الى أي حد مكن ترسيم الأمازيغية من تغيير عقليات صناع السياسات العامة والعمومية بالمغرب؟ (يتبع)


اما فيما يخص النقطة الثانية والمتعلقة بمدى التزام حكومة سعد الدين العثماني «اعتماد القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية»، وذلك تفعيلا للفقرة الأخيرة من الفصل الخامس من الدستور، والتي تنص على انه «يحدث مجلس وطبي للغات والثقافة المغربية، مهمته على وجه الخصوص، حماية وتنمية اللغتين العربية والأمازيغية، ومختلف التعبيرات الثقافية المغربية باعتبارها تراثا أصيلا وإبداعا معاصرا، ويضم كل المؤسسات المعنية بهذه المجالات»، فقد أورد السيد رئيس الحكومة في كلمته أمام مجلس المستشارين، يوم الثلاثاء 19 يونيو، خلال الجلسة الشهرية المتعلقة بالسياسة العامة طبقا للفصل 100 من الدستور، بخصوص المحور بالسياسة العامة المتعلقة بتنمية اللغات والثقافة الوطنية، نقطتين، الأولى انصبت حول توجه الحكومة نحو استكمال الترسانة القانونية في مجال تنمية اللغات والثقافة الوطنية (رئيس الحكومة استعمل عبارة الوطنية بدل المغربية كما هو منصوص في الدستور)، حيث خصص المحور الثاني من هذه النقطة للحديث عن مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، وذكر في هذا الصدد ما يلي « يهدف مشروع هذا القانون التنظيمي إلى جعل المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية قوة اقتراحية في مجال اللغات والتعبيرات الثقافية الوطنية، وذلك من خلال اقتراح التدابير التي يتعين اتخاذها من أجل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية في مجال التربية والتعليم وفي مجالات الحياة العامة الأخرى ذات الأولوية، وكذا تلك المتعلقة بحماية وصيانة الحسانية واللهجات ومختلف التعبيرات الثقافية، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الهوية الثقافية الموحدة».

فمن منظور رئيس الحكومة، فان هذا المجلس ستكون له وظيفة اقتراحيه فقط في مجال اللغات والتعبيرات الثقافية الوطنية، بمعنى آخر لن تكون له أية سلطة لفرض قراراته على المؤسسات الأخرى، فقوته هي «قوة اقتراحية» فقط.

لكن المثير في كلام السيد رئيس الحكومة هو تركيزه أساسا على أن هذه الوظيفة الاقتراحية ستنصب بالخصوص في اقتراح التدابير التي يتعين اتخاذها من أجل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكذا تلك المتعلقة بحماية وصيانة الحسانية واللهجات ومختلف التعبيرات الثقافية، فهل التركيز على هذه المجالات نابع عن قناعة رئيس الحكومة بضرورة اعتماد مقاربة التمييز الايجابي تجاه الأمازيغية والحسانية؟ أم أنه كلام يستبطن خلفه نوع من الفصل بين اللغة العربية كلغة «متعالية» وباقي المكونات اللغوية الوطنية وعلى رأسها اللغة الأمازيغية؟، بتحليلنا لخطاب السيد رئيس الحكومة نرجح الاحتمال الأول ونستبعد الاحتمال الثاني، لكون رئيس الحكومة ذكر فيما بعد بأن مشروع هذا القانون التنظيمي يتضمن «إعادة تنظيم كل من أكاديمية محمد السادس للغة العربية والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وذلك بهدف ضمان انسجام تدخلات هاتين المؤسستين الهامتين في مجال تنمية اللغات والتعبيرات الثقافية المغربية، كل منهما في مجال تدخلها».

لكن لماذا التركيز فقط على أكاديمية محمد السادس للغة العربية والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية؟ ألم تنص الفقرة الأخيرة من الفصل الخامس من الدستور صراحة على أن هذا المجلس «يضم كل المؤسسات المعنية بهذه المجالات»؟ هل لهذه المؤسسات وجود في الواقع حتى يتم ضمها إلى المجلس؟ إذا كان الجواب بنعم فما هي هذه المؤسسات؟ أما إذا كان بالنفي، فهل يمكن لنا القول بأن المشرع الدستوري لم يوفق في صياغته؟ ألم يكن من الأفضل إيراد عبارة «تحدث لدى المجلس مؤسسات تعنى بمختلف هذه المجالات» مادام العديد من هذه المؤسسات غير موجودة أصلا؟.

هذه إذن مجموعة من التساؤلات التي لن يستطيع رئيس الحكومة إيجاد أجوبة شافية لها، وهي التي ستسبب ارتباكا كبيرا في التصور العام للمجلس ولهيئاته.

ولعل الارتباك الأول، هو أن الفقرة الأخيرة من الفصل الخامس من الدستور تتحدث عن «إحداث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية»، ولم تنص على إحداث أية مؤسسات أخرى منضوية تحت لوائه، بل أشارت إلى أن هذا المجلس «يضم كل المؤسسات المعنية بهذه المجالات»، وبما أن هذه المؤسسات – إذا ما استثنينا المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية- غير موجودة أصلا، فان نص مشروع هذا القانون التنظيمي كما قدمه رئيس الحكومة تضمن إحداث مجموعة من الهيئات التي تعنى بتنمية التعبيرات الثقافية الوطنية (الهيئة الخاصة بالحسانية واللهجات والتعبيرات الثقافية المغربية الأخرى والهيئة الخاصة بالتنمية الثقافية وحفظ التراث، والهيئة الخاصة بتنمية استعمال اللغات الأجنبية).

أما الارتباك الثاني فيتعلق بأكاديمية محمد السادس للغة العربية، فكما هو معلوم، فان هذه الأكاديمية أشارت إلى إحداثها المادة 100 من الميثاق الوطني للتربية والتكوين (2000-2001)، وفي غشت 2002 صدر مرسوم ملكي لإحداث هذه الأكاديمية تحت اسم أكاديمية محمد السادس للغة العربية، كما جاء على لسان حسن أوريد الذي كان يشغل منصب الناطق الرسمي باسم القصر الملكي، والذي أضاف بأن هذه الأكاديمية «سيقتصر دورها على النهوض باللغة العربية التي تمثل مكونا أساسيا للهوية المغربية الغنية بتعدديتها».

وبتاريخ 19 يونيو 2003 سيتم إصدار الظهير الشريف رقم 1.03.119 بتنفيذ القانون رقم 10.02 المتعلق بإنشاء أكاديمية محمد السادس للغة العربية (ج.ر. عدد: 5126 بتاريخ 17 يوليو 2003،ص. 2723)، هذا القانون نص في مادته 39 على ما يلي «يتم حل معهد الدراسات والأبحاث للتعريب الآنف الذكر في أجل لا يتعدى ثلاث سنوات ابتداء من تاريخ انطلاق العمل لمجلس الأكاديمية»، كما نصت قبله المادة 38 من نفس القانون على ما يلي «يتم على مدى ثلاث سنوات ابتداء من تاريخ انطلاق العمل بمجلس الأكاديمية، وبتشاور موسع بين مختلف المؤسسات الفاعلة في مجال البحث في اللغة العربية بما في ذلك، معهد الدراسات والأبحاث للتعريب المحدث بموجب المرسوم رقم 2.59.1965 في 14 يناير 1960، تجميع عناصر هذه المؤسسة داخل الأكاديمية بغية تحسين مردودية البنيات التحتية وموارد التأطير المتوفرة».

لكن الذي حدث هو أن هذه الأكاديمية لم تر النور إلى يومنا هذا، ولا نعرف السبب في ذلك، ومعهد الدراسات والأبحاث للتعريب، ظل مؤسسة شكلية تنتظر أجل حلها انسجاما مع المادة 39 من القانون السابق ذكره. لذلك فمن الناحية الواقعية أكاديمية محمد السادس للغة العربية غير موجودة أصلا، وما دامت لم تحدث، فان الحديث عن ضم هذه الأكاديمية إلى المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية كلام لا معنى له، بل يطرح إشكالا آخر يتعلق بموقع معهد الدراسات والأبحاث للتعريب في ظل التصور الحكومي للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، مع العلم أن رئيس الحكومة في كلمته السابق ذكرها لم يشر البتة لهذا المعهد. وسنرى فيما بعد كيف عالجت الحكومة هذا الإشكال؟ وما هي المبررات التي ارتكزت عليها؟ وعبرها سنستشف مدى تغير العقليات المدبرة للشأن الحكومي.

أما الارتباك الثالث، فيهم المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، فكما هو معلوم فان هذا المعهد تم إحداثه، بناء على الفصل 19 من دستور 1996، بموجب الظهير الشريف رقم 1.01.299 بتاريخ 17 أكتوبر 2001 (ج.ر. عدد: 4948 بتاريخ الخميس 1 نونبر 2001)، هذا الفصل ينص على أن «الملك أمير المومنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستقرارها، وهو حامي الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات، وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها»، مع العلم أن الفصل 29 من نفس الدستور ينص على أن «يمارس الملك بمقتضى ظهائر السلطات المخولة له صراحة بمقتضى الدستور، الظهائر الشريفة توقع بالعطف من لدن الوزير الأول ما عدا الظهائر ….». هذا الظهير المحدث للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية لم يوقع بالعطف من طرف الوزير الأول مما يعني أنه يندرج في الاختصاص الحصري للمؤسسة الملكية وينطب عليه ما ينطبق على باقي الظهائر التي لا يوقعها الوزير الأول في السابق ورئيس الحكومة في الوقت الحالي.

هذه الملاحظة الشكلية تقودنا مباشرة للاستنتاج بأن الحكومة و البرلمان لا يحق لهما التدخل في هذا الظهير لا بالإلغاء ولا بالتعديل ولا بالنسخ لأنه يندرج في المجال الحصري للملك. هذا الاستنتاج تؤكده مضامين هذا الظهير نفسه، فالمادة الأولى من الظهير تنص على أنه «تحدث بجانب جلالتنا الشريفة، وفي ظل رعايتنا السامية مؤسسة تسمى المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية..»، بمعنى آخر أن هذا المعهد هي مؤسسة تابعة مباشرة للملك ولا تخضع لأي هيئة حكومية أخرى، ووفقا للمادة الثانية من هذا الظهير ، فان المعهد هي مؤسسة استشارية تبدي رأيها في الأمور التي يحيلها عليها الملك، فهي تنص على أنه «يتولى المعهد المحال إليه الأمر من جنابنا الشريف إبداء الرأي لجلالتنا في التدابير التي من شأنها الحفاظ على الثقافة الأمازيغية والنهوض بها في جميع تعابيرها…»، والملك هو الذي يعين عميد المعهد ويعين باقي أعضاء المجلس الإداري (المادة 6)، وجميع قرارات المجلس على العميد أن يرفعها إلى نظر الملك (المادة7)، كما عليه أن يرفع للملك التقرير السنوي المفصل لأنشطة المعهد، والملك هو الذي يمتلك صلاحية الأمر بنشر مجموع أو جزء أو بعض محتوى هذا التقرير في الجريدة الرسمية (المادة 13)، والاجتماعات الاستثنائية للمعهد قد تتم بطلب من الملك، كما أن جدول أعمال المجلس الإداري يجب أن يحال على الملك من قبل العميد (المادة 8)، والنظام الداخلي للمعهد يصادق عليه الملك (المادة 15)، وميزانية المعهد «هي الوثيقة المقدرة فيها نفقات ومداخيل المعهد السنوية، وتتضمن في باب المداخيل بوجه خاص الإعانات المالية للدولة المقيد مبلغها في ميزانية البلاط الملكي» (المادة 9). وخلاصة القول فان المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية هي مؤسسة ملكية بامتياز، فكيف يحق لرئيس الحكومة الحديث عن مؤسسة ليس من حقه الحديث عنها، لأنها لا تندرج في إطار سلطته وإنما تتجاوزه؟ ألا يشكل هذا التدخل مسا صريحا باختصاصات الملك؟

هذه الارتباكات ستؤثر بشكل كبير على مسار إعداد ومناقشة القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، واذا كنا لا نعرف ما جرى في الكواليس بخصوص مناقشة مشروع القانون هذا، سواء على مستوى الحكومة أو اللجان البرلمانية، فان مخرجات هذه المناقشات تعطينا صورة دقيقة عن طبيعة العقليات المنتجة لهذه المخرجات وتوجهاتها ومدى تحررها من مخلفات ماضي ما قبل دستور 2011. وهذا ما سنحاول مقاربته في الجزء المقبل.

د.عبدالله اكلا
باحث في الفعل العمومي الوطني والترابي.

شاهد أيضاً

الجزائر والصحراء المغربية

خصصت مجموعة “لوماتان” أشغال الدورة السابعة لـ “منتدى المغرب اليوم”، التي نظمتها يوم الخامس من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *