نعم بالتعليم و المعلم تبنى مجتمعات واعية يعول على عقول أفرادها في بناء الأوطان و إحداث ثورات فكرية تنجم عنها نهضة ثقافية تنأى عن الصور النمطية المكرورة المقيتة إلى صور أخرى وضاءة مشرقة متجددة حيث تتعزز الثقة بين الأفراد لنصبح أكثر إنتاجية و نمتلك القدرة على الابتكار في شتى الميادين الاقتصادية و الإجتماعية و السياسية و للمضي قدما نحو التقدم و الإزدهار و مواكبة آخر التطورات لتحقيق الرفاهية و الحياة الكريمة و مواجهة التحديات و الصعاب، وبه تنتقل حضارات الشعوب و تراثها من جيل لأخر فهو الذي يرسخ ثقافة المجتمعات و يحول دون ضياعها، و يحدث التكافل الإجتماعي و الوعي بأهمية الأوطان و المؤسسات و حمايتها، مما يساهم في زيادة مسؤولية الفرد اتجاه وطنه عبر ترسيخ قيم المواطنة الحقة و المساهمة في التنمية المستدامة التي تعمل على الحد من الفقر و الجهل مما يؤثر إيجابا في تحسين مستوى عيش الأفراد و المجتمعات وتطوير الحياة الاجتماعية و الزيادة في النمو الاقتصادي و الاجتماعي.
حيث يشكل المواطنون المتعلمون المهرة عنصر الأمان في نجاح أي بلد وتقدمها، و لعل تقدم المجتمع الفنلنديّ إلى الصفوف الأولى بين أغنى دول العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ثمرة سعي مواطنيها للحصول على التعليم العام، ولاستثمار الدولة في مجال التعليم كذلك, فمنذ بداية القرن التاسع عشر، ألقت القرارات العليا البذور الأولى لنجاح نظام التعليم بصفة مستمرة، فقد قررت فنلندا توفير التعليم للأمة بأسرها وبهذه الطريقة، تجنبت الدولة غياب التفاوتات الاجتماعية بين الصفوة المتعلمة والطبقة الدنيا من غير المتعلمين، كما أسهمت رغبة المواطنين في التعلم في ترسيخ الإيمان بالتعليم، فصار من المتوقع أن يظل الفنلنديون على اطلاع دائم على مجموعة كبيرة من القضايا والاهتمامات المجتمعية،
فالتعليم و المعلم اذن هما القلب و العقل النابضين في كيان الدولة ومجتمعه فالدولة التي تريد أن تضمن لنفسها الرقي و الرفاهية و القوة عليها أن تعمل على إصلاح الحلقات المتداخلة في هذا المجال الحيوي من موارد بشرية و بنيات تحتية و كفاءات قادرة على مسايرة الإصلاح التربوي.
رغم أن السؤال الملح الذي يتبادر إلى الذهن هو هل شكلت المعرفة التربوية مادة أساسية في هذه المقاربة؟ و هل نجحنا في جلب و استقطاب الكفاءات التي تتوقف عملية نجاح هذه المقاربة على لمستها و جهودها المتميزة؟.
للأسف فإننا لم نوفق في إدراك هذا المستوى لأننا لم نرتق عمليا إلى ثقافة استغلال الكفاءات و لا زلنا رهائن ثقافة إقصاء و تهميش الكفاءات عن قصد أو عن غير قصد و هذا السلوك رغم كونه سلوكا معزولا لا يجوز تعميمه و لا تحميل الوزارة الوصية تبعاته إلا أن آثاره السلبية قد طغت على المشهد التربوي و شكلت أكبر عائق أمام تطوير المنظومة التربوية و جعلت الإصلاح التربوي مجرد عمل نظري لم يخرج بعد من التجربة النظرية إلى الممارسة العملية.
إن الإصلاح التربوي قد غرق في شكليات لا نعدها من الأولويات و ليس لها تأثير إيجابي كبير على عملية تطوير المنظومة التربوية فالإصلاح التربوي الحقيقي هو الإصلاح الذي يتجاوز الشكليات المتعلقة بالمحفظة المدرسية واللوحات الرقمية والصباغة وغيرها إلى الإشكاليات التربوية الحقيقية و خاصة الإشكالات المعرفية ، و أعتقد أننا لا زلنا بعيدين عن تحقيق هذه المقاصد بسبب استمرارنا في تكريس الإصلاح النظري الشكلي, لأن الإصلاح التربوي الحقيقي هو الإصلاح الذي يؤسس على تثمين العنصر المعرفي في المنظومة التربوية فمن دونه لن يتحقق شيىء و لو أنشأنا ألوفا مؤلفة من الفرق التربوية و وضعنا ما يضاهيها من المخططات التربوية و غيرها من الإشكالات المتعلقة بالمنظومة.
إن أساس تقدم الأمة المغربية العظيمة لا ولن يكون إلا عن طريق أبنائها و مؤسساتها فالأمة السائدة هي التي تستثمر في عقول بناتها وأبنائها عبر منظومة تعليمية تستجيب لتطلعات الشعب المغربي ما يجعلها تتبوأ مكانة عالية بين الأمم.
والأممَ الناهضة بسلك التعليم، والتي تمنح المعلم حقَّه، وتعترفُ له بجهوده تزيد بذلك من فعاليته ونجاعته، فبدلًا من أن يُدرِّس برتابة، تجده يبدعُ مع تلاميذه، فيعشقون مادته، ويرتبطون ويتماهون مع العلم بصفة عامة وكم نحن في حاجة إلى العناية بالمتعلمين وفهمِ سلوكاتهم بتوفير مرشدين اجتماعين لهم، يقفون عند أدقِّ تفاصيلِ حياتهم الاجتماعيةِ والنفسية ، فإذا تم التدرجُ مع نقاط التعليم نقطةً نقطة، بدايةً من المعلم إلى العملية التعليمية بحد ذاتها، ونهايةً بالتلميذ، الذي هو ثمرةُ هذه الجهود سنشهدُ استقرارًا وتصاعدًا في النتائج المُحصَّلة، وبالضرورة سيتخرجُ جيل إلى المجتمع يغيِّر فيه تغييرًا جذريًّا من حيث بعث قيمةِ العمل والعلم
وباستطاعتنا أن نقفز قفزةً هائلة نحو نظُم تستشرف المستقبل وتوفر تعليماً ذا نوعية جيدة للجميع تكون نقطة انطلاق لبلوغ أهداف التنمية المستدامة.
ولتحقيق ذلك، نحن بحاجة إلى استثمار في محو الأمية و التسريع في الرقمنة وفي البنى التحتية وتحوّل يتوجه بنا نحو تعلّم كيفية تلقي العلم، وإلى تنشيط مبادرات التعلّم مدى الحياة و علينا أيضا أن نستعين بأساليب مرنة لتقديم الخدمات التعليمية، وبتكنولوجيات رقمية ومناهج دراسية حديثة، مع العمل في الوقت نفسه على ضمان الدعم المستمر لنساء و رجال التعليم، حيث و أننا في عالم يواجه مستوياتٍ غير مقبولة من اللامساواة، نصبح بحاجة إلى التعليم الذي هو عامل التكافؤ أكثر من أي وقت مضى..
لا بد أن نتخذ خطواتٍ جريئة الآن، من أجل إنشاء نظُم تعليمية شاملة للجميع تتسم بالمرونة والجودة وتكون صالحةً للمستقبل و تتماشى و خصوصيات أمتنا المغربية العظيمة الضاربة ثقافتها في أعماق التاريخ بمختلف تلاوينها الثقافية و الإجتماعية و المجالية لأن الأخير هو السبيل إلى التنمية الذاتية وهو طريق المستقبل لمجتمعنا المغربي فهو يطلق العنان لشتى الفرص ويحدّ من أوجه اللامساواة وهو حجر الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات المستنيرة والمتسامِحة والمحرك الرئيسي للتنمية المستدامة
وهذا ما أكده التقرير العالمي لرصد التعليم حيث أكد أن للتعليم دور رئيسي في التحول المطلوب إلى مجتمعات أكثر استدامة ، بالتنسيق مع كل المبادرات ومبادرات المجتمع المدني والقطاع الخاص فالتعليم يصوغ القيم ووجهات النظر، ويساهم أيضاً في تنمية وتطوير المهارات والمفاهيم والأدوات التي يمكن أن تستخدم في خفض أو إيقاف الممارسات غير المستدامة.
ولا ينحصر دور التعليم المتعدد الأوجه في مجال الاستدامة في جانبه الإيجابي، إذ يمكن أن يعزز ممارسات غير مستدامة. ومن ذلك الاستهلاك المفرط للموارد، والإسراع في تآكل معارف السكان الأصليين وطرق عيشهم ذات الاستدامة النسبية لذلك قد يتطلب الأمر تكييف التعليم وتحويله لضمان تأثيره الإيجابي على المجتمعات و على الأمة المغربية و ثوابتها، و هذا لن يتحقق إلا بإرادة قوية من الدولة كما أكد ذالك دوركايم على دور الدولة واختصاصاتها العمل على تطوير أنظمة التعليم وذلك لتكريس الوحدة الوطنية، لأن الهدف من التربية هو خلق ذلك الشعور الوطني لدى الطفل، وبالتالي أصبح التعليم حقا مقدسا لكل مواطن، لا تتمكن أية مؤسسة سوى الدولة من ضمان وحفظ هذا الحق لكافة المواطنين بغض النظر عن اختلاف طبقاتهم ونزاعاتهم وأوضاعهم المادية، “ومهمة الدولة هذه يجب أن تنطبق على جميع مراحل التعليم والتربية، إذ عليها يقع عبء السهر والمحافظة وزيادة جميع القيم الاجتماعية التي تؤلف الإرث الاجتماعي والوطني، وليست القيم الفكرية من هذه الناحية أقل قيمة من القيم الأخرى.