تعد الإحصاءات السكانية واحدة من أهم الأدوات التي تعتمدها الدول لرسم السياسات العامة، وتحديد أولوياتها التنموية والثقافية. غير أن هذه العملية، التي يُفترض أن تكون علمية وموضوعية، تُثار حولها تساؤلات عميقة حين يتعلق الأمر بمكونات الهوية الوطنية. في السياق المغربي، تُثار العديد من الشكوك حول طريقة إدارة الإحصاء العام، لا سيما فيما يتعلق بمسألة اللغة والهوية الأمازيغية.
الأمازيغية، التي تشكل جوهر هوية المغرب تاريخياً وجغرافياً، تعاني من تهميش ممنهج لا يعكس وزنها الحقيقي في المجتمع. فرغم أن الدستور المغربي يعترف بها لغة رسمية إلى جانب العربية، إلا أن تطبيق هذا الاعتراف يظل في كثير من الأحيان حبيس النصوص القانونية دون أن يُترجم فعلياً في السياسات العمومية.
أحد مظاهر هذا التهميش يتجلى في الإحصاء العام للسكان. ففيما يُفترض أن يكون الإحصاء فرصة لتسليط الضوء على التنوع اللغوي والثقافي، نجد أن العديد من المواطنين، وخاصة الناطقين بالأمازيغية، يشتكون من تجاهل لغتهم. شهادات متفرقة تؤكد أن القائمين على الإحصاء لا يطرحون أسئلة دقيقة حول اللغة الأم للمواطنين، ما يؤدي إلى طمس واقع التعدد اللغوي.
هذا الواقع يثير تساؤلات حول النوايا الحقيقية وراء هذه التجاوزات. هل الأمر يتعلق بسوء تنظيم فقط أم أن هناك إرادة سياسية مبيتة لإعادة تشكيل الهوية الثقافية للمغرب بعيداً عن جذورها الأمازيغية؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلب العودة إلى التاريخ لفهم العلاقة بين الدولة والهوية.
المغرب، بعمقه التاريخي الممتد لآلاف السنين، كان دائماً أرضاً أمازيغية قبل دخول أي مؤثرات ثقافية أو لغوية أخرى. الأرض والشعب هما الشاهدان الأبديان على هذه الهوية المتجذرة. لكن مع توالي السياسات المركزية، خاصة بعد الاستقلال، بدأ التوجه نحو تعريب ممنهج للمجالين العام والخاص، ما أدى إلى تآكل الحضور الأمازيغي في الفضاءات الرسمية.
إغفال اللغة الأمازيغية في الإحصاء ليس خطأ بريئاً، بل جزء من استراتيجية أعمق تهدف إلى إعادة تعريف الهوية الوطنية على أسس غير متوافقة مع الواقع التاريخي والجغرافي. هذا التوجه يُضعف الوحدة الوطنية بدلاً من تعزيزها، لأن أي هوية وطنية حقيقية لا يمكن أن تُبنى على إنكار مكونات المجتمع.
إن الأمازيغية ليست مجرد لغة، بل هي تعبير عن ارتباط الإنسان المغربي بأرضه وهويته. تجاهل هذا المعطى يعني الإخلال بالتوازن الثقافي والاجتماعي للمجتمع. وعليه، فإن إصلاح السياسات الثقافية يبدأ بالاعتراف الكامل والصادق بالأمازيغية، ليس فقط في النصوص القانونية، بل أيضاً في كل تفاصيل الحياة اليومية، بما في ذلك الإحصاءات السكانية.
ختاماً، يجب التأكيد على أن هوية المغرب، بقوة التاريخ والأرض، أمازيغية. هذه الحقيقة ليست قابلة للمساومة أو التفاوض، لأنها تمثل الأساس الذي بُني عليه هذا الوطن. أي محاولة لطمس هذه الهوية لن تؤدي إلا إلى المزيد من التوترات والانقسامات. الحوار الوطني الشفاف حول الهوية والثقافة هو السبيل الوحيد لبناء مغرب يعترف بجميع مكوناته ويعتز بها.