وازاها من خيانات وتسويات وانتهاكات جسيمة في حق مكونات منظمة التحرير الفلسطينية، وأفظعها المذابح التي طالت المخيمات في لبنان، ورغم المآسي والمعاناة السوداء، بسبب تداعيات كامب دايفيد وبسبب الحرب الأهلية وحصار بيروت وانسحاب منظمة التحرير الفلسطينية، وتوجت بمجزرة صبرا وشاتيلا في 16 شتنبر 1982 ودامت ثلاثة أيام، والتي كانت صدمة قاسية في حقنا ونحن آنذاك رهن الاعتقال بالسجن المدني بعين البرجة، ذات صيف قائض؛ وقد ساورنا شعور خاص، وتمنينا لو كنا أحرارا لتطوعنا تضامنا ودفاعا عن الكرامة، و كان عزاؤنا هو صحوة الفكر التنويري والتقدمي، حيث كنا كشبيبة نمتح من فكر حسين مروة وكريم مروة ومهدي عامل وآخرون، وطبعا كل الأدبيات والمؤلفات والمجلات، التي كانت تصدر عن الحركة الوطنية والتقدمية والشيوعية اللبنانية والفليسطينية.
وكانت “بيروت المساء و الحرية و الهدف والطريق و في المغرب صدرت مجلات فكرية كالجسور والبديل وكلمة والمقدمة والزمان المغربي ناهيك عن عودة آفاق وأقلام ولاماليف، دون أن ننسى الدور الريادي لجريدة أنوال، مديرها عبد االطيف عواد، التي تأسست بتاريخ 15 نونبر 1979 الموافق لذكرى صدور ظهائر الحريات العامة، وخاصة لحد حظر جريدة المحرر إثر انتفاضة 20يونيه 1981″، وأغلب تلك المنشورات سوف تتعرض للمنع من قبل إدريس البصري، وقد سبق أن فكرنا في دينامية لجبر الضرر الثقافي باقتراح من بعض المناضلين من بينهم الاستاذ الزين فتاح، ودون أن نتجاهل التحول الفني والأدبي، فرقة مسرح حكواتي الفلسطينية، ونادي العمل السينمائي الذي دشن رجوعه انطلاقا من سينما الأمل بشارع الفداء، بعد ان كان سابقا يشتغل بسينما الصحراء بعين الشق، ومعه جمعية الأمل الثقافية والغنائية بدار الشباب بوشتنتوف.
وانتعشت الساحة الفنية المغربية بالأغاني الملتزمة والروايات والدواوين الشعرية خبز الشباب اليومي، وكلنا كنا متواطئين في تهريب الممنوعات، ناهيك عن منتوج المعتقلين السياسيين بالمغرب، والتي لعبت دورا أساسيا، كموحد جماعي، يطلق ويؤطر النقاش “المنغلق” على علته.
وأظن أن الظرفية رغم ما رافقها من قلق فكري وغضب جماهيري، كانت فرصة لاسترجاع النفس الفكري والحماس الشبابي الذي بمقتضاه تمت عملية التأهيل التنظيمي الحازم والصارم، مستلهمين من ظلال المذكرة التنظيمية لعمر بنجلون الشهيد؛ وارتفع مستوى الصراع على أساس من الوضوح السياسي والفكري، ما عدا بعض التشويش الذي طال علاقة بعضنا بجريدة “الاختيار الثوري” والتي حاول البعض من قدمائنا يائسا ركوب الصحوة التنظيمية والصفاءالسياسي، وذلك بتحويل العلاقة مع ذلك المنبر الإشعاعي إلى عملية تعاون تنسيقي ثم ترسيم التجسير التنظيمي قبل أن تتضح الحقيقة لاحقا، بعد واقعة ثامن ماي وتداعياتها والتي ستتوج بالتحاق تنظيم الاختيار الثوري، بعد أن حل نفسه، بمشروع “الحركة التصحيحية” بقيادة ما كان يسمى بالاتحاد الاشتراكي/ اللجنة الإدارية.
وكان صدور جريدة “المسار”، مديرها أحمد بنجلون يوم فاتح ماي 1985 بمثابة إعلان عن إنطلاقة إعلامية وكلسان حال التنظيم الأخير، في حين كان قد صدر الأول من جريدة “الاتحاد الإشتراكي”، مديرها محمد البريني، في فاتح ماي 1983، وتلك قصة أخرى لنا معها عودة .