اختار الأستاذ والمحامي، مصطفى المنوزي وهو من عائلة معروفة بمنطقة تافراوت، عائلة مقاومة للاستعمار الفرنسي ومناضلة في سنوات الجمر والرصاص بالمغرب، أن يكتب يوميات “الحبس الاختياري”.
مؤسس “المنتدي المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف”رئيس “المركز المغربي للديموقراطية والأمن” وأمين عام شبكة “أمان لتأهيل ضحايا التعذيب والدفاع عن حقوق الإنسان”، ورئيس “أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي” وعدد من التنظيمات الحقوقية والجمعوية، اختار أن يتعامل مع حالة “الطوارئ الصحية” التي أعلنت بالمغرب لمواجهة تفشي وباء فيروس “كورونا” المستجد، بتدوين يومياته في “الحجر الصحي” على شكل حلقات متتالية.
(الحلقة الثامنة)
عندما نريد ، نسافر من موقع الى قرار ، وحين نحاور ، نحاول احتلال مكانة في فؤاد مجاور ، لكن حين نتراخى يدوسنا الزمن بلخبطاته ، تعالوا نجود التعاقدات و نعيد عقارب الساعة الى حجمها ! “”
لن تكون خاطرتي ليومه الثامن سوى محاولة لتقييم علاقتنا مع ذواتنا كشتات لليسار ، و كحقوقيين نقارب بما تمثلناه من فلسفة واخلاق الحوار والحق في الاختلاف ، مع كل المتمنيات لبلورة مسودة تصورات او انطباعات في أفق تشكيل حد أدنى نضالي يتمثل المشترك . وكل هذا في ضوء الحرب الباردة التي اندلعت فيما بين بعض وجهات النظر ، التي تلزم اصحابها ، باعتبار أنها توجه سهام النقد في شكل أحكام ، والحال أن وجهات النظر لا تعدو أن تكون مجرد ردود فعل وانطباعات تحتمل الصواب وبنفس القدر تحتمل الخطأ.
وهذه النسبية ينبغي أن تراعي أن الجميع بصدد نقد الممارسة وليس نقض المبدأ ، هذا إذا كنا نرغب في تحصين الاصطفاف الاستراتبجي الحقيقي ؛ بعيدا عن اي ارادة للاحتظار الذاتي ؛ و إنطلاقا من أن لكل قاعدة استثناء ، وعايشنا ، خلال مسارنا السياسي ، حقيقة سوسيولوجية ، وعلى سبيل المثال لا الحصر ، وعندما عشنا منعطف المراجعات الفكرية والسياسية من قبل الحركة التقدمية ، التي تخلت عن الازدواجية التنظيمية والفكرية والسياسية ، باسم الوضوح الايديولوجي ، وتم تبني الخيار الديموقراطي بديلا للخيار الثوري ( المسلح ) ، مقابل انفراج سياسي وانفتاح نسبي من قبل القصر .
وباسم الدفاع عن الوحدة الترابية تبلورت فكرة الإجماع حول قضية الصحراء ، والذي لم يخرج عنه سوى دعاة ” تقرير المصير ” من بين الحركة الماركسية اللينينية ؛ في حين حاول القصر أن يؤسس إجماعا حوله ، كرس إعلاميا تحت يافطة الإجماع حول العرش ، وقد شذت عن هذا السياق مكونات الحركة التقدمية بالإجماع ، حصل هذا في منتصف السبعينيات ؛ وبعد واقعة الانتقال السلس من ملك الى ملك، حاول مهندسو المرحلة خلق إجماع حول الحقيقة والمصالحة ، فأجهضت الحقيقة الوطنية ولم يتم استكمالها بسبب عدم تعاون بعض الأجهزة الأمنية التي تحتكر أرشيف سنوات الرصاص المغربية وكذا ارشيف عهد الحماية ، ناهيك عدم اقتناع بعض مكونات اليسار بجدوى ” العدالة الانتقالية “.
وبذلك نكون أمام شذوذ تجاه إجماعات لم تكتمل ؛ غير أن ما يجري من أخطار محذقة هذه الأيام ، دفع جميع الدول الى اليقظة من أجل مواجهة الوباء الفتاك ، والذي لا حل له سوى تقليص حظوظ الإصابات والعدوى ، وذلك بتقليص “الاحتكاك ” الاجتماعي ، فتقررت حالة الطوارئ الصحية ، وهو قرار سيادي لا يمكن مناقشته وبالأحرى مناهضته ؛ فكل الحقوق نسبية إلا الحق المشترك في الحياة ، يصعب التواطؤ والمساومة بشأنه ، اللهم التشديد على حق أي فرد في التنازل عنه بصفة شخصية ، رغم أن التنازل عنه يعد فعلا يجرمه القانون الذي نخضع له جميعا ؛ من هنا لابد أن نعاين ترددات في العلاقة مع تمثل هذا الحق ، فهناك من يعتبر ان هذا الحق مقدس فقط في حالة إجهاض الجنين غير المرغوب فيه ؛ وهناك من يعتبر أن الحق في الحياة حق إنساني ودستوري ، وعلى اساسه ينبغي إلغاء كافة أشكال الإعدام خارجه القانون والقضاء وغيره ، وفي ذلك تنافس وسيظل يتنافس ويتصارع الحقوقيون وغيرهم ، ولكل فئة مراجعها ومرجعياتها الخاصة .
ولكن في المشترك الوطني ، وواقع الحال ، نحن في حاجة ماسة إلى تكريس إجماع وطني لا يعقل أن يدعي فيه اي كان ان له الحق في الشذوذ ، فهو حق مصيري وسيادي ، والحكم فيه هو القانون كأسمى تعبير عن إرادة الأمة . فكيف يمكن تطويق اي شذوذ افتراضي واحتواء لأي انفلات او خروج عن القاعدة ، كحق مطلق ؟
إن العقلاء منزهون عن العبث ، وأنه يفترض في الوطنيين الأحرار المنافحين عن حياة الوطن بحيواتهم فداء أنهم نزهاء في التفكير والتدبير ، وبهذه الروح لا يمكننا أن نكون أحرارا بدون عقل نقدي ، عقل لا يجامل الأصدقاء والأعداء على السواء.
فقد حان الوقت لندلي بدلونا حول مسارنا ومصير تعاقداتنا وسبل ضمان استمرارها واستقرارها ، نحن ممثلو الهيئات الحقوقية المغربية والهيئات الإنسانية ، مطلوب منا تمثل النسبية وعدم الإطلاقية ، بعيدا عن أي مثالية وهمية ، في ظل مجتمع لم يتصالح بعد مع تاريخه ومع تمثلات القطيعة مع تمثلات الحرية والنظام العام ، فليس من اليقينية ان نكون كلنا في مستوى اللحظة ، فقد يتمسك بعضنا ب” اعمل لدنياك وكأنك ستعيش ابدا ” والبعض الآخر يفضل ” واعمل لآخرتك كأنك ستموت غدا ” .
وفي انتظار ان يتم التوفيق بين الخيارين لابد من إقناع بعضنا البعض وبكل واقعية أننا أمام كارثة تهدد كياننا الدنيوي ، حقا قد ينثر بعضنا فائض الكلام المنمق حول هذا الموقف او ذاك ، لا تقييم ولا تقويم ، ويفوز بعضنا بالتنويه ان قال الحقيقة المنتجة ، والحقيقة النابعة من عقل ناقد مفيدة جدا لمن يتمثل أبعادها في منحى الاستشراف بتصحيح المغامرات والممارسات الخاطئة القاتلة ، وحقا أيضا اننا راكمنا خلاصة أساسية ، وهي أن التراخي في التعامل مع مبدأ التعددية وتدبير الاختلاف مسيء ، وكذا تجاهل أهمية احترام المشروعية (القانونية) مؤثر ، في زمن لم تعد « الشرعية النضالية » مفيدة لوحدها ، مجردة عن أهمية العمل المؤسساتي .
ثم إن الفعل الحقوقي هو فعل إصلاحي بسقف ليبرالي . ولا يمكن السقوط في تماهي الأدوار والصلاحيات ، إلى درجة يلتبس فيها الوكيل مع الأصيل ، وبالتالي يطرح سؤال التأهيل الذاتي نفسه كمطلب ملح ، في ظل تضخم المبادرات والأخطاء الفردية والتي تحفزها تحالفات « براغماتية » غير عقلانية ، تستمد شرعيتها من الحماس العابر وعلاقات « المتعة » التكتيكية ، وهذا يؤكد بأن الخلل الحاصل ليس تنظيميا محضا أوبنيويا خالصا ، بالمعنى المؤسساتي ، وانما الخلل يكمن في مدى جودة تصور مقتضيات المرحلة و تشخيص المتطلبات على المدى القصير والمتوسط . وفي نقطة علاقة الحقوقي بالسياسي، نستشعر الهوة كبيرة بين المخاطبين والمخاطبين بعدم استيعاب الآثار لكل اختيار وفرز ، ويبدو أن لسوء تدبير الأولويات وترتيب التناقضات ، من أجل بناء التحالفات موضوعيا ، أكبر وقع .
إن المسافات ضرورية من أجل خلق الثقة تجاه الإطارات ، رغم أنه ينبغي الاعتراف بنسبية الاستقلالية ، المثيرة ، كحساسية مفترضة تجاه منطق الذيلية المقابل ، تجاذبا وتنافرا ، للإلحاقية ، ثم لا ينبغي الاستهانة بطريقة التفاعل المفرط مع مطلب الجماهيرية المبالغ فيه ، إلى درجة التقديس أو التبخيس ؛ فصحيح أن تكريس البعد الاجتماعي في المقاربة الحقوقية شرط ، ولكن ليس إلى حد تضخم الحس الاقتصادي ، الذي يعد العمل النقابي وعاءه الخصب والمختص حكرا .
وفي إطار النقد والنقد الذاتي لا مناص من التذكير أن لحسن اختيار المواعيد أهميته وأثره على إنجاح الديناميات ذات التقاطع الأفقي والعرضاني ، خاصة في علاقة حقوق الإنسان مع حقوق الأوطان ، والحريات مع النظام العام ، في سياق بناء دولة الحق والقانون ، فلا يعقل تكثيف « الحالات النضالية » داخل مربع زمني قياسي ، موضوعه تحصين الحق في الحياة ، وإن ميزة دينامية الإجماع الاضطراري الموضوعي كونها فواصل واقية لكل صدام أواحتكاك منتج لمزيد من التوتر العرضاني ، فليست الدولة ، وحدها ، معنية بمطلب تصفية الأجواء ، فالفاعل المدني ملزم بفرض شروط التكييف والملاءمة في أفق التحويل والتغيير ، عبر بلورة جيل جديد من المشاريع الإصلاحية عبر عروض سياسية ، يتقدمها مطلب دمقرطة السياسة الأمنية ، التي يبدو أن مؤشر عودة السكتة القلبية وتكرار الماضي قد يلوح في الأفق إذا لم يتم الانخراط الفعلي في أوراش الحكامة الأمنية والعمل بالتفكير والنضال من أجل تمكين المفهوم الجديد للعدل من نفس الحظوظ ، لأنه بدون أمن قضائي لا معنى لأي حكامة تشريعية ولا جدوى من اي أمن قانوني ، والمشروعية هي أن يقترن الإنصاف بالإعتراف تجاه الذوات والأغيار ، في ظل فصل و توازن السلطات واستقلال بعضها عن بعض .