أناقش في هذه الورقة مفهوم “المشترَك”، كما في: “المشترَك الوطني”، “المشترَك الجمعي”، “العيش المشترك”…، والذي بات المثقفون والسياسيون والحقوقيون المغاربة يستعملونه بشكل واسع كموضة إنشائية جديدة، للتعبير بشكل علني عن التسامح والانفتاح والحداثة وقبول الاختلاف والتعددية، وبشكل مُضمر عن إقصاء ما يُفترض أنه خارج “المشترَك”… لقد سبق للكاتب الفرنسي بول فرانسوا باولي Paul-François Paoli أن أصدر في 2018 كتابا بعنوان: “خدعة العيش المشترك” “l imposture du vivre-ensemble de A à Z”، والذي هو عبارة عن معجم بـ175 مدخلا يضم أسماء لأحداث تاريخية وأعلام جغرافية، ولكتاب ومفكرين وفلاسفة وإعلاميين وسياسيين، ولمجموعة من المفاهيم والمصطلحات…، ينتقد الكاتب، عبر كل ذلك، الاستعمالَ الواسع لمفهوم “العيش المشترك” الذي يحاول من خلال الكتاب، كما يوضّح ذلك في “التقديم”، تبيان أنه مجرد خدعة واحتيال imposture.
وإذا كانت موضوعات استعمال مصطلح “المشترَك”، كما في “العيش المشترَك”، لدى الطبقة المثقفة والسياسية الفرنسية ليست هي نفس الموضوعات التي ينصبّ عليها استعماله المغربي لدى الطبقة المثقفة والسياسية المغربية، إلا أن ما يجمع بين الاستعمالين هو وحدة وظيفته التي هي دائما التضليل والتدليس والتلبيس. ما هي مظاهر هذا التضليل والتدليس والتلبيس في استعمال مفهوم “المشترَك” من لدن المثقفين والسياسيين والحقوقيين المغاربة؟
من هذه المظاهر ارتباط استعمال هذا المفهوم بقضايا اللغة والهوية أكثر من استعماله بخصوص قضايا أخرى، فكرية وثقافية وسياسية…؟ لماذا؟ لأن خدعة التضليل والتدليس والتلبيس، في استعمال مفهوم “المشترَك”، تؤدّي وظيفتها أكثرَ وأفضل عندما يتعلق الأمر بمثل هذه القضايا اللغوية والهوياتية، التي لا تزال تشكّل، بالمغرب، الموضوع الأنسب لممارسة التضليل والتدليس والتلبيس. ولهذا يحضر مفهوم “المشترَك” بشكل متواتر ومكرور كلما تعلّق الأمر بنقاش حول الأمازيغية، مع الحضور، وبنفس الشكل المتواتر والمكرور، لنقيضه، وهو “التشظّي”، كما في “التشظّي الهوياتي”، والذي يدمن على استعماله الأستاذُ فؤاد بوعلي، رئيس “الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية بالمغرب”. “المشترَك”، الذي يعني مجموع العناصر التي يشترك فيها أبناء جهة واحدة أو مجتمع واحد، يبدو مسألة بسيطة، بل بديهية. كما أن “الاختلاف”، المتمثّل في العناصر التي تميّز جهة عن أخرى، أو مجتمعا عن آخر، كما في فنون الطبخ أو أشكال اللباس أو حفلات الزواج…، يبدو، هو كذلك، مسألة بسيطة، بل بديهية. لكن هذا “المشترًك”، البسيط والبديهي، يصبح مشكلا عندما يتعلق الأمر ليس بجهة ولا مجتمع محلي، بل بوطن ودولة، وليس بطبخ أو لباس أو حفلات، بل باللغة والهوية.
ولهذا فإن استعمال مصطلح “المشترَك” غالبا ما يكون بمناسبة نقاش حول قضايا اللغة والهوية بالنسبة للأوطان والدول، كما ذكرت، ليؤدّي وظيفته التضليلية والتدليسية والتلبيسية، كما في المثال التالي المتعلق باللغة والهوية: فبما أن الدارجة، التي تُلحق خطأ وقسرا باللغة العربية، حاضرة شفويا في المدرسة والمحكمة والإدارة وفي كل مؤسسات الدولة بالمغرب؛ وبما أن العربية حاضرة كتابيا في المدرسة والإعلام والمحكمة والإدارة وفي كل مؤسسات الدولة كذلك، فإنه ينتج عن ذلك أن العربية تشكّل “المشترَك”. أما الأمازيغية، فلأنها غائبة عن هذه الفضاءات التي تنشط فيها العربية، فإنه ينتج عن ذلك أنها لا تدخل ضمن “المشترَك”.
ولأن اللغة تشكّل الوجه الثاني للهوية، فإن “المشترَك” اللغوي للعربية يستتبع أن “المشترك” الهوياتي للمغاربة هو عربي. فالغاية من منطق “المشترَك” ترمي إلى الإقناع أن العروبة هي الهوية الجامعة و”المشترَكة” بين المغاربة، وإلى استبعاد الأمازيغية بمبرّر أنها تمثّل “التشظّي” لافتقارها إلى خاصية اللغة “الجامعة” و”المشترَكة”، مع ما يتضمّن ذلك مِن أن مَن يدافع عن الأمازيغية فهو يدافع عن “التشظّي” ويرفض “المشترَك” الجامع بين المغاربة، كما يلمّح إلى ذلك الأستاذ فؤاد بوعلي في كل كتاباته التي تتناول موضوع اللغة والهوية. فالمطلوب منك أن تهجر جنسك الأمازيغي وتتبنّى الجنس العربي وتمارس، بالتالي، الشذوذ الجنسي في شكله القومي والهوياتي، حتى تنال الاعتراف بالانتماء إلى “المشترَك”، وتُقبل كعضوٍ في نادي “العيش المشترَك”، الذي أنشأه التعريبيون الأمازيغوفوبيون، من المتياسرين والمتأسلمين. فبدون ذلك فأنت من دعاة “التشظّي” لأنك من دعاة الأمازيغية.
هكذا يؤدّي منطق “المشترَك”، كما هو مستعمل لدى المثقفين والسياسيين والحقوقيين المغاربة، إلى جعل الشذوذ الجنسي، أي الشذوذ القومي والهوياتي، سلوكا قوميا وهوياتيا سويّا باعتباره عامّا و”مشترَكا”، وجعل السلوك القومي والهوياتي السويّ خروجا شاذا عن “المشترَك” باعتباره “تشظّيا” وتفرقة. وهذا يبيّن أن “المشترَك” الحقيقي الوحيد الذي يجمع هؤلاء الشواذ، قوميا وهوياتيا، هو مناوأتهم للأمازيغية، ودفاعهم عن انتحال الصفة وتزوير الهوية الجماعية للمغاربة.
ولا نحتاج إلى كثير من التحليل والتفكيك لخطاب “المشترَك” لندرك، عندما يخصّ اللغة والهوية، أنه يمثّل صيغة جديدة لأكذوبة “الظهير البربري”. فبما أن هذه الأكذوبة أصبحت اليوم معروفة ومفضوحة، فإن استحضارها لا يكون بشكل مباشر وصريح، بل بشكل ضمني وخفي يقتصر على استحضار آثارها المعبَّر عنها بــ”التشظّي”، بدل استعمال لفظ “التفرقة” التي هي موضوع “اللطيف” الكاذب.
ويشكّل مفهوم “تامغرابيت”، الذي بات، هو أيضا، موضة إنشائية عند المثقفين والسياسيين، وحتى النشطاء الأمازيغيين (انظر موضوع: «بين “تامازيغت” و”تامغرابيت”» بالنقر هنا)، عنصرا رئيسيا في خطاب هذا “المشترَك” المزعوم. وخطورة هذه “التامغرابيت” على الأمازيغية ليست في كونها مظهرا لهذا “المشترَك” الذي يُستعمل ضدها، بل لأنها تجعل من الدارجة اللغة الوحيدة “المشترَكة” بين المغاربة، مما يعني إقصاء واضحا للأمازيغية. نعم، كان من الممكن، بل من المطلوب، اعتبار الدارجة “مشترَكا” لغويا وهوياتيا للمغاربة لو كان هناك وعي لدى هؤلاء، تنشره وترسّخه المدرسة والإعلام والمثقفون والسياسيون…، بأن دارجتهم هي منتوج أمازيغي يعبّر، بالتالي، عن الهوية الأمازيغية، الجماعية والمشترَكة للمغاربة. أما وأن هذه الجهات، من مدرسة وإعلام ومثقفين وسياسيين…، تنشر وترسّخ أن الدارجة لغة عربية جاء بها العرب الذين لا زال أحفادهم يستعملونها بالمغرب، فذلك ما يجعل من “تامغرابيت”، التي تتأسّس في شرعيتها ومشروعيتها على هذ الدارجة، سلاحا لقتل الأمازيغية وتدميرها.
فما يريد أصحابُ خطاب “المشترَك” الإقناعَ به وفرْضَه هو أن تعيش، ولو بالافتراء والتزوير، بالعربية وبالعروبة ومن أجلهما، لـ”تشترك”، زيفا وانتحالا، مع العرب الحقيقيين في “مشتركهم” الحقيقي. وهو ما يبيّن أن الهدف من استعمال مفهوم “المشترَك” لا يخصّ فقط ما “يشترك” فيه المغاربة في ما بينهم، بل ما “يشتركون” فيه مع العرب الحقيقيين، أي عرب الشرق الأوسط. فما يهمّ إذن أصحابَ “المشترَك” ليس هو ما يجمع بين المغاربة كعرب مزوّرين، بل ما يجمعهم بالعرب الحقيقيين.
هكذا يُستعمل مفهوم “المشترَك” للتضليل والتدليس والتلبيس بخصوص قضية اللغة والهوية، بهدف إقصاء الأمازيغية وربطها بـ التشظّي” المناقض “للمشترَك”، كما شرحت. ووجه التضليل والتدليس والتلبيس يظهر في إبراز “المشترَك”، المرتبط بالعربية والعروبة، كما لو كان معطى طبيعيا وأصيلا، مع أن ما جعل العربية لغة “مشترَكة”، إلى جانب ما تحمله من إيديولوجية هوياتية عروبية، هو فرْضها المدرسي على جميع المغاربة. ومن هذه الناحية، فهي ليست “مشترَكا” طبيعيا وأصيلا، بل “مشترَكا” مصنوعا خلقته المدرسة خلقا. وهو ما يمكن معه لأية لغة أجنبية تُدرّس لجميع المغاربة أن تكون لغة “مشترَكة”، تفرضها عليهم المدرسةُ كما فرضت عليهم العربية. أما الأمازيغية، ورغم أنها مقصاة من المدرسة والمحكمة والإدارة ومؤسسات الدولة حتى لا تكون لغة “مشترَكة”، فإنها، مع ذلك، تمثّل “المشترَك” الحقيقي والطبيعي والأصيل للمغاربة، لأنهم يشتركون جميعا في الانتماء إليها، سواء كانوا متعلمين أو أميين، عكس العربية التي هي “مشترَك” فقط بالنسبة لمن تعلّموها ودرسوها في المدرسة.
هذه هي الحقيقة التي يريد المستعملون لخدعة “المشترَك” حجبَها وإخفاءَها. لكن عندما نبدّد هذا الخداع الذي يضلّلنا به خطاب “المشترَك”، وتنكشف لنا الحقيقة ساطعة وناصعة، لا تشوبها خدعة ولا تدليس ولا تلبيس، سيتأكّد لنا أن المحاربين “للمشترَك” الحقيقي الذي يجمع بين المغاربة هم المناوئون للأمازيغية، التي تمثّل هذا “المشترَك” الحقيقي الذي هو الهوية الأمازيغية، الجماعية والمشتركة للمغاربة، وسيتّضح لنا أن الداعين إلى “التشظّي” هم الداعون إلى “الاشتراك” مع الغير الأجنبي في “مشترَكه” الخاص به، وذلك بخلق “مشترَك” مصطنع وغير طبيعي ولا أصيل على حساب “المشترَك” المغربي الحقيقي، الطبيعي والأصيل. هؤلاء هم المدافعون عن “التشظّي” لأنهم يدافعون عن هويات أجنبية قاتلة للهوية الجامعة للمغاربة، وهي أمازيغيتهم التي تشكّل “مشترَكهم” الجماعي، الحقيقي والأصيل لأن الجميع يشتركون في الانتماء إليها، موطنا وتاريخيا وثقافة، وحتى نسبا. من هنا ندرك أن الأمازيغية هي جدار الحماية ضد “التشظّي”، وهي الضامن “للمشترَك” الجماعي الحقيقي للمغاربة.
أما ما يروّج له أصحاب خطاب “المشترَك” من احترام للتعددية والتنوع في إطار وحدة “مشترَكهم” العروبي الجامع، حسب ادعائهم، فهو، كعادتهم، قلب للحقيقة بجعل الفرع أصلا والتابع متبوعا. فالعنصر العربي الذي جعلوا منه “مشترَكا” لغوبا وهوياتيا مزعوما، هو مجرد رافد ضمن الروافد المتعدّدة التي تغني الوحدة التي تمثّلها الأمازيغية، دون أن تكون بديلا عنها وتحلّ محلّها. فالمغاربة يبقوْن أمازيغيين في هويتهم الجماعية دون أن ينفي ذلك ممارستَهم لتعدّد ثقافي ولغوي، كما هو شأن كل لشعوب التي حافظت على وحدة هويتها الأصلية مع إغنائها بتعدد ثقافي ولغوي. وهذا ما سبق أن أكد عليه الخطاب الملكي ليوم تاسع مارس 2011، الذي جاء فيه: «ومن هذا المنطلق المرجعي الثابت، قررنا إجراء تعديل دستوري شامل، يستند على سبعة مرتكزات أساسية: أولا، التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة، الغنية بتنوع روافدها، وفي صلبها الأمازيغية، كرصيد لجميع المغاربة». فأول المرتكزات التي دعا الملك إلى مراعاتها في إعداد الدستور الجديد هي التعددية التي تقوم على نواة الأمازيغية كصُلْب لهذه التعدّدية باعتبار الأمازيغية رصيدا مشتركا لجميع المغاربة، أي “كمشترَك” جماعي لهم، عكس ما يذهب إليه مستعملو خدعة “المشترَك” الذين يريدون أن يكون هذا “المشترَك” عروبيا. فالأمازيغية تشكّل الأصل، والنواة والصُّلْب، كما جاء في الخطاب الملكي.
أما ما عدا ذلك من عناصر أخرى، ثقافية ولغوية وهوياتية فرعية، فهي روافد تُثري هذا الأصل وتقوّيه وترسّخه. هذا ما كان ينبغي أن يتضمّنه الدستور وينصّ عليه، تطبيقا للتوجيهات الملكية كما جاءت في خطاب 9 مارس 2011. لكن للأسف ستتدخّل جهات معادية للأمازيغية (حزبان معروفان)، وتضغط على لجنة إعداد مشروع الدستور حتى لا تحتلّ الأمازيغية مكانتها في هذا الدستور كصُلب وركيزة للهوية المغربية بصفتها “مشترَكا” لجميع المعاربة، كما جاء في الخطاب الملكي. فاكتفى الدستور بترسيم الفكرة العامّية الخاطئة حول الهوية المتعددة، دون أن يدرك محرروه أنهم بذلك ينفون عن المغاربة أن تكون لهم هوية واحدة مشترَكة خاصة بهم، كما لو أنهم شعب بلا أصل ولا منبِت.