ليس كل شيء يقال وليس كل شيء يعرف ولكن ليست كل الحياة أسرار، عبارات كثيرة التداول والإستعمال خاصة في زمن تنعدم فيه الحرية، فمن باب الوقاية والحماية كان مؤطرونا المباشرون او غيرهم من مؤلفي ومدوني “تجاربهم وسيرهم” ينصحون بضرورة تمثل “الكتمان” والتستر، أو من خلال كراسات “دليل المناضل”؛ فهي كالتقية لدى “الإسلاميين” ، ولست أنسى ذلك الكتيب النوعي لمحمود إسماعيل “الحركات السرية في إلاسلام” الذي استفدت منه كثيرا كمرجع للتعرف على بوادر التفكير الإسلامي وعلاقته بالسياسة وخلفياتها ، إقترانا بالصراع بين الفرق والمذاهب.
وكان سلاح التقية مجديا في تلك الصراعات الفكرية والسياسية، اتجاه كل حملات القتل المعنوي بالترهيب و التكفير والتصفيات الجسدية بدعوى الردة عن الإسلام؛ وقد تم التوافق على أن التَّقِيَّة من الفعل العربي يتقي أي يخشى كما يقول المثل العربي على سبيل المثال (اتق شر من أحسنت إليه) والتقية كمصطلح ديني هي إخفاء معتقد ما خشية الضرر المادي أو المعنوي.
ونفس الخيارات تبنتها الحركات التقدمية والشيوعية عالميا، خاصة في المغرب حيث كان العمل السري درعا واقيا لمواجهة بطش وقمع النظام السياسي، من إختطاف و اغتيال خارج نطاق القانون أوالقضاء، وكانت التقية او العمل السري يتخذان أشكالا متعددة، منها على سبيل المثال وكما حكى لي الرفيق عمر زدي بأن بعض المناضلين الماركسيين غادروا وظائفهم ودخلوا إلى السرية، ومنهم من بقي على خياره السياسي والتنظيمي لكن ظل يعمل في العلنية منتميا ظاهريا في أحد الأحزاب المعارضة المعترف بها قانونيا؛ ونفس الشيء في العمل النقابي المعترف به، وكثير من المناضلين في صف الحركة الإتحادية مارسوا الإزدواجية التنظيمية، وعلى الخصوص من كان منتميا حقيقة للاتحاد الاشتراكي وفي نفس الوقت يعلن انتماءه للإختيار الثوري من باب التزيد والتباهي بالراديكالية.
والعكس بالعكس، فهناك من كان “منظما” سريا ضمن منظمة الاختيار الثوري وظاهريا يعلن انتماءه لحزب الإتحاد، وهذا ما يؤكد بأن الإزدواجية والتقية ظلتا تلازمان العمل الحزبي، وهذا كان يتمظهر في الممارسة السياسية والتفكير وكذلك استعمال الذاكرة ضمن التأويل التاريخي للحقيقة والشرعية الثوريتين. وهذا ما سينعكس على كل المحطات التنظيمية والمراجعات المرافقة، فعمليات النقد والنقد الذاتي والتقييم لم تعرف لحد يومه ما يتطلبه الحسم السياسي والتنظيمي والوضوح الإيديولوجي من حزم وجدية، فلا زالت روح المغامرة تطبع سلوكات بعض المناضلين وخاصة بعض القياديين والرياديين حتى لا اربك قداسة بعض الزعماء، لأن عنصر الثقة لم يتراكم بما يكفي رغم التسويات ومشاريع المصالحات العابرة للأزمات، وهذا يتجلى انعكاسا من سلوكات وإرادة العقل الأمني، الذي يهندس لعمليات التكيف بدل التحول.
وإذا كانت التقية أو السرية مفيدة في حماية التنظيم من القمع؛ فإن الكثير من الاعتقالات كان سببها الإختراق، وخير مثال ما جرى بالجزائر وسوريا، وبالتالي لم تكن التقية والسرية مجدية بما يكفي؛ وتحضرني واقعة عشتها عندما كنت عضوا في تعاضدية كلية الحقوق بالدارلبيضاء، وكنائب الكاتب العام للتعاضدية كنت أتوفر على قمطرين ضمن خزانة بمقر التعاضدية، أستعمل واحد منهما لايداع وثائقي ومحاضر الإجتماع، والثاني اضع فيه نظارتي وقبعتي ومفاتيحي، وذات صباح نبهني حارس بأن فلان الفلاني دخل قبلي إلى المقر و غادر بعد ربع ساعة، وسألني إن كان عضوا معنا، دخلت على التو وفتحت المقر ثم القمطرين علني أتأكد من أن الوثائق لم يمسسها أحد؛ فوجئت بأن قمطري الثاني به منشورات تحمل اسم لمنظمة محظورة.
وبعد أيام راقبت “الأمر” فلاحظت أن نفس الشخص من يخبئ ممنوعاته في قمطري، واضطررت أن أخبر رفاقي في التعاضدية دون “حرق” الشخص صاحب الفعلة. اردت أن أشير إلى هذه الواقعة لأربطها بالتهمة التي وجهت إلينا، في كلا الاعتقالين، كاتحاديين منتمين إلى لائحة المهدي وعمر من أجل الوحدة والديموقراطيين وهي الانتماء الى “”منظمة رفاق الشهداء المنضوية تحت لواء إلى الإمام المحظورة””، وهو شرف مرعب لا أدعيه، وكذلك شرف الانتماء إلى منظمة الإختيار الثوري، وهما وصمان بمثابة ترهيب وإرهاب لازم حياتنا السياسية طيلة عقد من الزمن، فالأجهزة الاستعلاماتية والمخابراتية تستعملهما ضدنا، رغم تملكها للحقيقة “الأمنية”؛ وبالموازاة كان خصومنا السياسيين داخل نفس الحزب يبتزوننا بنفس الاتهام؛ ولكن بعد عقدين من الزمن ستتجلى الحقيقة ساطعة وسقط النقاب عن الوجوه، ولولا صمودنا لكنا لقمة سائغة في أفواه العقل الأمني، ولسقطنا فريسة “السرية” الفادحة والهشة.
وأهم خلاصة مستنتجة مما جرى هو أننا كنا ضحايا لمن يحسبون على صف الضحايا، ولأننا لا نخلط بين الألوان والتناقضات، حرصنا على دعم التقية والسرية بالتقية والكتمان، دون اعتراف او امتنان وبالأحرى إعتذار، ولو على حساب حريتنا ومصيرنا ورغم الكلفة السياسية والأمنية الباهظة، ودون أن نخدم الجلادين المفترضين ولا الحقيقيين، وهذا ما يجعلني مصرا على النضال أصالة وليس وكالة او فضالة، و على التمسك بضرورة تأمين عدم تكرار الأعطاب والانتهاكات وأداء الضريبة لأكثر من مرة، فلا يلدغ المؤمن من الجحر مرتين، كما لا يمكن ان يستحم في النهر مرتين ولو كان بركة آسنة . يتبع