لا يمكن الحديث عن التحولات الجيوسياسية التي تعيشها بلدان شمال أفريقيا، بدون الحديث عن المسألة الأمازيغية وأدوارها السياسية والثقافية بشكل متفاوت بين دول المنطقة.
فقد سجلت تقارير دولية هذه التحولات، ومنها تقارير الخارجية الأميركية التي تعنى بهذا الموضوع، وتتبع أدق تطوراته، في إطار الاهتمام الذي توليه الولايات المتحدة الأميركية، عموماً منذ سنوات، لقضايا الإثنيات والأقليات والنزاعات الدينية، في إطار ما أطلقت عليه في أدبياتها “الشرق الأوسط الكبير”.
ظهرت المسألة الأمازيغية إلى الواجهة في دولة ليبيا، بعد نهاية مرحلة العقيد القذافي، وخروجها من مرحلة الاضطهاد والقمع والحظر، حيث ارتفعت أصوات قوية مطالبة بدسترتها وإعطائها المكانة التي تستحقها في مشروع بناء الدولة الجديدة. وقد تتبعنا أنشطة وتحركات ومواقف صادرة عن المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا من قضايا تهم تهميش اللغة الأمازيغية، والمطالبة بتوزيع عادل للسلطة، وتمثيلية المكون الأمازيغي في مؤسسات الدولة.
كما ظهرت في دولة تونس بعد “ثورات الشعوب”، من خلال الدعوة إلى تأسيس حزب ذي مرجعية أمازيغية، وهو حزب حركة” أكال”، أي الأرض، والانتقال من النضال الثقافي إلى النضال السياسي، من خلال المطالبة بالاعتراف الرسمي باللغة والهوية الأمازيغيتين. وقد برزت المطالب الأمازيغية إلى الواجهة وبدأت تفرض شرعيتها ووجودها لدى الرأي العام التونسي. ولم يعد النقاش حولها محصوراً على الأوساط الثقافية النخبوية، كما لم يعد ضمن دائرة المحرمات السياسية، مما يفيد بأن تطورها في المغرب والجزائر وليبيا قد ينعكس إيجاباً، ويؤدي إلى بروز وعي سياسي بشأن المطالب الأمازيغية في بلاد تونس مهد “الربيع العربي”.
يختلف الأمر عند الحديث عن المسألة الأمازيغية في مصر، على اعتبار أن رقعة وجود الناطقين بها صغيرة جداً في بلاد معروفة بعدد وكثافة سكانها مقارنة مع الجزائر والمغرب، فهم يشكلون بذلك أقلية موجودة بواحة سيوة التي تقع بالجنوب الغربي لمصر، بالقرب من الحدود مع ليبيا.
بدورها أخذت المسألة الأمازيغية في الجزائر مساراً جديداً، بعد دسترتها كلغة وطنية سنة 2002، ثم كلغة رسمية سنة 2016، وكذا الاعتراف برأس السنة الأمازيغية عام 2019، وذلك رغم التوتر الذي يظهر في مناسبات بين السلطة المركزية والحركة الأمازيغية في مناطق منها القبايل على وجه التحديد، والذي أخذ منحى تصاعدياً مع جزء من أمازيغيي القبايل، إذْ تمّ الانتقال إلى تأسيس “حركة المطالبة بتقرير مصير القبايل” (ماك) بقيادة فرحات مهني.
في المغرب، عرفت المسألة الأمازيغية محطة متقدمة بعد الخطاب الملكي التاريخي بأجادير سنة 2001، حيث تحولت إلى ملف رسمي للدولة، وجرت دسترتها سنة 2011، ووضعت الأسس القانونية الدستورية والمؤسساتية لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفية إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وأيضاً حمايتها باعتبارها رصيداً مشتركاً لجميع المغاربة بدون استثناء.
فاللغة الأمازيغية أصبحت جزءاً من الفضاء العام، ومكوناً أساسياً للشخصية المغربية، ومحوراً في النموذج التنموي الجديد الذي اعتمده المغرب.
في هذا الإطار، كشف حدث الاحتفال برأس “السنة الأمازيغية” تجذر الثقافة الأمازيغية لدى جزء كبير من شعوب شمال أفريقيا، وارتباطهم بالأرض وتمسّكهم بالهوية الممتدة عبر التاريخ، وغير ذلك من الخصوصيات السوسيو ثقافية التي ترسخت عبر الممارسة في تاريخ المنطقة، ذلك أن الناطقين باللسان الأمازيغي، وغيرهم بالجزائر والمغرب، دأبوا على الاحتفال بهذه الذكرى كل سنة، حتى قبل أن تعترف حكومتا البلدين برأس “السنة الأمازيغية”. وقد تزايد هذا الاحتفال أكثر بهذا الحدث في العشر سنوات الأخيرة، بعد أن أضحى الإعلام العمومي يسلط الضوء على دلالات ومعاني ورمزية هذا الحدث في أبعاده الثقافية والتاريخية والاجتماعية.
برزت المسألة الأمازيغية بشمال أفريقيا بشكل ملحوظ إثر ديناميات “ثورات الشعوب”، أو ما أطلق عليه “الربيع العربي”، بعد أن كانت تعيش إنكاراً ممنهجاً منذ الاستقلال بالمغرب، نتيجة توجهات “الحركة الوطنية” التي تقاسمتها وتبنتها مع الدولة، ولم تعرف الانفراج إلا في سنوات التسعينيات من القرن الماضي. فقد انتقل النضال الأمازيغي تماشياً مع التحولات الوطنية والمتغيرات الدولية من بُعد ثقافي إلى حقوقي، ثم سياسي وحزبي، قبل أن يقع تحول في تعاطي الدولة مع المسألة الأمازيغية، وتنتقل من قضية مجتمع إلى قضية دولة، وتعرف تطورات جوهرية نعيش اليوم نتائجها في محطة تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية.
كذلك الأمر بالنسبة للجزائر، فقد عاشت المسألة الأمازيغية بدورها إنكاراً إثر الخلاف الذي عرفه حزب الشعب سنة 1949، بعد أن جرى اعتبار الأمازيغية عاملاً للتفرقة والتشتت وتقسيم الصف الوطني. لكن هذا الوضع سيعرف تغييراً عقب أحداث “الربيع الأمازيغي”، حين مُنع مولود معمري من إلقاء محاضرة حول الشعر الأمازيغي بمنطقة القبايل بجامعة تيزي وزو، وما أفرزته هذه الواقعة التاريخية من بروز وعي جديد ساهم في تطوير النضال الأمازيغي الذي توج بتحقيق مكتسبات نوعية ومهمة في محطات مختلفة.
من المؤكد أن كل الأطروحات التي كانت تنظر إلى الأمازيغية في المغرب بنظرة ترمز إلى التفرقة والانقسام قد تآكلت، بل سقطت سقوطاً مدوياً، ولم تعد قادرة على الصمود والاستمرار في ظل متغيرات وطنية ودولية ساهمت في بروز وعي جديد ينظر إليها بعين مغايرة ونظرة جديدة تعزز التماسك الاجتماعي، وترسخ الاستقرار السياسي، وتقوي الوحدة الوطنية في إطار التنوع.
إن تنامي حضور المسألة الأمازيغية في بلدان شمال أفريقيا مرتبط بإشكالية الديمقراطية والتنمية في أبعادها المختلفة السياسية واللغوية والثقافية والاجتماعية والمجالية، فلا يمكن الحديث عن الأمازيغية بدون ديمقراطية، ثم إن روح الخطاب الأمازيغي ينبني على قيم الانفتاح والنسبية والاختلاف والتعدد. بمعنى أن المدخل الأساسي لتحقيق المطالب الأمازيغية يتمثل في وجود نظام ديمقراطي حقيقي يتسع للجميع.
د مصطفى عنترة، أستاذ بالمعهد العالي للصحافة والإعلام.