أكد الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة، مولاي الحسن الداكي بمناسبة تقديم “دراسة تشخيصية حول زواج القاصر” يومي 29 و30 نونبر 2021 بمدينة مراكش، أن “إقرار مدونة الأسرة شكل منعطفا تاريخيا بامتياز، وثورة اجتماعية هادئة وقع الإجماع عليها من لدن كل أطياف المجتمع، وانضافت إلى أسس بناء المشروع المجتمعي الذي يقوده صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده بحكمة وتبصر”، مشيرا إلى أنها “اندرجت في سياق العناية المولوية بالأسرة عموما، وبوضعية المرأة والطفل على الخصوص، والتي تمت ترجمتها من خلال العديد من الإصلاحات الهيكلية والمؤسساتية والتشريعية الرامية إلى وضع الأسرة في مكانتها اللائقة داخل المجتمع، وجعلها بكيفية فعلية في محور التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهو ما تأكد اليوم أيضا بجعلها في محور النموذج التنموي الجديد الذي أطلقه جلالته من أجل أفق تنموي حداثي أصلح للمجتمع المغربي”.
وذكر رئيس النيابة العامة أن دستور المملكة لسنة 2011 أولى مكانة بارزة للأسرة باعتبارها الخلية الأساسية للمجتمع، وأسند للدولة مسؤولية السعي لضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية لها، بما يضمن وحدتها واستقرارها والمحافظة عليها.
وأشار الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة، إلى أن “الأسرة المعول عليها كرافعة للمجتمع، لا يمكن أن ترتكز إلا على الزواج القائــم على أسـس سليمة، والذي يستطيع طرفاه تحمل المسـؤولية والأعباء المترتبة عنه؛ لتحقيق توازن الأسرة”.
و”تحقيقا لهذه الغاية، وانسجاما مع ما تضمنته الاتفاقيات الدولية، ولا سيما اتفاقيـة حقـوق الطفـل لسـنة 1989، التي أوجبت على الدول الأطراف اتخاذ جميع التدابير الفعالة والملائمة بهدف إلغاء الممارسات التقليدية الضارة بصحة الأطفال، وحمايتهم من جميع أشكال الاستغلال؛ حددت مدونة الأسرة ســن الــزواج بالنسبة للفتى والفتاة في 18 ســنة شمســية، ولم تسمح بإبـرام زواج من لم يبلغ هذه السن إلا استثناء ووفق ضوابط خاصة، تتمثل في ما يلي:
-إسناد اختصاص الإذن بإبرامه لقاضي الأسرة المكلف بالزواج؛
-ضرورة الاستماع لأبوي القاصر أو نائبه الشرعي؛
-ضرورة موافقة النائب الشرعي على هذا الزواج؛
-الاستعانة بخبرة طبية أو إجراء بحث اجتماعي؛
-تعليل مقرر الإذن بالتزويج تعليلا يبين المصلحة والأسباب المبررة له” يستطرد المتحدث.
وإذا كانت الضمانات المسطرية المحيطة بزواج القاصر في مدونة الأسرة تعكس رغبة المشرع في تكريس الطابع الاستثنائي لهذا الزواج، وجعله في حدوده الدنيا؛ يضيف الوكيل العام للملك ” فإن الإحصائيات المسجلة في هذا الصدد، تعكس واقعا لا ينسجم مع رغبة المشرع، وتبرز ارتفاع الأرقام المسجلة سنويا بالرغم من المجهودات المبذولة من طرف جميع الفاعلين في الحد من هذا الزواج، علما أن جانبا من حالات زواج القاصر يبقى غير ظاهر في الإحصائيات المعلن عنها كزواج الفاتحة وغيره، مما يجعلنا أمام معضلة تستوجب المزيد من اليقظة وتظافر الجهود”.
وأكد الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض في معرض كلمته أن “رئاسة النيابة العامة عملت منذ تأسيسها على إيلاء حماية الطفولة أهمية قصوى، وجعلتها من ضمن أولويات السياسة الجنائية التي تسهر على تنفيذها من خلال تدخل النيابة العامة بمحاكم المملكة، وقد تجلى ذلك في توجيهات أول منشور أصدرته، الذي اعتبر حماية الفئات الخاصة وحماية الأطفال والنساء، من أولويات السياسة الجنائية”.
وأضاف أن رئاسة النيابة العامة جعلت موضوع زواج القاصر ضمن أحد أهم انشغالاتها لتعزيز حماية الطفل، وعبرت عن ذلك من خلال سعيها لتطوير دور قضاة النيابة العامة والرفع من قدراتهم المعرفية في هذا المجال، وسعت إلى طرح الموضوع واسعا للنقاش مع باقي المتدخلين الذين يُعنون به في عدد من اللقاءات الدراسية التي نظمتها، كما أصدرت ثلاث دوريات في الموضوع ضمنتها توجيهاتها للنيابة العامة، والتي تهدف بالأساس إلى تفاعلها بإيجابية مع جميع قضايا الأسرة، وإلى استحضار المصالح الفضلى للأطفال وحقوقهم في المقام الأول. ودعتهم إلى تفعيل ذلك من خلال الحضور في جلسات الإذن بتزويج القاصر، وتقديم الملتمسات الضرورية في الموضوع، مع جعل زواج القاصر ضمن أولويات خطة عمل خلايا التكفل بالنساء والأطفال، وإشراك جميع الفاعلين في اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالمحافظة على المصلحة الفضلى للقاصر.”
و”هو ما انعكس فعليا بشكل إيجابي على عمل النيابـات العامـة بمختلف محاكـم المملكة، حيث بلغت الملتمسات الرامية لرفض تزويج القاصر برسم سنة 2019 ما نسبته 58,4 في المائة من مجموع الملتمسات المقدمة في الموضوع. في حين شكلت هذه النسبة 36 في المائة سنة 2018، كما ارتفعت هذه النسبة سنة 2020 إلى 65 % من مجموع الملتمسات، وقد انعكس هذا المنحى الإيجابي كذلك على مستوى الإحصاء العام لأذونات زواج القاصر، والذي عرف انخفاضا مضطردا برسم السنوات 2018 و2019 و2020 مقارنة بسنة 2017″ يورد المتحدث.
وأشار إلى أن رئاسة النيابة العامة تواصل الانخراط في الجهود الوطنية الرامية إلى التصدي لزواج القاصر بالانفتاح على الجهات الفاعلة والمعنية بالموضوع، وبادرت في هذا الصدد إلى توقيع اتفاقية إطار للشراكة والتعاون مع قطاع التربية الوطنية، تنفيذاً للالتزامات المشتركة المضمنة في إعلان مراكش 2020، الذي تم إطلاقه تحت الرئاسة الفعلية لصاحبة السمو الملكي الأميرة الجليلة للا مريم.”
ومن بين الأهداف الأساسية لهذه الاتفاقية، يقول رئيس النيابة العامة، ضمان متابعة الفتيات تمدرسهن إلى نهاية التعليم الإلزامي من أجل الوقاية من زواج القاصرات، وذلك انطلاقا من قناعة واقعية مفادها أن الهدر المدرسي يشكل رافدا أساسيا لتزويج القاصرات.”، مبرزا أن “تفعيل هذه الاتفاقية انطلق في مرحلة أولى بمراكش كتجربة نموذجية في مارس 2021 ليتم تعميم التجربة على مجموع التراب الوطني بموجب الدورية رقم 20 بتاريخ 9 يونيو 2021، التي تضمنت عددا من التوجيهات للنيابات العامة للتفاعل والتنسيق مع الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين للحد من الهدر المدرسي للفتيات على وجه الخصوص.” “وهي جهود تأكدت نجاعتها وفعاليتها عند التقييم، حيث أسفرت عن استرجاع ما يقارب 2000 فتاة انقطعن فعلا عن الدراسة بجهة مراكش آسفي لوحدها، وتمت إعادتهن إلى مقاعد الدراسة”.
وأبرز المتحدث أن رئاسة النيابة العامة استكمالا للجهود الحثيثة التي تبذلها على مستوى التأطير، والتكوين، وتعزيز القدرات المعرفية، وتتويجا لرؤيتها الاستراتيجية والشاملة لحماية الأسرة عموما، وحماية الطفل على وجه الخصوص، عملت على إعداد دراسة تشخيصية حول زواج القاصر، نقدم نتائجها في لقائنا التواصلي اليوم.
وتجسد هذه الدراسة “أرضية بالغة الأهمية مبنية على معطيات علمية دقيقة مستقاة من واقع الممارسة العملية بالمحاكم في قضايا زواج القاصر التي تناولتها بالتحليل في محور أول، لتعمل في محور ثان على البحث في المعطيات الميدانية ذات الصلة بالقاصرات موضوع هذا الزواج، حيث استقرأت خصوصية محيطهن الاجتماعي والثقافي والاقتصادي”
ومن نقط القصور التي وقفت عليها دراسة المعطيات القضائية ضعف اللجوء للمساعدات الاجتماعيات بالمحاكم لإجراء الأبحاث الاجتماعية في ملفات زواج القاصر بنسبة لا تتجاوز 12% ، كما أن نسبة كبيرة من الأذونات بزواج القاصر لا يتم اللجوء فيها إلى الخبرة الطبية بنسبة تتجاوز 43 % ، علما أن كلا من الخبرة الطبية والبحث الاجتماعي عندما يُنجزان على الوجه المطلوب يُعينان القاضي على تقدير مصلحة القاصر من الزواج من عدمها. بينما اتضح من الدراسة الميدانية أن الأوساط الاجتماعية التي تُعاني من الهشاشة هي الأكثر إنتاجا لزواج القاصر، فضلا عن وطأة الأعراف والتقاليد والتأويل الخاطئ للدين التي تعد من الأسباب الأساسية الدافعة لخيار الزواج المبكر.
وقد خلصت هذه المعطيات في المحور الأخير للدراسة إلى استنتاجات، تلقي الضوء على الأسباب المختلفة التي تقف وراء ارتفاع أرقام زواج القاصر في المجتمع. وقد مكنت هذه الاستنتاجات من اقتراح خطة طريق تهيئ لمستقبل العمل القضائي من جهة، والعمل التشاركي المتعدد التدخلات من جهة أخرى، وذلك من خلال توصيات تأمل رئاسة النيابة العامة أن تساعد وترشد المتدخل والممارس والمهتم بالموضوع.
ولعل ما يحفل به برنامج هذا اللقاء التواصلي من عروض قانونية وقضائية ولعلم النفس والاجتماع، لفرصة لتعميق النقاش ولتسليط الضوء على محتويات الدراسة واستشراف أنجع السبل لتفعيل توصياتها.
كما قد تشكل هذه الدراسة وثيقة مرجعية من شأنها الإسهام في رسم ملامح التدخل التشريعي المرتقب، بما يكرس احترام بلادنا لحقوق الطفل، وانخراطها كشريك دولي في ذلك.
ولابد هنا من الإشارة إلى فريق العمل، المكون من قضاة وأطر قطب النيابة العامة المتخصصة والتعاون القضائي برئاسة النيابة العامة وقضاة النيابة العامة بالمحاكم، الذي انكب على إعداد هذه الدراسة، وهي مناسبة سانحة للتنويه بالجهود الكبيرة التي تم بذلها من قبل كافة المتدخلين لإخراج هذا العمل إلى حيز الوجود.
وشدد الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة، مولاي الحسن الداكي على أن موضوع زواج القاصر يستدعي منا جميعا وقفة للتأمل والمراجعة، كونه يسائل الجهود المرصودة لحماية الطفولة ببلادنا، كما أنه ولاشك مؤشر من بين مؤشرات قياس التنمية ببلادنا، يجب استحضاره في مخططاتنا من أجل تنفيذ الرؤية المتبصرة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله في قيادته للنموذج التنموي الجديد للمملكة.”