اختار الأستاذ والمحامي، مصطفى المنوزي وهو من عائلة معروفة بمنطقة تافراوت، عائلة مقاومة للاستعمار الفرنسي ومناضلة في سنوات الجمر والرصاص بالمغرب، أن يكتب يوميات “الحبس الاختياري”.
مؤسس “المنتدي المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف”رئيس “المركز المغربي للديموقراطية والأمن” وأمين عام شبكة “أمان لتأهيل ضحايا التعذيب والدفاع عن حقوق الإنسان”، ورئيس “أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي” وعدد من التنظيمات الحقوقية والجمعوية، اختار أن يتعامل مع حالة “الطوارئ الصحية” التي أعلنت بالمغرب لمواجهة تفشي وباء فيروس “كورونا” المستجد، بتدوين يومياته في “الحجر الصحي” على شكل حلقات متتالية..
(الحلقة 41)
سيظل اليوم، 24 نيسان أعظم يوم في تاريخي الشخصي، خاص بالاحتفاء بأبي أحمد المنوزي وبعدم النسيان، لذلك حرصت على أن يكون قبره بمقبرة الغفران حاملا لعدد 24/4، بعد أن تعمدت التنازل لذوي متوفية عن أسبقية الدفن، وقد سبق لي أن تعمدت إيداع طلب تسجيلي بجدول المحامين بهيأة أكادير عشية سابع ماي لكي يبث المجلس في طلبي ويسجلني بتاريخ 8 ماي 1990، لكي اخلذ تاريخ بداية الانشقاق الاتحادي العظيم، رغم أنني أديت القسم بتاريخ 2 نونبر 1987، وهو يوم يطابق التاريخ الذي كان متداولا ( قبل معرفة بعض الحقائق لاحقا) بأنه تاريخ إختطاف الحسين المنوزي من تونس سنة 1972 ؛ فحسب تقرير المخابرات فيوم 29 أكتوبر هو تاريخ اختطافه المطابق ليوم اختطاف المهدي بنبركة سنة 1965.
وعندما تقدمت بشكاية إلى الوكيل العام لدى محكمة الإستئناف بالرباط تروم الكشف عن مصير الحسين والتحفظ على المعتقل السري النقطة التابثة 3، اخترت يوم 13 دجنبر 2010 وهو نفس اليوم الذي ولدت فيه نجلتي نور ألين. لذلك فذكرى رحيله تصادف ذكرى استشهاد المناضل محمد كرينة 24 ابريل 1979. صحيح ينتابني الخوف من تماهي المشاعر، لكن كنت منذ رحيل عريس الشبيبة الاتحادية اعتبر أنه ناب عنا بتسديد الوجيبة الضريبية لتلك السنة، وهو المزداد في نفس عام ميلادي، 1959، وهو يوافق سنة ميلاد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من رحم حزب الاستقلال.
إنها ذكرى بعمق انطولوجي وببعد تحرري وتقدمي، يتجدد بمقتضاه العهد بمواصلة توصيات وثائق المطالبات بالاستقلال، وهي ذكريات مندمجة في عنوان واحد ويوم واحد، بتعددية الغايات والرسالات النبيلة، وفي تماهيها تعيد إلى ذهني وقائع متناغمة؛ كنت، ومعي الفكرة الاتحادية، موضوعا لها دون أن أساهم فيه، تأسيسا وتوليدا أقصد، وفيما يخصني جاد الزمن البيولوجي بنطفة منذ انبثقت من فؤاده وخصبها رحم والدتي، فأمي تعقلت نفسها، كما في نظرية الفيض لدى الفارابي، فتولد جسم غريب يئن منذ مسقط رأسي، في طست المعاناة، عاش مختارا في كنف المهد، يشق له الغبار نحو مصير حده النصر أو كفن اللحد. فكان أنا، طفل بحجم العمر الافتراضي يحمل أرقام زمن اجتماعي؛ سيصير كهلا على قدر عزيمة طموح يتشكل عبر عقود كالوطن الممكن، مطردة هكذا ( 1959، 69 ،79، 89، ….) ، متعايش مع قدره المحتوم، في وطن مطره عبرات التكلى وأنين يتم الكبار، هو الآن أحمد في السماء، وانا حاليا وليس غدا مصطفى في الأرض، لكن لسنا أنبياء ولا رسل، إنما حملنا سفرا لا زالت حروفه خاما للكتابة، تتشكل خريطة للذات أولا، ونبراسا للنفس ثانيا، ووصية للخلف الطاهر من أي سلفية أو حنين إلى ماض لا يريد ان يمضي، اعذروا دمعتي التي تحررت من مقلتي، متدفقة نحو الأفق، مكرجة على خد أيمن بنبرة يسار حزين، في سياقه وقبل سنتين وفي نفس أبريل، شهر الحقيقة المطلقة وأنا أخط مقترح مسطرة المؤتمر الخامس لمنتدى الحقيقة الذي سينعقد ذات أبريل سنة 2018، هرعت دمعة من مقلتي عندما سطرت عبارة “تقديم المكتب التنفيذي لإستقالته”، كنقطة في المسطرة، فقد شعرت وكأنني سأفقد عزيزا على القلب والروح، عزائي الوحيد هو إيماني بالتداول و التناوب، وتمثلي لمأثورة “لن نعيش زمننا وزمن غيرنا”، فليبارك القدر كل اللحظات التي فككنا فيها كفريق متضامن ومتعدد، حجرات العثرة أمام إنسياب المصداقية وبراءة الذمة، ولتكن تلك اللحظات المضيئة نبراسا ينير سيرتي ومساري وأحلامي غير المزعجة، عاش والدي عمره فقط وأجبرني على تمثل غريزة البقاء، ولم يورثني سوى العفة والأنفة والإعتداد بالذات والإعتماد على النفس؛ هكذا كنت أشعر منذ نعومة أظافري؛ فهو يؤمن بأننا نحمل في أجسادنا وعقولنا شذرات من الإنية الذاتية، ولكنه رباني بأن لا نمكنها (الذاتية) من حرية التجاوز والتطاول والغرور، كي لا تتحول إلى أنانية مفرطة، تنتج جيلا تتضخم لديه النرجسيات الفردانية، وبذلك ينبغي أن نلقح طموحنا من العنترية القاتلة للتواضع الإتيقي، كان والدي مبهورا بعبقرية عظماء ألمانيا، لكنه لم يكن يرتاح للحية الشيخ كارل ماركس، معلقة صورته في غرفتنا انا واخي العربي، لأنها في نظره غير مشذبة كلحية شيخ الإسلام محمد بالعربي العلوي، أو الشهيد المختطف (سنة 1964) بولحيا الطاطي رفيق سلاح شيخ العرب.
وكان ميالا الى التباهي بقوة هتلر، كما هو الحال بالنسبة لعديد من المقاومين، ضدا ونكاية في فرنسا المستعمرة، فهو لا يتنكر لجميل ذلك الألماني الذي توسط له في اقتناء مسدس تساعي ( بتسع رصاصات ) من مرسى البيضاء، وهو سلاح كان يعتبره وسيلة خلاص حقيقية، في حين يعتبر المعرفة مصدر رزق وعيش ووسيلة للارتقاء والنخوة والتواضع بمعناه الأخلاقي ومغزاه الإنساني، وكنت كلما قرأت، وأنا معتقل، عن الدولة كفكرة مطلقة لدى هيجل أو عن الحماقات الكبرى لدى نيتشه، إلا وحضرني وجه أبي القوي العزيمة يشجعني على “القراية”، وبحكم الإمكانيات، كان يخشى علي من “الجنون”، وكان ينصحني بضرورة الاعتدال معرفيا، فالألمان عباقرة في نظره ولكن فلسفة بولحية خطيرة على “العقول” وعلى الكينونة العظمى، ومنه تعلمت أن أمارس معتقداتي دون ان أحرض الناس على تبنيها، وكأني به قرأ لنتشه ويستوحي معالم “نباهته” من كون التاريخ يخص قبل شيء آخر، الإنسان المبدع والقوي.
كما قال نتشه؛ من هنا أجد جوابا للسؤال لماذا لست إنقلابيا بالطبع، فكرا وسياسة؛ ولكن إن قدر لي أن اكون، فسوف أنقلب على حقيقة سوسيولوجية تطوق مسارنا الكفاحي، فليس الثابت كذلك ولا هم تركوه يتحول، اللهم بالتكيف لكي يحفظوا كنهه جوهرا لا يتغير قيد انملة، وذلك بحجر العلم وإطلاق عنان الخرافة والدين والسياسة، ليحكم مصيرنا زمن دون الإجتماعي حيث تقود السياسة الثقافة، بمنطق اليقينية والإطلاق. كان والدي صديقا لي ويرفض أن تكون علاقتي بأصدقائي علاقة الشيخ بالمريد، ومن حكمته تعلمت تعلمت عبرة حكيمة مفادها انه إذا حرمت صديقك من أن يكون عداء في سباق المسافات الطويلة، فاحذر ان يصير عدوا لك في الممرات الضيقة! وهي قاعدة ستظل مأثورة في علاقتي مع رفاق الدرب النضالي أوالحياة العامة، أخشى من خلالها، كما عليهم أن يخشوا، حصول ما يحذره منه مارسيل خليفة “غضبي يرابط في ممر ضيق، بين الخيانة والأمانة، فاحذروا مني”، ومن باب الحيطة واليقظة سأظل أواجه تعسف أنانيتي بإنيتي، وتضخم هويتي بغيرتي .