أعترف أن بلاغ الديوان الملكي ليوم 10 دسمبر 2020، الذي أُعلن فيه، بجانب اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، عن اعتزام المملكة تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، فاجأني لأنني لم أكن أنتظره رغم كل الظروف المواتية لمثل هذا التطبيع، بعد قرار عدد من الدول العربية الحقيقية ـ دول الخليج ـ تطبيع علاقاتها مع إسرائيل بشكل كامل. لماذا لم أكن أنتظر هذا القرار المغربي؟
لأن الحكْم الحقيقي بالمغرب، أي القصر، أصبح، بفعل الوظيفة “التضبيعية” لقضية فلسطين، ضحية ابتزاز يمارَس عليه باسمها حتى أضحى شبه رهينة لهذا الابتزاز بحيث لم يكن بإمكانه وضع حدّ له دون خسائر سياسية، وخصوصا أن ممارسي هذا الابتزاز، المستقوي بثقافة “التضبيع”، يهدّدون بأنهم قادرون على تحريك الشارع وحشد الجماهير ضد كل قرار “يخون” القضية الفلسطينية، ويقصدون بذلك التطبيع مع إسرائيل.
ما معنى “التضبيع” الذي ذكرته، والذي سيتكررّ ذكره طيلة هذه المناقشة؟ “التضبيع” لفظ مصاغ من كلمة “الضبع”، الحيوان المعروف. وفي الاعتقاد الشعبي أن الشخص “المضبّع” هو المنقاد، الخاضع، التابع والمطيع، الفاقد لحرية الإرادة والقرار نتيجة تناوله مخ الضبع. ويقصد به في الغالب الزوج الذي تدسّ له زوجته مادة من مخ الضبع في الطعام فيصبح، بعد أكله، دمية في يدها لا يعصي لها أمرا ولا يرفض لها طلبا. في المغرب، منذ الاستقلال والطبقة السياسية ـ ومعها النخبة المثقفة ـ “تغذي” المغاربة، عبر المدرسة والإعلام ومؤسسات الدولة…، بمخاخ “ضباع” المشرق العربي حتى أصبحوا منقادين ومطيعين وتابعين ومصدّقين لكل ما تشتمّ منه رائحة العروبة العرقية، كـ”النسب الشريف”، و”القضية الفلسطينية”، و”الانتماء العربي”، و”المغرب العربي”، فاقدين القدرة على الاستقلال الهوياتي والإيديولوجي والمذهبي، تماما كالزوج المسحور و”المضبّع” (انظر موضوع: «”التضبيع” في تجريم التطبيع» ضمن كتاب: “قضايا مغربية”). ويمكن ترجمة “التضبيع” إلى الفرنسية بكلمة Abêtissement، المصاغة هي أيضا من كلمة “bête”، التي تعني “الحيوان” وفي نفس الوقت تعني الغباء والبلاهة عند استعمالها كصفة. فكما أن “التضبيع” يجعل من ضحيته شبه “ضبع” لا يفكّر ولا يقدّر كما يفعل الإنسان العاقل السوي، فكذلك Abêtissement تعني في المعجم الفرنسي تحويل من هو موضوع لهذا “الأبتسمون” غبيا وأبله مثل الحيوان. فـ”التضبيع” هو إذن نوع من “التوكال” (تعبير شعبي يعني طعاما يتضمن مواد ذات مفعول سحري) وممارسة سحرية ترمي إلى خداع الضحية وسلب إرادته ليكون طوع ما يريده الساحر أو “المضبِّع”. وهذا ما حصل لجزء من الشعب المغربي الذي أصبح يصدّق أن القضية الفلسطينية هي قضية وطنية أو أهم منها، وأن كل مطبِّع مع إسرائيل هو خائن وعميل وصهيوني وخارج “الإجماع الوطني”. وهذا ما كان الحكْم pouvoir يضرب له ألف حساب ويمنعه من “المغامرة” بالتطبيع العلني مع إسرائيل، مكتفيا بنوع من التطبيع الخفي والسري. وهكذا كان ضحية لابتزاز خبيث (انظر موضوع: “لا لممارسة الابتزاز على المؤسسة الملكية باسم فلسطين” ضمن كتاب: “في الهوية الأمازيغية للمغرب”) يمارسه عليه العروبيون من إسلاميين وقوميين: فإما أن يقاطع إسرائيل ويعلن عداءه لها أو يُتّهم بالخيانة والعِمالة للصهيونية، مع ما قد ينتج عن ذلك من تفعيل هؤلاء المبتزّين لآليات “التضبيع” للتجييش والتهييج ضد كل محاولة للتطبيع. وهذا ما جعل النظام المغربي يُحجم عن التطبيع مع الدولة العبرية ولو على حساب مصالح دولته المغربية.
ولهذا إذا كان ما قام به المغرب، من خلال القرار الملكي، يُعدّ فتحا تاريخيا هاما على هذا المستوى الذي يخصّ إقامة علاقات ديبلوماسية وتجارية طبيعية وعلنية مع إسرائيل، مع مكسب اعتراف الولايات المتحدة بمغربية أقاليمه الصحراوية، فإنه، على مستوى آخر، يتجاوز الفتح ليشكّل ثورة تاريخية حقيقية تتمثل في كسر حلقة الابتزاز الذي كان يمنع المغرب من اتخاذ قراراته بكل سيادة واستقلال، مع ما كان يسبّبه ذلك المنع من أضرار على مصالحه الوطنية. وكما في الابتزاز الجنائي، كلما استجاب الضحية لمطلب المبتزّين إلا وطالبوه مرة أخرى بمطالب جديدة، فكذلك ظل المبتزّون، المستقوون بثقافة “التضبيع”، يطالبون الدولة المغربية، بعد أن تستجيب لمبتغاهم، بمطالب أخرى جديدة، حتى أنها أصبحت، إذعانا لمطالب المبتزّين المستقوين بـ”التضبيع”، عربية أكثر من العرب الحقيقيين، وفلسطينية أكثر من الفلسطينيين الحقيقيين، ومقدّسة للغة العربية أكثر من أصحابها الأصليين، ومُقصية للغتها الأمازيغيته بشكل لا مثيل له في التاريخ، ومُنكرة لانتمائها الأمازيغي ومنتحٍلة لانتماء عربي، متنازلة بذلك عن كرامتها الهوياتية، ممارسة لتحوّل جنسي، قومي وهوياتي، مخالف لطبيعة الأشياء، ومتعارض مع القيم الأخلاقية والدينية… وكما أن الحل الوحيد، الناجع والفعّال، لوضع حد لمسلسل الابتزاز الجنائي هو كسر إحدى حلقاته حتى يتوقّف عن التجدّد والاستمرار، فكذلك فعَل المغرب بإقدامه على تطبيع علاقاته مع إسرائيل، محقّقا بذلك انتصارا ساحقا على ثقافة “التضبيع” وما يصاحبها من ابتزاز، ومدمّرا للعجلة التي يسير ويتحرّك بها هذا الابتزاز المعتمد على مخدّر “التضبيع”.
هذا التدمير لعجلة الابتزاز، الذي ظل المغرب أسيرا له منذ عقود، مضحيا بهويته الأمازيغية وبمصالحه لإرضاء رغبات المبتزّين الذين كانوا يهددونه باستعمال سلاح “التضبيع” الذي سيطروا به على عقول ووجدان العديد من المغاربة، هو تحرير للمغرب من هذا الأسر الذي كان يحدّ من قراراته السيادية عندما كان يفرض عليه ذلك الابتزاز تكييف تلك القرارات مع رغبات ممارسي هذا الابتزاز. وهو ما جعله يتصرّف، كما أشرت، كدولة عربية قومية رضوخا لابتزاز القوميين المغاربة، ويعمل على نشر الوهابية استجابة لابتزاز الإسلاميين، ويمارس سياسة التعريب الأمازيغوفوبية تلبية لابتزاز التعريبيين المعادين لأمازيغيتهم. لكن هذا التدمير للعجلة التي يتحرّك بها هذا الابتزاز الذي كان يحاصر المغرب ويحدّ من سيادته، غير كافٍ لوحده، إذ لا بدّ من العمل على تدمير الوقود الذي كان يدير العجلة التي يتحرّك بها ذلك الابتزاز. هذا الوقود هو ثقافة “التضبيع” التي أُتخِم بها المغاربة عن طريق المدرسة والإعلام والنقابات والأحزاب وخطب الجمعة ودروس الوعظ الديني… وهكذا يكون تحرّر المغرب من الابتزاز باسم قضايا عربية أجنبية، بداية لتحرير المغاربة من ثقافة “التضبيع” التي كان يستعملها “المضبِّعون” و”المضبَّعون” كأداة لممارسة الابتزاز على الدولة، كما رأينا. ولإحراق الوقود المستعمل لإنتاج ثقافة “التضبيع” يكفي الرجوع إلى ما هو محلي ومغربي أصيل، أي أمازيغي إفريقي، الشيء الذي يمكّن المغاربة أن يكونوا ما هم عليه، مطابقين لانتمائهم الأمازيغي الإفريقي. وهو ما يحرّرهم من “التضبيع” ويمنحهم الاستقلال الهوياتي الذي يسمح لهم بخدمة أنفسهم وقضاياهم الوطنية، مع ما يعنيه ذلك من استعادتهم لكرامتهم التي أفقدها لهم “التضبيع” عندما جعل منهم متسوّلين لهويات شعوب أخرى أجنبية لا تعترف إطلاقا بانتسابهم إليها. فالتطبيع مع إسرائيل هو مقدّمة لتطبيع المغاربة مع ذواتهم، أي مع هويتهم الأمازيغية الجماعية.
ولهذا كانت الحركة الأمازيغية سبّاقة إلى المطالبة دائما بتطبيع العلاقات مع إسرائيل خدمة للمصلحة الوطنية. وهو ما كان يُستغل كفرصة ذهبية من قبل التعريبيين، الإسلاميين والقوميين، لشيطنتها واتهامها بالتصهين والعِمالة والولاء لإسرائيل، حتى أن طلبة من القاعديين، أي الذين أقعدهم “التضبيع” وجعلهم عاجزين عن التقدّم إلى الأمام، رسموا، بمدخل جامعة مكناس قصد دوْسه بأقدامهم، العلم الأمازيغي بجانب العلم الإسرائيلي مع وضع علامة “يساوي” تربط بينهما، إشارة إلى أن أحدهما يساوي الآخر. واليوم، ماذا سيفعل ويقول “المضبِّعون” “المضبَّعون” عندما يرون العلم المغربي منتصبا يرفرف بجانب العلم الإسرائيلي؟ هل سيُحرقون العلم الوطني كما اعتادوا أن يفعلوا بالعم الإسرائيلي؟ هل سيقولون بأن الحركة الأمازيغية اخترقت الدولة المغربية؟ أو أن المغرب دولة متصهينة على غرار الحركة الأمازيغية؟ أو أن المسؤولين المغاربة خونة وعملاء، مردّدين ما كان يقوله أسيادهم من المسؤولين الفلسطينيين في مؤتمرات البوليساريو بالجزائر؟ أم أنهم سيدعون إلى سنّ قانون يجرّم التطبيع كما حاول ذلك مجموعة من البرلمانيين “المضبَّعين” في 2013، معرّضين أنفسهم، في ذلك الوقت، لإحراج ما بعده إحراج، جاعلين منها أضحوكة يتندّر بها المتابعون لشؤون البرلمان المغربي، ومقدّمين الدليل على أن ثقافة “التضبيع” لا تنتج إلا الهزائم السياسية والانكسارات النفسية؟
لقد تحمّل المغرب لمدة طويلة غدر الفلسطينيين كما تفعل الضحية المازوشية التي تستلذّ ما يُلحقه بها جلادها من عذاب وألم. وحتى المرحوم الحسن الثاني، الذي غضب يوما غضبا شديدا دفعه إلى توجيه خطاب عاجل إلى الشعب المغربي، دعاه فيه إلى قطع كل علاقاته مع الفلسطينيين عقب كلمة لممثل منظمة فتح الفلسطينية، حضر أحد مؤتمرات البوليسارو بالجزائر في ثمانينيات القرن الماضي، قال فيها بأن الشعب الصحراوي يعاني من الاحتلال مثل الشعب الفلسطيني، (حتى هو) سيتراجع عن قراره ويستأنف دعمه للفلسطينيين الذين يقابلون ما يسديه إليهم المغرب من جميل بالغدر والنكران. ومناسبة تطبيع العلاقات مع إسرائيل، مع ما تطلّبه ذلك من كسر لحلقة الابتزاز وإحراق “التضبيع” الذي يستعمله هذا الابتزاز كوقود يشتعل ويشتغل به، هي فرصة للتحرّر النهائي من الابتزاز الممَارس باسم فلسطين. ويتحقّق ذلك عندما يصبح الخائن الحقيقي ليس هو من يدعو إلى التطبيع مع إسرائيل، كما علّمتنا ثقافة “التضبيع”، بل هو كل من يعارض هذا التطبيع باسم ما يُسمّى بقضية فلسطين، وكل من يضع هذه القضية فوق القضايا الوطنية أو مساوية لها، وهو ما يجرّمه الفصل 195 من القانون الجنائي المغربي باعتبار مخوّن التطبيع مجنّدا لحساب سلطة أجنبية، حسب ما ينص عليه نفس الفصل، عندما يكون بوقا يردّد ما تكاله تلك السلطة الأجنبية من تهم التخوين والعمالة للدولة المغربية. كما يجب تفعيل، في حق هؤلاء الخونة الحقيقيين، الفصول التي تعاقب على الإخلال بالاحترام الواجب لشخص الملك، مثل الفصل 179، بالنظر إلى أن التطبيع الذي يعتبرونه خيانة هو قرار ملكي سامٍ.
فما نحن في حاجة ماسة إليه اليوم، نحن المغاربة، ليس تحرير فلسطين، بل تحرير أنفسنا منها بعد أن أصبحت تحتلنا أكثر مما تحتلها إسرائيل، وتسيطر على عقولنا ووجداننا التي بنت بها مستوطنات أكبر وأدوم من التي تبنيها إسرائيل، مع تجهيزها بكل البنى التحتية اللازمة للاستقرار الدائم، لكن دون مجارٍ للصرف الصحي، وذلك حتى تتراكم قاذوراتها “التضبيعية” وتترسب بعقولنا ووجداننا بشكل دائم وفعّال (انظر موضوع: “تحرير فلسطين أم التحرّر من فلسطين؟” ضمن كتاب: “في الهوية الأمازيغية للمغرب”). وتطبيقا لمشروع القضاء على فكر “التضبيع” وما ينتج عنه من ابتزاز، ينبغي الكفّ عن القول بأن القضية الفلسطينية تستحق المناصرة والتضامن، ليس لأسباب عرقية أو قومية أو دينية كما يفعل القوميون والإسلاميون، وإنما لأنها قضية إنسانية كما يكرّر نشطاء الحركة الأمازيغية، دون أن يعوا أنهم بذلك إنما يغازلون ثقافة “التضبيع” والابتزاز حتى لا يُغضبوا أصحابها المتشبّعين بها. فلو كان العامل الإنساني وراء التضامن مع القضية الفلسطينية، فلماذا هي وحدها تستحق هذا التضامن دون العشرات من القضايا الإنسانية والعادلة مثل شعوب الروهنجيا، الأكراد، دارفور، الشيشان…؟
من جهة أخرى فإن التحرّر من الابتزاز الذي كان يمارس باسم فلسطين هو تحرير لفلسطين نفسها التي كانت، منذ قيام إسرائيل، قضية يستعملها العرب، القوميون والإسلاميون، لخدمة إيديولوجيتهم ومشاريعهم السياسية. وهو ما أضاع على الفلسطينيين الكثير من الحلول المنصفة التي كانت متاحة لهم منذ 1948. لكن هؤلاء القوميين والإسلاميين كانوا يشجعونهم على رفض تلك الحلول والاستمرار في “المقاومة” و”الممانعة” و”الصمود” حتى “النصر” الكامل. فسواء اعتبرنا هذه القضية الفلسطينية عادلة أو إنسانية أو غير ذلك، فلها أهلها الذين هم الفلسطينيون. فلو لم يتدخل العرب في ملف هذه القضية، ربما لوُجد لها حل منذ زمان كما تدل على ذلك الكثير من القرائن، وعلى رأسها إعلان الدول التي كانت تعتبر هذه القضية قضيتها الوطنية العداءَ لإسرائيل، وهو ما جعل هذه الأخيرة تعتبر أن حربها على الفلسطينيين هي حرب مشروعة ضد أعدائها العرب الذين يحاربون إسرائيل عبر استعمالهم لقضية فلسطين.
وعندما أقول علينا أن نتحرّر من فلسطين، بغاية التحرّر من الابتزاز الممارس باسمها، فلا يعني ذلك إطلاقا عداء للعرب الحقيقيين. فهؤلاء نحترمهم ونقدّرهم ونعتز بصداقتهم وعلاقات التعاون بيننا وبينهم، وهو ما برهنوا عليه ببدء دول عربية حقيقية بفتح قنصليات لها بأقاليمنا الجنوبية. وإنما مشكلتنا مع العرب المزوّرين، عرب ثقافة “التضبيع”، عرب انتحال الصفة، الذين اختاروا، تحت مفعول مخدّر “التضبيع”، أن يكونوا برابرة أجانب عن أمازيغيتهم، حسب المعنى اليوناني الأصلي للفظ “بربري”، يعيشون الاستلاب والزيف والتحوّل الجنسي، القومي والهوياتي. والعرب الحقيقيون هم أول من يرفض هؤلاء البرابرة المتحوّلين ولا يعترف بعروبتهم المنتحَلة والزائفة.