في قلب ماسة، بين أزقة ضيقة حملت صدى الضحكات الأولى وأحلام الطفولة، نشأنا جميعا، اشتركنا نحن والعربي مموش، نفس المنظومة، واستنشقنا معا نفس الهواء الماسي الجميل. مموش ذلك الكاتب والباحث الذي حمل همّ الهوية الأمازيغية منذ نعومة أظافره. لم يكن مجرّد طفل يركض بين الدروب، بل كان عقلًا متقدًا يسائل ذاته والوجود من حوله، فوجد في الحرف صوتًا، وفي النضال مسارًا.
كما كان شارل بودلير شاعرًا متمرّدًا، ينسج كلماته بين جمال متوحّش وتأملات سوداء، كان العربي مموش مفكرًا متوقدًا، يعيد صياغة الأسئلة الوجودية في سياق أمازيغي متجذّر. التقى الرجلان – رغم الفوارق الزمنية والمكانية – في نقطة واحدة: الكلمة كحقل معركة، والأدب كمقاومة ضد النسيان.
منذ شبابه، انخرط مموش في الحركة الأمازيغية، ولم يكن مجرّد متلقٍّ، بل كان فاعلًا يسعى إلى تثبيت هوية أمازيغية صلبة في وجه التيارات الجارفة. كان يوزع منشورات، يقرأ الجرائد الأمازيغية بشغف، وينهل من محاضرات كبار المفكرين مثل حسن أيد بلقاسم ومحمد شفيق وإبراهيم أخياط، وكأنّه صوفيّ يبحث عن الحقيقة في نصوصه المقدّسة.
في الجامعة، بلغ نضجه الفكري أوجه، وأصبح من روّاد الحركة الثقافية الأمازيغية بأكادير، حين قرر ذلك الجيل الجديد من المناضلين والمناضلات فكّ ارتباط التنظيم الأمازيغي عن الطلبة القاعديين في الموسم الجامعي 95-96. كان ذلك منعطفًا حاسمًا، تمامًا كما مثّلت “أزهار الشر” منعطفًا في الأدب الفرنسي، عندما فجّر بودلير جمالية الشعر من قيد المثالية إلى بؤرة الواقع المظلم.
لم يكن العربي مموش شاعرًا بمعنى الكلمة للشاعر رغم أن له اسهامات شعرية رصينة وجدية، لكن فرنسيته التي تنهل من أمازيغيته، حملت ذلك العمق الغنائي والتمرد اللغوي الذي تميّز به عبد اللطيف اللعبي ومحمد خير الدين، وأيضًا رئيس السنغال الأول ليوبولد سيدار سنغور، الذي جعل من اللغة الفرنسية جسراً لهوية إفريقية فخورة بجذورها. بعد تخرجه، إنخرط مموش في التعليم الثانوي، ليصبح أستاذًا للفرنسية، ينقل شغفه بالأدب والفكر إلى أجيال جديدة، تمامًا كما نقل بودلير روح التمرد إلى شعراء الحداثة.
العربي مموش ليس مجرّد باحث أو كاتب، بل هو ذاكرة ناطقة، وسارد يحفر في الذاكرة الجماعية للايمازيغن، ليجعل من الحرف حصنًا ضد التلاشي. وكما قال بودلير: “إن الجمال دائمًا غامض. لا نعرف أبدًا لماذا هو جميل”، فربما تكمن عظمة العربي مموش في هذا الغموض الذي يجعل منه مفكرًا يعبر الزمن، دون أن تفقد كلماته بريقها.
ترجمات رائدة وجسر بين الثقافات
لم يكتف العربي مموش بالبحث والتدريس، بل حمل على عاتقه مسؤولية نقل الأدب العالمي إلى الأمازيغية، إيمانًا منه بأن الترجمة ليست مجرد نقل للمعاني، بل هي إعادة بعث للنصوص بروح جديدة. من بين الأعمال التي ترجمها إلى الأمازيغية:
- “الطاعون” (تاسركا) لألبير كامو
- “الأمير الصغير” (امنوكال امزيان) لأنطوان دو سانت إكزوبيري
- ديوان شعري يعكس روحه الأدبية المتعددة.
إضافة إلى العديد من الترجمات الأخرى التي ساهمت في إثراء المكتبة الأمازيغية، وربط القراء الأمازيغ بالأدب العالمي من خلال لغتهم الأم.
جائزة المغرب للكتاب: تتويج لمسيرة حافلة
اعترافًا بمجهوداته العلمية والفكرية، تُوج العربي مموش هذه السنة بـ جائزة المغرب للكتاب في فئة “جائزة الدراسات في مجال الثقافة الأمازيغية”، عن كتابه «La phrase complexe en amazighe, les circonstancielles»، الصادر عن المركز الأمازيغي للترجمة والتكوين بأكادير. يسلط هذا العمل الضوء على البنية المعقدة للجملة في الأمازيغية، وهو إضافة نوعية للبحث اللساني في المغرب، تعكس التزامه العميق بتطوير اللغة الأمازيغية أكاديميًا.
العربي مموش.. ذاكرة ناطقة وهوية متجددة
مموش، اختصارا. لم يمن يوما مجرد كاتب أو باحث، بل هو ذاكرة أمازيغية تنطق بالصمت، وسارد يحفر في الذاكرة الجماعية لشعبه، قليل الكلام ظكثير العمل، جدي، يجعل من الحرف حصنًا ضد التلاشي والدوابان. في زمن يبحث فيه الأدب عن هوية، كان مموش بوصلة فكرية تربط الماضي بالحاضر، وتعيد تشكيل هوية الكلمة، تمامًا كما فعل بودلير مع الشعر الفرنسي.
وكما قال بودلير: “إن الجمال دائمًا غامض. لا نعرف أبدًا لماذا هو جميل”، فربما تكمن عظمة العربي مموش في هذا الغموض الذي يجعل منه مفكرًا يعبر الزمن، دون أن تفقد كلماته بريقها.
شكرا لك صديقي العربي مموش، شكرا لك لأنك فتحت عيني على حقيقة هويتي الامازيغية التاريخية والجميلة، ذات صيف جميل من سنة 1994 في ملعب الدوار.
هذا بورتريه بمناسبة تتويجه بجائزة المغرب للكتاب
من إقتراح الحسين والزيت – صحفي وباحث في التاريخ