في 25 سبتمبر 2022، رحلت عنا المرأة العظيمة عائشة الشنّا. عندما نعرف الأعمال الجليلة والاستثنائية التي قامت بها، سنعرف أن ما أنجزته هذه المرأة العظيمة هو شيء فريد يدخل في باب المعجزات بالنظر إلى المحيط المثبّط والعدائي، المناوئ والرافض لمشروعها ومبادراتها. فالعناية من طرف امرأة بأمهات عازبات أنجبن اولادا خارج الزواج الشرعي، واحتضان أطفال يُعتبرون “أولاد الحرام”، متخلّى عنهم لأنهم وُلدوا خارج علاقات “الحلال”، وفي ثمانينيات القرن الماضي حيث بدأت الرياح “الشرقية” تهبّ، وبمباركة من الحكام، على المغرب كإعصار أهوج، وداخل مجتمع يعيش على الطهرانية الزائفة والتديّن الشكلي الكاذب، هو شيء لا يُصدّق، لأنه صادم وصاعق، وخارج المألوف والمعروف. كان ذلك، حتى إذا صُدّق بأنه ممكن الوقوع، يُعتبر نشرا للفاحشة، وتشجيعا على الحرام، ودفاعا عن الدعارة، وتطبيعا مع العهر والفجور…، كما كانت أقلام وألسنة السوء تتهم بذلك عائشة العظيمة. من كان سيصمد، ومهما أُوتي من إرادة وعزيمة، ويواصل مشروعه أمام هذه التهم الفتّاكة التي تفوق دلالتُها الدينية والأخلاقية والاجتماعية دلالتَها الجنائية، مما يجعل مفعولها التحريضي أشدّ وأقوى؟ وحدها عائشة العظيمة استطاعت أن تصمد وتواصل الطريق، مقاومة ومكافحة إلى أن تغلّبت على العراقيل والصعاب ونالت الاعتراف الدولي والوطني.
أكبر من “تيريزا”:
الكثيرون يسمونها، اعترافا بتضحياتها وأعمالها النبيلة، “الأمَّ تيريزا” المغربية، قياسا لها على “تيريزا” (mère Teresa 1910 – 1997) الهندية (أصلها ألباني) التي عُرفت، هي أيضا، بتضحياتها وأعمالها النبيلة. لكن أرى أن هذا القياس يُجحف في حق عائشة العظيمة. لماذا؟ لأنه يتغاضى عن الفرق الكبير بين عائشة العظيمة و”تيريزا” الهندية، وهو الفرق الذي يجعل تضحيات الأولى تتجاوز تضحيات الثانية بمسافة كبيرة يصبح معها قياس إحداهما على الأخرى غير مستساغ، إذ لا قياس مع وجود الفارق. ما هو هذا الفارق؟ إذا كان ما يجمع بين عائشة العظيمة والأم “تيريزا” هو تكريس حياتهما لمساعدة الضعفاء والمعوزين والمرضى واليتامى…، فإن ما يفرّق بينهما هو أن كل ما قامت به الأم “تيريزا” هي أعمال يوصي بها الدين، وتدعو إليها الأخلاق، ويحضّ عليها المجتمع، ويجيزها القانون، في حين أن ما قامت به عائشة العظيمة هي أعمال تُعتبر متعارضة مع أحكام الدين، ترفضها الأخلاق، ويستنكرها المجمع، ولا يعترف بها القانون. فالأم “تيريزا” وجدت كل السند والتشجيع في الدين والأخلاق والمجتمع والقانون، وحتى السلطة السياسية. أما أعمال عائشة العظيمة فقد لقيت كل الاعتراض والخذلان من الدين والأخلاق والمجتمع والقانون… الأم “تيريزا” كانت تشتغل في إطار “الحلال” في الوقت الذي كان يُنظر فيه إلى عائشة العظيمة على أنها تشتغل في “الحرام”. المصدر الأول لأعمال الإحسان التي مارستها الأم “تيريزا” هو الدين. والمصدر الأول للعراقيل التي وقفت في طريق ممارسة عائشة العظيمة لأعمال الإحسان هو الدين. هذه الفروق تجعل تضحيات الأولى أسهل بكثير من تضحيات الثانية، بل تبدو عملا عاديا مقارنة مع العمل الاستثنائي لعائشة العظيمة، والذي قد يُعتبر معجزة إذا استحضرنا الصعاب الشديدة والمعوّقات الكثيرة التي اشتغلت فيها عائشة العظيمة عكس الظروف المريحة التي اشتغلت فيها الأم “تيريزا”.
قدّيسة بالإنسان وليس بالدين:
والكثيرون يسمونها، أيضا، “القدّيسة”، إشارة إلى سموّ روحها ورِفعة أخلاقها وصدق إخلاصها ونقاء سريرتها… لكن، مرة أخرى، تكون التسمية غير مطابقة للمسمّى. لماذا؟ لأن “القداسة”، كمفهوم ديني مسيحي، متفرّعة عن الدين ومرتبطة به. فصفة “القدّيس”، التي يقابلها في الثقافة الإسلامية مفهوم “الولي الصالح”، ينالها من خدم الله وتقرّب إليه، بزهده وتقواه وإخلاصه ونقاء سريرته…، أكثر مما يفعله عامة المؤمنين. هكذا تكون “القداسة” مستمدة، في المسيحية ـ وكذلك الولاية الصالحة في الإسلام ـ من الدين، بل من الله. أما عائشة العظيمة، فتستمد “قداستها”، إذا جاز أن نسميها “قدّيسة”، ليس من الدين ومن الله، بل من الإنسان (النساء والأطفال) الذي كرّست حياتها لخدمته والاعتناء به والحدب عليه. فهي “قدّيسة”، ليس بالزهد في الدنيا أو تقوى زائدة أو تهجّد مُرهق، بل بالتخفيف من المعاناة الحسية والنفسية لأم عازبة لفظها المجتمع، وعاقبها القانون (جنحة الفساد الناتج عنه إلى حمل)، وشجبت فعلَها الأخلاقُ، وباحتضان طفل لا يعترف به المجتمع، ويرفض القانون انتسابه إلى أبيه البيولوجي، وغالبا ما لا يكون له من يعيله وينفق عليه. فهي بهذا لسلوك الإنساني، السامي النبيل، تكون أكثر وأكبر من قدّيسة وولية صالحة.
بين العدل والإنصاف:
هي أكثر وأكبر من ذلك، لأنها، بسلوكها ذلك، تحدّت العدالة الظالمة لتمارس الإنصاف équité العادل. بما أن العدالة هي تطبيق للقانون، فإن هذه العدالة قد تكون ظالمة عندما يكون القانون الذي يطبّقه القاضي ظالما. فالقانون الذي يمنع انتساب الولد إلى أبيه البيولوجي هو قانون ظالم يغمط حق هذا الولد في النسب والنفقة والإرث. والقانون الذي لا يعترف بالحمل خارج مؤسسة الزواج يظلم تلك الأم العازبة التي تُحرم من نفقة المتسبّب في حملها تجاه ولده، والذي يُعفى من أية مسؤولية تخصّ هذا الولد الذي هو من صلبه.. ولا يتعلّق الأمر بقصور في القانون فحسب، بل يتعدّاه إلى إنكار حقوق تبدو طبيعية كحق الولد في إنفاق أبيه البيولوجي عليه والانتساب إليه ووراثتهما فعلته عائشة العظيمة يدخل في تدارك هذا القصور وتصحيح هذا الإنكار إعمالا، ليس للعدالة التي تقوم على تطبيق القانون القاصر والمنكِر لحق من الحقوق، بل لمبدأ الإنصاف الذي ليس هو العدالة التي تستند إلى قواعد عامة، بل هو العدالة التي تراعي ظروف كل واقعة كحالة خاصة عندما يكون ذلك ضوريا لحماية حقوق لا يحميها القانون، دون أن يعني ذلك الاستغناء نهائيا عن عدالة القانون لاستبدالها بعدالة الإنصاف الخاصة. ذلك أن القانون يتضمّن، في حالة تطبيقه الصارم، إنكارا لحقوق لا تشملها قواعده العامة، مثل عدم الاعتراف بانتساب الولد إلى أبيه البيولوجي عندما ينجبه خارج العلاقة الزوجية. وقد كان فقهاء القانون الروماني يكرّرون عبارة منسوبة إلى “سيشيرون” Cicéron تقول:«summum jus, summa injuria» ، وتعني أن التطبيق الصارم للقانون يؤدّي إلى الظلم. فعائشة العظيمة، رغم أنها ربما لم تكن تعرف الفرق بين العدل والإنصاف، إلا أن حسّها الإنساني قادها إلى إعمال الإنصاف وتصحيح أخطاء ونواقص القانون عندما يكون غامطا للحق ومنكرا له، كما في الحالات التي اشتغلت عليها، والتي تخص الأم العازمة وولدها المزداد خارج علاقة الزوجية.
إعفاء الرجل من المسؤولية هو ما يشجع ممارسة الفساد:
يبرّر “الطهرانيون” الذين يرفضون تغيير القوانين لتتضمّن الاعتراف بانتساب الولد، المزداد خارج مؤسسة الزواج، إلى أبيه البيولوجي مع إلزام هذا الأخير بالإنفاق عليه كما لو كان ولده “الشرعي”، بأن مثل هذا التغيير سيشجّع الفساد بانتشار العلاقات الجنسية خارج الزواج. أولا، لو كان عدم الاعتراف بانتساب الولد إلى أبيه البيولوجي المزداد خارج العلاقة الشرعية يقلّل من نسبة العلاقات الجنسية خارج الزواج، لكان هذا الرفض مقبولا، بل ومطلوبا. لكن الحقيقة، والتي يعرفها جيدا هؤلاء “الطهرانيون”، هو أن هذا القانون، “الطهراني”، الذي يضر بمصلحة الطفل ومصلحة أمه العازبة، لا مفعول له إطلاقا على تراجع نسبة العلاقات الجنسية خارج الزواج. ثانيا، إلا أن الأمرّ والأدهى هو أن هذا القانون هو الذي قد يشجّع الرجال على مثل هذه العلاقات خارج الزواج، لأنه يضمن لهم الإفلات من أية مسؤولية مدنية بخصوص الولد الذي هو من صلبهم، عكس ما لو كانوا يعلمون أنهم سيكونون ملزمين بالإنفاق على هذا الولد طيلة 18 سنة كاملة باعتباره ابنا لهم. لقد استوردنا مفهوم “الأم العازبة” من الغرب، لكن رفضنا نتائجه التي هي جزء منه، والمتمثّلة في المسؤولية الكاملة للأب البيولوجي عن الولد الذي أنجبه خارج العلاقة الزوجية.
امرأة بمليون رجل:
لقد دافعت عائشة العظيمة، كما لم يفعل مثلها أحد قبلها، عن حق المرأة والطفل، وبشكل عملي ومنتج قد يُخجل الذين يتحدّثون صباح مساء عن حقوق المرأة وحقوق الطفل، لكنهم يلزمون الصمت إزاء الأم العازبة كأنها ليست امرأة، وإزاء الطفل المزداد خارج عقد الزواج كأنه ليس طفلا. وهنا تجدر الإشارة إلى أن مسألة المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، والتي تطالب بها جمعيات حقوقية ونسائية، هي مشكل أقل وأخفّ من مشكل الأمهات العازبات وأولادهن. ورغم ذلك فالاهتمام يتركّز على مسألة الإرث ويتجاهل مشكل الأمهات العازبات، الذي لم يكن يثيره المدافعون عن حقوق الإنسان إلا بعد أن كشفت عائشة العظيمة عن حجمه الكبير والحقيقي كواقع معطى لا يمكن حجبه بالغربال “الطهراني” الزائف. وقد تعرّضت، بسبب رعايتها للأمهات العازبات وللأطفال المتخلّى عنهم، لتهجّم شرس من طرف “الطهرانيين” المزوّرين، متهمين لها برعاية الدعارة والفساد، كأن علاقات الفساد وإنجاب أطفال خارج مؤسسة الزواج لم يظهرا إلا بعد أن بدأت عائشة العظيمة تهتم بظاهرة الأمهات العازبات. لكن التاريخ سيسجّل أنها كانت أشرف، بملايين المرات، من هؤلاء “الطهرانيين” الذين كانوا يُشيعون عنها افتراءً بأنها تطعن في شرف المغرب والمغاربة. وعندما نتأمل العمل الفريد الذي قامت به، وهي المرأة البسيطة، التي لا تحمل شهادة جامعية، والتي ليست فاعلة سياسية معروفة، ولا برلمانية منتخبة، ولا هي مقرّبة من أصحاب النفوذ من أهل الحل والعقد…، سنخلص إلى أنها امرأة تساوي ملايين الرجال، وخصوصا هؤلاء الرجال الذين يمكنهم أن يغيّروا بسهولة، بحكم وظائفهم ومناصبهم ومواقعهم السياسية، التشريعات ويضعوا قوانين جديدة منصفة للمرأة بصفة عامة، وللأم العازبة وأولادها بصفة خاصة. إنها مفخرة للمغرب ولنسائه ورجاله.