حديث عن الكذب والتمويه في زمن الحجر الصحي
Le camouflage et le mensonge
وجدت نفسي هذه الأيام أستمتع بتقاسم جزء من أفكاري وقناعاتي مع صديقاتي وأصدقائي عبر هذا الفضاء الافتراضي، و هذا الأمر يعد من إيجابيات الحجر الصحيle confinement الذي فرض علينا قوانينه وبدل بها نمط عيشنا، وأنزل بدله أنماطا تكييفية أخرى. في ظل هذا الوضع الطارئ استوقفتني العديد من المواقف الاجتماعية، التي تخفي وراءها أبعادا نفسية مرتبطة بنمط التنشئة والتربية، تستحق منا التحليل والدراسة. في هذه التدوينة التأملية سأحاول التطرق لظاهرتي الكذب والتمويه من خلال ثلاثة مواقف تتبعناها جميعا، أو بتعبير أدق كنا جزءا منها بدرجات متفاوتة ……
لكن قبل الدخول في التفاصيل، ومن باب التأطير المنهجي، لابد من التحديد المفهومي للكذب والتمويه قبل ربطهما بالمواقف موضوع النقاش. فغير خاف على أحد، الكذب le mensonge والتمويه le camouflage يشتركان في هدف واحد، متمثل في إخفاء الحقيقة، لكنهما يفترقان في المنهجية المحققة للهدف. فالأول، يلغي الحقيقة بإحلال كذبة محلها، وهو بذلك عملية سهلة وواضحة تحتاج فقط “لحقيقة مصطنعة” ومتلق مهيئ لاستقبالها وتقبلها. بينما الثاني، أي التمويه، وهو المنتشر بكثرة خلال هذه الأيام، فلا يلغي الحقيقة ولا ينفيها لأنها ببساطة لا تقبل النفي، فقرار الحجر الصحي المتخذ من قبل الدولة المغربية مثلا هو حقيقة لا يقدر أحد أن ينفيها، لكن يمكن أن يقوم بتأويل غاياتها وما رافقها من أحداث وقرارات بشكل يناسب توجهه الإيديولوجي. انطلاقا من هذا المثال الذي قدمته، نصل إلى أن التمويه le camouflage هو إظهار الحقيقة على شكل حقيقة أخرى تدعـــــي أنها “الحقيقة الصحيحة “، وهو بذلك عكس الكذب عملية معقدة وصعبة تتطلب امتلاك مؤهلات خاصة ……
موضوع هذه التدوينة ليس وليد اليوم، ففي العلوم الاجتماعية خاصة عند هابرماس ، وفي التحليل النفسي عند فرويــــد يلعب التمويه دورا مركزيا في عملية التفكيك الإيديـــــولوجي للفرد (لمزيد من الاطلاع في هذا الإطار، ينصح بقراءة كتاب محمد عباس نور الدين: التمويه في المجتمع العربي السلطوي / قراءة نفسية اجتماعية للعلاقة بالذات والآخر…إصدار المركز الثقافي العربــــي)
بعد هذه التوطئة المقتضبة حول الموضوع، سأقوم ببسط المواقف الاجتماعية سالفة الذكر، محاولا إبراز الخطاب التمويهي المصاحب لكل موقف على حدة، مع التلميح أحيانا أو التصريح للخلفية الإيديولوجية أو الفكرية المنتجة والواقفة خلفه.
الموقف الاجتماعي الأول:
بمجرد إعلان الدولة المغربية عن الحجر الصحـــي، وما رافقه من إجراءات أمنية احترازية برزت العديد من الحالات التي تستدعي التوقف والتحليل، من قبيل تقاسم فيديوهات لنساء ورجال السلطة وهم يقومون بواجبهم الوطنـــي المتمثل في السهر على حسن تطبيق القانون. في هذا السياق، ظهرت بعض التجاوزات سواء من طرف بعض المواطنات والمواطنين، أو من طرف بعض رجال السلطة. وإزاء هذا الأمر، برز توجه معين متمثل في تبرير العنف الرمزي أو الجسدي بداعي ان الظرفية استثنائية. هذا التوجه في نظري، يبرز بجلاء التطبيع الذي يعيشه بعض الأفراد مع العنف من منطلق نوع التنشئة والتربية السائدة في البنيات الاجتماعية (الأسرة، المدرسة، الشارع…). الدولة المغربية أوجدت لنفسها ترسانة قانونية محصنة تمنع اللجوء للعنف تحت أي ظرف أو تحت أي مسمى، لهذا فالذي ينوه بأي سلوك عنيف فهو يقوم بتمويه ذاته أولا وتمويه الآخر ثانيا وفق آلية سيكولوجية مبرمجة سلفا. هذا النوع من الخطاب السلبي يجب ان يكون ضمن أولويات الاستهداف خلال مرحلة ما بعد كوفيد 19، فدولة الحق والقانون لن تبنى بمواطــــن سلبي يمجد السلوكات الخاطئة، بل بمواطن مسؤول يحترم قوانين الدولة ويطبقها بالحرف، في وعي تام تجاه ثنائية الحق والواجب……هذا رهان أول لما بعد كوفيد 19
الموقف الاجتماعي الثاني:
مع دخــــول الحجر الصحي حيز التطبيق، برزت أصوات بغطاء ديني تحاول مقاربة موضوع الوباء العالمي من منطق إيديولــــوجي صرف، عاملة بمنطوق الآية القرآنية “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”، وبالتالــــي فهي تدعو ضمنيا إلى العصيان بقصد أو بدون قصد تجاه قرارات الدولة، ومن النتائج السلبية لمثل هذا الخطاب التمويهي خروج عشرات من المواطنين بشكل كاميكزي في إحدى مدن الشمال….سلوك بدائــــي من شانه أن يتسبب في كوارث لا قدر الله. وفي ظل هذا التوجه دائما، انتشر خطاب بين البعض مفاده أن هذا الفيروس جند من جنود الله، ناسيا او متناسيا بأن الله عزوجـــل أخبرنا بأنه لا يعلم أحد جنوده إلا هو، فمن أخبر إذن هؤلاء بأن هذا الفيروس من جند الله؟ وماذا لو تمكن العلم من إيجاد دواء يقضي عليه، فهل يصح أن نقول بمنطقهم طبعا بأن العلم انتصر على جند الله…..حاشا لله. مثل هذا الخطاب التمويهي، الذي يهدف إلى صناعة مزيد من الأتباع بمنطق الشيخ والمريد يجب أن يواجه بخطاب عقلانــــي يربط الأسباب بالمسببات، ويعلـــي من قيمة العقل …….هذا رهان ثان لما بعد كوفيد 19
الموقف الاجتماعي الثالث:
بديهي جدا أن تبرز مبادرات تضامنية عفوية، ذات عمق إنساني نبيل تعكس حقيقة الإنسان المغربي المتضامن مع أخيه الإنسان، والمحب للخير لوطنه ولإخوانه، إبان هذه الأزمة الصحية غير المسبوقة – علــى الأقل في العقود الأخيرة-. وبديهي جدا أن تظهر استثناءات، فبدونها لن يكون للمبادرات طعم، وبالفعل ظهرت كائنات سياسية بخطابات تمويهية وبسلوكات لا حضارية . فمن جهة، وبمجرد الإعلان عن إنشاء صندوق خاص بمحاربة الوباء بقرار ملكي حكيم، لبت شخصيات وطنية، معروفة بولائها لهذا الوطـــن، النداء وتبرعت بمبالغ مالية ضخمة ….فهيجت بفعلها النبيل هذا جحافل من الأصوات النشاز التي تروج لخطاب تمويهي مفاده أن الأمـــر لا يعدو أن يكون إرجاع الحقوق لأهلها….هكذا بالمطلق وبدون شرح مقنع ! …..وفي المقابل، من جهة أخرى حاول البعض في القرى وفي الحواضر الركوب على الوضع الاستثنائي لبعض الأسر المعوزة للاستغلال السياسوي الضيق….وبئس من يستغل مثل هذه اللحظات لأغراض انتخابوبة وسياسوية مقيتة، فظهرت مقولة ” صورونــــي أنا أتصدق” في احتقار سافر للكرامة الإنسانية…..لكن ولله الحمد، نمتلك دولة قوية لن تترك المجال لمثل هذه الطفيليات التي تقتات على المآسي….هذا كله لن ينسينا صدق الكثير من المبادرات التي مرت في صمت وبدون ضجيج، وفي احترام تام لكرامة الإنسان. لأصحابها أقول، أنتم مستقبل هذا الوطن….والباقي مجرد تقليد….هذا رهان ثالث لما بعد كوفيد 19
القاسم المشترك بين المواقف الثلاث هو الاشتراك في الخطاب التمويهي بأساليب ومنهجيات مختلفة، لكن بهدف وحيد وأوحد…. حجب الحقيقة بحقيقة مصطنعة تدعي أنها هي الحقيقة الحقيقية….
رسالة اليوم….بشعب واع ومثقف ويقظ لا يمكــــن لأحد أن يمرر خطاباته التمويهية، والحقيقة ستظهر عاجلا أم آجلا…..وإلى رسالة أخــــرى بحول الله.
سوس ماسة
15/04/2020