اختار الأستاذ والمحامي، مصطفى المنوزي وهو من عائلة معروفة بمنطقة تافراوت، عائلة مقاومة للاستعمار الفرنسي ومناضلة في سنوات الجمر والرصاص بالمغرب، أن يكتب يوميات “الحبس الاختياري”.
مؤسس “المنتدي المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف”رئيس “المركز المغربي للديموقراطية والأمن” وأمين عام شبكة “أمان لتأهيل ضحايا التعذيب والدفاع عن حقوق الإنسان”، ورئيس “أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي” وعدد من التنظيمات الحقوقية والجمعوية، اختار أن يتعامل مع حالة “الطوارئ الصحية” التي أعلنت بالمغرب لمواجهة تفشي وباء فيروس “كورونا” المستجد، بتدوين يومياته في “الحجر الصحي” على شكل حلقات متتالية..
(الحلقة 40)
وطنيون مغاربة تمسكوا بغربتهم، خارج وطنهم دون أن ينتابهم شعور بالاغتراب، لذلك صمدوا حتى لا يمزقوا، قسرا، جواز سفرهم المعمد بدماء القربان، وكالة عن هويتهم المهددة بالمصادرة، هي حالة عاش من خلال ظلالها الرمادية وأوقاعها القاسية، كل من أخي بوبكر بن أحمد المنوزي ورشيد علي المنوزي وابن عم والدي إبراهيم بن عبدالله المنوزي وكذا الفقيد خالي بلعيد كنعر في منفاهم “الإضطراري”.
لقد تعمدت وضع وصف المنفى بين ظفرين، لأن الوضعية التي كانت تطوق حياتهم وضمنها حريتهم، تترنح بقساوة شديدة وتتدحرج من حالة كفاحية الى حالة نفسية عالية الضغط، لجوؤهم كان لأسباب أمنية قبل أن يكون سياسيا، لذلك حولوا منفاهم من اضطراري إلى إختياري، ليس بمعنى تمثلهم للإختيار الثوري كوثيقة مذهبية صاغها المهدي بنبركة كمشروع تقرير مذهبي لفائدة المؤتمر الوطني الثاني، في حين تمت التقرير المذهبي الراحل عبد الله إبراهيم، ولا بمعنى الانتماء للتنظيم الاختياري بزعامة محمد الفقيه البصري، بل إنهم قبلوا بالأمر الواقع عن طواعية وحرية الإختيار، مع التأكيد أن السببين معا يعدان من باب تحصيل الحاصل، فهم قرروا تحويل المنفى إلى جبهة للمقاومة والتصدي للقمع في الداخل ولفك الحصار عن رفاقهم الإتحاديين في الداخل ومعتقلاته السرية والعلنية، وبذلك فنضالهم الديموقراطي السلمي يعد بمثابة تعويض عن ما يشبه حيازة جواز السفر، فهم، إلى جانب رفاقهم الذين غادروا الوطن إما نجاة من مطاردات البوليس المغربي، وإما طلبا للعمل أو اللجوء أو التدريب المسلح في بلدان المهجر والجوار.
كان همهم استكمال مشروع الفكرة الاتحادية، ليس فقط انسجاما وتفاعلا مع مأثورة “”ما لا يدرك كله لا يترك جله”” بل وفق ما يقتضيه شعرية “”ومن يبلغ الملاذ يستغني عن الجسور””، لذلك فهم لم يمزقوا قرار العودة، لأن المهجر، وإن كان قسريا أو اضطراريا فالوطن لا مفر . كان لهم، وكافة المنفبين، رأي موحد حول شذوذ ظرفية عملية عقد المؤتمر الاستثنائي، وكان الخلاف قويا مع الشهيد عمر، ولاحقا تجدد الخلاف بين بعضهم وشقيقه الذي تمسك بجناح الباز الحر دون الآخر، طبعا، لا عمر ولا غيره، مجرد مخاطبين، رغما عن المسؤولية المعنوية، والتي تمتد إلى ما هو سياسي، غير أن المسؤولية لم يعد لها محل ولا أثر، فالاختيار الثوري رحل ومعه من له كل قرابة ونسب، أدى الجميع الكلفة باهضة، فقد أعدم ابراهيم المنوزي واختطف الحسين من تونس وظل مصيره مجهولا، ونفذ أفراد العائلة عقوبات قاسية جملة أو بالتقسيط، وضاعت البوصلة بين دروب الانشقاقات، وكلما انعقدت محطة حزبية وإلا و أقصي عضو ما أو استؤصل طرف مهم من الجسد، فتبعثرت عبارة الحركة الاتحادية كما حروف هوية “و ز ا ن”، الشهيد الكرسيفي، بلا قبر ولا شهادة حياة. هذا نموذج فقط وعينة لإحدى العائلات الاستثنائية، كما يحلو للصحافي لحسن العسيبي ابن المناضل عبد الله العسيبي رفيق شيخ العرب في السلاح وعمر بنجلون في الكفاح.
ذات مرة سألتني صديقة من تونس، كرئيس للمنتدى المغربي من اجل الحقيقة والإنصاف، عن العدد التقريبي لضحايا سنوات الرصاص، قلت لها بأن الإجابة تصعب، لأن كل المغاربة ضحايا النظام السياسي، بمن فيهم الجلادين الحقيقيين والمفترضين، من موظفين ومستشارين، ناهيك عن المناطق والشجر والحجر، كما ان للأحزاب والأشخاص حقهم من المسؤولية، فباستثناء “عناية” عبد الرحمان اليوسفي بطريقته الخاصة بملف المهدي بنبركة، منذ أن كان محاميا في القضية، وباستثناء تقصيه عن مصير كل المختطف، الحسين المنوزي ، وبلقاسم وزان المختطف من السجن المركزي بالقنيطرة، مباشرة بعد الحكم عليه بالبراءة، والذي باشره مع الراحل الحسن، وبعد شهور قدم له جواب سلبي بالوفاة.
وكذلك باستثناء السؤال الذي قدمه ادريس لشكر، يوم كان برلمانيا، عن مصير الحسين؛ فإن ما يصدق على المناضلين المختطفين المجهولي المصير هو عبارة بالأمازيغية “آستوكان آوين إيماتسن” أي “لهم فقط أن يحملوها (الواقعة أو المصيبة ) إلى والدتهم”.
مما يجعلنا كضحايا وكذوي حقوق الضحايا، وكمسؤول عن تدبير مقتضيات ومسار معالجة الانتهاكات الجسيمة، نشعر، بين الفينة والأخرى، بأنه تغزونا أفكار سوداوية وتطوق تفاؤلنا، ونخال أن تردد الدولة ولد معها، رغم القوة و العصبية التي رافقت الانقلابات التأسيسية لكل مرحلة، هي تهيؤات موازية لدور الاحزاب “الوطنية” التي انشطر همها الى إرتباك وغرور التموقع في صيغة تدبير مفوض لمظاهر الاستبداد، ولأن سؤال حامل المشعل لا يطرح بنفس قدر الحاجة الى صمود سياسي يعضد الطموح بواجب الاستمرارية، وتخليد المطالب الأساسية من تحرر ودمقراطية وعدالة اجتماعية، ليظل الوضع منشغلا بتوجس لا نهائي، وبحكم فوضى التناقضات وسوء ترتيبها، يتدفق سؤال القيادة والمرافقة، وفوق كل جبرية سياسية لا يسعني الا البوح، كما القدر، بأنني لا أستطيع التخلص من ضغط الإرهاب الفكري، وأنا الضحية، وأحيانا كضحية الضحايا، فلا خصومة واضحة ولا مقاربة صريحة في تميزها السياسي أو اختلافها الفكري أوالمذهبي. وكلما دخلت المنافسة حول مسؤولية إلا وتحول الرحاب حلبة، والمجال وغى.
ومهما تحرر من بعض المنابر من حيث المسؤولية فلم ولن يتخلص من تداعيات الذكرى الموشومة بهزائم في المشترك لماض لا يريد ان يمضي. لذلك يفضل المرء تسريع وتيرة العمر الإفتراضي بتمني تقاعد مريح، رغم أن الزمن الاجتماعي يفرض عليك الالتزام باستنفاذ الرسالة تحت طائلة اتهامك بالانهزامية والانتحار قبل الأوان تحت أعواد مشنقة زمن الجحود والردة.