إن توظيف الرموز البصرية في الأعمال الدرامية ليس مجرد زخرفة شكلية، بل هو أداة فاعلة في بناء المعنى واستدعاء موروث ثقافي وروحي يتجاوز حدود السرد التقليدي. في مسلسل ” إليس ن ووشن”، تتجلى إحدى أكثر الصور الرمزية تعقيدا وإيحاء من خلال مشهد تظهر فيه نجمة ثمانية محاطة بدائرة، تتوسطها نار متقدة.
هذه الصورة، التي تبدو للوهلة الأولى مجرد عنصر زخرفي، تخفي وراءها مستويات متعددة من التأويل تتداخل فيها المعتقدات الكونية، الأنثروبولوجيا، والفكر الصوفي الأمازيغي. إن هذا التوظيف البصري العميق لا يعكس فقط رمزية النجمة الثمانية بوصفها عنصرا هندسيا متكررا في الثقافة الأمازيغية، بل يمنحها بعدا أكثر ديناميكية وحيوية عبر تفاعلها مع النار، مما يفتح المجال أمام قراءة المشهد باعتباره تجسيدا لبصيرة كونية، وعينا ترى ما وراء المرئي.
لطالما احتلت النجمة الثمانية مكانة بارزة في الرموز الهندسية المقدسة، حيث تتجلى في مختلف الحضارات باعتبارها تجسيدًا للتوازن والتناغم الكوني. في السياق الأمازيغي، ارتبطت النجمة بتصورات روحية عميقة، إذ نجدها حاضرة في الزخارف المعمارية، الحلي، الوشم، والمنسوجات، حيث تعكس رؤية للعالم تقوم على الانسجام بين القوى المتقابلة، بين الأرض والسماء، بين المرئي والخفي. كونها تتشكل من تداخل مربعين، فهي ترمز إلى اتحاد العوالم: المادي والروحي، البشري والإلهي، الزمني واللامحدود. وعند إحاطتها بدائرة، تصبح النجمة جزءا من دورة كونية مغلقة، لا بداية لها ولا نهاية، مما يمنحها بعدا صوفيا يتجاوز الحيز المكاني ويمتد إلى أفق وجودي أكثر تعقيدا.
يمثل وجود النار في قلب النجمة الثمانية عنصرا حاسما في بنية المشهد الرمزي. فالنار في المخيال الأمازيغي ليست مجرد أداة للحرق أو التدمير، بل هي رمز للتحول والتجدد. نجدها حاضرة في الطقوس الدينية والاحتفالات الفلكية، حيث تستخدم كوسيلة للتطهير وكجسر بين العوالم، بين الحاضر والماضي، بين الإنسان وقوى الطبيعة.و في هذا السياق، يمكن قراءة النار في إحدى مشاهد مسلسل إليس ن ووشن على أنها تمثل جوهر الرؤية، عينا تتقد من الداخل، تكشف المستور، وتضيء المسارات المخفية. هي ليست مجرد نار مادية، بل نار رمزية، تحيل إلى الإدراك والبصيرة، إلى ذاك النور الداخلي الذي يوجه الإنسان في بحثه عن الحقيقة.
حين تتوسط النار نجمة ثمانية محاطة بدائرة، يصبح المشهد محاكاة رمزية لفكرة عين الكون، تلك العين التي لا تغفل عن تفاصيل الوجود، والتي ترى ما لا يرى. العين في الموروث الأمازيغي ليست مجرد عضو للرؤية، بل هي رمز للحكمة، للحماية، وللقيادة الروحية. من هذا المنظور، تصبح النجمة الثمانية دائرة بؤرية تحتضن شعلة الإدراك، وكأنها تنقل المشاهد إلى فضاء من المعرفة المطلقة، حيث لا يبقى شيء خفيا، وحيث يتلاشى الفاصل بين الواقع والميتافيزيقا.
قد يكون هذا المشهد، من زاوية أخرى، استعادة لفكرة “النقطة النورانية”، تلك اللحظة التي يلتقي فيها الإنسان بالحقيقة العظمى، حيث تتحول النار إلى مرآة تعكس جوهر الأشياء دون زيف أو تحريف. إنها لحظة الكشف الروحي، حيث تتلاشى الحدود بين الذات والكون، بين الداخل والخارج، بين الإنسان والقوى التي تتحكم في مصيره. بهذا المعنى، يتحول المشهد من مجرد عنصر درامي إلى تجربة تأملية عميقة، تفتح المجال أمام المشاهد لقراءة العمل من زاوية فلسفية تتجاوز الحدث الظاهر إلى تأمل أعمق في طبيعة المعرفة والوجود.
لا يمكن إغفال البعد القدسي الذي يضفيه هذا المشهد على رمزيته. فالنجمة الثمانية، في علاقتها بالنار، تذكرنا بالأيقونات الروحية التي وجدت عبر مختلف الحضارات، حيث ارتبطت النار بالحضور الإلهي، بالوحي، وباللحظة التي يلتقي فيها الإنسان بالمقدس. هذا ما نجده في الديانات القديمة، حيث كانت النار تمثل الحضور الإلهي في المعابد، وكما هو الحال في بعض المعتقدات الأمازيغية التي ترى في النار وسيطا بين العالمين. في هذا السياق، يصبح المشهد أشبه بطقس كوني، حيث تتحول النجمة إلى نافذة تطل على عوالم ما وراء الطبيعة، وحيث تصبح النار نقطة التقاء بين الأزلي والزمني، بين الثابت والمتحول.
إن توظيف النجمة الثمانية والنار في مسلسل إليس ن ووشن يعكس قدرة الدراما على إعادة إحياء الرموز التراثية في سياقات معاصرة، حيث لا تقتصر هذه العناصر على كونها مجرد أنماط زخرفية، بل تتحول إلى أدوات سيميائية قادرة على خلق فضاءات تأويلية متعددة. فالمشهد لا يقدم النجمة كرمز جامد، بل يمنحها حياة عبر تفاعلها مع عنصر النار، مما يجعلها رمزا ديناميكيا تتغير دلالاته بتغير السياق. بهذا، يصبح المشهد مرآة تعكس عمق الفكر الأمازيغي في رؤيته للكون، للحياة، وللأبعاد الخفية التي تسكن الوجود.
إن اجتماع النجمة الثمانية، الدائرة، والنار في إحدى مشاهد المسلسل ليس مجرد اختيار جمالي، بل هو بناء بصري محكم يستدعي تأويلات متعددة تتراوح بين الفلسفي، الأنثروبولوجي، والصوفي. فهو يطرح سؤالا جوهريا حول طبيعة الرؤية: هل نرى الأشياء على حقيقتها، أم أن هناك مستويات أعمق من الإدراك تتجاوز أعيننا المجردة؟ هل النار التي تتوسط النجمة هي رمز للبصيرة، أم أنها تحيل إلى لحظة احتراق الذات في سعيها نحو المطلق؟ في النهاية، يظل هذا المشهد أحد أكثر اللحظات تعقيدا في العمل الدرامي، حيث يتحول من مجرد مشهد مرئي إلى نافذة تفتح على أسئلة الوجود والوعي والمعرفة، في تجسيد سينمائي لفكرة العين الكونية التي لا تنطفئ رؤيتها أبدا.
* طالبة باحثة بسلك الدكتوراه تخصص الأنثروبولوجية.
* باحثة في التراث والثقافة الأمازيغية.