صحيح أن الحراك الأمازيغي في تونس بدأ فعلياً سنة 2011، مباشرة بعد ثورة يناير التي أسقطت نظام “بنعلي”، إلا أن ذلك لم يمنع الفعاليات الأمازيغية التونسية التي استطاعت خلال هذه المدة الزمنية القصيرة أن تقطع أشواطا مهمة في درب الاعتراف والإقرار بالموروث الثقافي واللغوي والحضاري والتاريخي الأمازيغي لتونس.
وصحيح أيضا أن هذا الحراك الأمازيغي في تونس لا يزال جنينيا، إلا أن ذلك لم يمنع الجمعيات الأمازيغية من فرض وجودها في الساحة التونسية عبر اقتحام الإعلام والأنشطة الثقافية والفنية وفرض الأمازيغية داخل النسيج الجمعوي والحقوقي التونسي، والدفاع والترافع بالكثير من العزيمة والإصرار على مطالب الاعتراف بالأمازيغية في هذا البلد الشمال أفريقي كمكون أساسي للهوية التونسية.
“الموروث الأمازيغي فينا” شعار اختارته “الجمعية التونسية الإنجليزية للتربية والسياحة والثقافة الاجتماعية”، لفعاليات مهرجان التراث التونسي الأمازيغي في دورته الثانية، لم يأت هذا الشعار اعتباطيا، إنما، ومن خلال ما عايشته طيلة أيام وجودي ومشاركتي في المهرجان، أدركت أن الشعار تحول إلى واقع ملموس، تشعر به في أي حديث أو نقاش مع مشارك أو مشاركة في هذا الملتقى الشمال إفريقي، الذي استطاع لمّ عدد من الباحثين والمهتمين من مختلف بلدان شمال إفريقيا وعلى مدى ثلاثة أيام حول طاولة النقاش والاحتكاك وتبادل الآراء والأفكار والتصورات والحديث عن سياقات الوضعية الأمازيغية في كل بلد من بلدان “تامزغا” على حدة.
لم يكن أحد يتوقع الانبعاث الأمازيغي في تونس بهذا الشكل الذي نشاهده اليوم، وبهذه العزيمة والإصرار على الاعتراف باللغة والثقافة الأمازيغيتين وإدراج الأمازيغية في المدارس التونسية، وهذا الوعي الأمازيغي الآخذ في الانتشار بمختلف مناطق تونس. فإذا كانت الانتفاضات الشعبية التي عمّت باقي بلدان شمال إفريقيا، وأدت إلى تغيير النظاميين التونسي والليبي ودفعت النظام المغربي والجزائري إلى تبني إصلاحات دستورية وسياسية وتغيير سياستهما تجاه القضية الأمازيغية، وساهمت تحت ضغط الشارع بمزيد من الانفتاح على الأمازيغية وصولا إلى التنصيص عليها لغة رسمية في دستور البلدين، فلها يعود الفضل (الانتفاضة الشعبية) في تفجير الوعي الأمازيغي وانبعات وعي أمازيغي متزايد وسط النساء والشباب والشيوخ في هذا البلد، والاعتزاز بالذات الأمازيغية وقيمها وثقافتها وحضارتها وتاريخها الضارب جذوره في عمق التاريخ الإنساني.
الاستثناء الأمازيغي التونسي يكمن في أن أغلب حاملي مشعل القضية الأمازيغية، نساء، يحملن مشعل الهوية والثقافة الأمازيغية ويدافعن ويترافعن في سبيل القضية بالكثير من الشجاعة والإلمام والتمكن، ومتشبعات بالقيم الحضارية والتاريخية والثقافية الأمازيغية، ولا يترددن في الاعتزاز والافتخار بالثقافة الأمازيغية “هي المكوّن الأساس للثقافة التونسية” يردّدن على مسامع من يناقشهن حول قضيتهن.
ويعود تميز الحراك الأمازيغي في تونس بالوجود الهام والفاعل للعنصر النسوي، إلى وضعية المرأة في تونس، القانونية والاجتماعية، المتسمة بحرية وإرادة ومشاركة فاعلة في المجتمع أكثر من أخواتها في المنطقة، وهذا ما كشف عنه حمد الله بالقول: “المجتمع الأمازيغي أمومي في الأصل، محوره المرأة باعتبارها حارسة القيم والتقاليد ومنشئة الأجيال”.
وتيرة الوعي الأمازيغي تتزايد، وأصبحت الأنشطة الأمازيغية بارزة، وتمكنت الفعاليات الأمازيغية التونسية التي تصر على ضرورة الاعتراف بالأمازيغية في الدستور التونسي من إعادة القضية الأمازيغية إلى الواجهة في هذا البلد المغاربي وإحداث تأثير واضح في المجتمع التونسي.
إذا كانت الفعاليات الأمازيغية في كلا من المغرب والجزائر قد تمكنت بعد سنوات من النضال الميداني والترافع الحقوقي والمدني من فرض الأمازيغية كلغة رسمية في دستور البلدين وتحقيق مجموعة من المكاسب لصالح القضية الأمازيغية في التعليم والإعلام ومناحي الحياة العامة، بالتأكيد الطريق لا يزال طويلا وشاقا ، فإن الحراك الأمازيغي في كل من تونس وليبيا هو الآخر يكبر مثل كرة الثلج كلما تدحرج، وأن تحقيق مكاسب لصالح القضية الأمازيغية في هذين البلدين مجرد مسألة وقت مادام أن هناك أجيال من المناضلين والمناضلات المقتنعين والمقتنعات بالترافع على قضيتهم بكل فخر واعتزاز بهويتهم وحضارتهم وتاريخهم ووجودهم.
واختم بما قال الباحث التونسي في الثقافة الأمازيغية، فتحي بن معمر “التونسيون جميعهم من حيث الأصل أمازيغ، وإن تعرّبوا أو تَفَرْنَسُوا أو تجَلْببُوا بأي جلباب ثقافي وحضاري من الجلابيب الحضارية، التي كانت تتوالى على هذه الأرض من دون انقطاع”، وهو كذلك ما ينطبق على كل شعوب شمال إفريقيا.